مدريد !! أو « مجريط » بلسان عرب الأندلس سابقاً، هي الصفحة الأولى من كتاب هذه الرحلة التي سنرسي خلالها بأربع عواصم من عواصم أروبا، القارة العجوز، أو القارة المظلومة !! هكذا أرى وصفها أنا، فلا شيء هنا يدل على الشيخوخة سوى وجوه الشيوخ الإسبان العنصريين لدرجة يصعب تصورها، أما غير ذلك فكل شيء هنا حديث، منظم، متقن، و متطور.. حتى خصاص الشباب الذي تعاني منه أروبا تجاوزوه باستقطاب عُمّالنا المقيمين بالخارج، فالعرب دون شعوب العالم قادرون على إنجاب خمسة إلى تسعة أبناء في أروبا كمُعدّل.. بين ألف الأمل و و خاء خيبة الأمل وجدت نفسي شارداً في بلاد أوروبا، تائهاً بين ألف الإنبهار، و ألف الإعتزاز بعروبةٍ مقتولةٍ بين ركام الكرم الحاتمي وخمول الشباب العربي، صرت مضطراً لفتح نوافذ العقل المغلقة بإحكام من طرف العادات و التقاليد و الأساطير، صرتُ ملزماً بترتيب ركام الذاكرة المحشوّ بالأفكار و العراقيل و الخلفيات المجتمعية، أعماق قلوبنا و عقولنا هي أيضاً في حاجة إلى ترتيب و تنظيف و نفض غبار الجمود عنها حين نخرج من دائرتنا الضيقة التي تحاصر طموحنا و تفاصيل حياتنا. لا زلت أتذكّر أول نظرة ألقيتها على مدريد حين نزلنا من الحافلة التي أقلّتنا من مطار باراخاس الضخم إلى المدينة، نزلنا بساحة cibles التي يتوسّطها نصبٌ لإمرأةٍ تركب عربة يجرّها أسدين، هنا حيث يحتفل عادة لاعبو ريال مدريد بالكؤوس و البطولات، لنتوجّه بعدها للفندق الذي حجزناه لمدة خمس ليالٍ بقلب العاصمة الإسبانية على بعد دقيقتين من القصر الملكي placio real و ساحة باب الشمس puerta del sol و على بعد أقل من دقيقة من ساحة plaza mayor، نزولنا بقلب العاصمة لم يكن صدفة، بل جاء لتفادي المصاريف الإضافية للمواصلات و التقرّب أكثر من نمط عيش الإسبان بعاصمتهم. بساحة puerta del sol يُفرغ شباب العاصمة و شيوخهم الفقراء طاقاتهم و إبداعاتهم و فنّهم، فتجد المجموعات الموسيقية و الألعاب السحرية و الرياضيين و الرسّامين كل يقدّم أطباقه الإبداعية فوق طاولة هان الساحة المليئة بالزوّار من كل بقاع العالم، يتسوَّلون ما ستجود به أيدي السيّاح الذين يتميّزون بالبخل في غالب الأحيان، فيرمي لهم هؤلاء بعض القطع النقدية التي قد لا تكفيهم حتى لثمن تذكرة المواصلات العامّة هنا. بساحة باب الشمس إلتقينا شابّاً فلسطينياً عرض علينا مطعماً للأكل الحلال قريب من شارع grand via أحد أشهر شوارع مدريد، صاحب المطعم رجل لبناني في الأربعينيات من عمره، محلّه مزوّد بالشيشة و بعض قنينات الخمر، آثار ذلك ريبتنا، تأكدنا منه قبل طلب الأكل من أن اللحم و الدجاج الموجود عنده « حلال »، أكّد لنا ذلك و أقسم على ذلك، لكننا حين تذوّقنا الدجاج فلا شيء يدلّ على أنه حلال، دجاج مخنوق يُباع على أنه حلال.