الفساد ينطلق أحيانا من ضعف السلطة السياسية أو نتيجة لإغفال تطبيق القوانين وضعف الرقابة الإدارية لأجهزة الدولة.. حيث تعرف منظمة الشفافية العالمية الفساد بأنه استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة ..أما البنك الدولي فيعرف الفساد بأنه إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص ..ذلك أن الفساد يحدث عادة عندما يقوم موضف بقبول أو طلب ابتزاز أو رشوة نظير تسهيل عقد أو إجراء طرح منافسة عامة ..كما يتم عندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو مستثمرين خواص تقديم رشاوى للإستفادة من سياسات أو إجراء ات عامة للتغلب على منافسين وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين الصارمة.. ومثال ذلك ما يحدث مع مقاولات البناء الكبرى التي تستفيد من أراضي الملك العام بأثمنة منخفضة .. وما يحدث في المجال الإجتماعي حيث تتحول الهبات الخيرية لسلع تباع في الأسواق ..وما إلى ذلك من خروقات قد أُشير إليها بإسهاب في مقال سابق بعنوان "كوابح الإصلاح الإقتصادي والسياسي في المغرب"..أما الفساد الكبير فهو مرتبط بالصفقات الكبرى في المقاولات وتجارة السلاح والحصول على توكيلات الشركات العالمية ..كما أن عمليات الخصخصة التي جرت في كثير من بلدان العالم أدت إلى ظهور نوع جديد من الفساد ناتج عن بيع أملاك الدولة بواسطة المسؤولين الحكوميين لتحقيق المصالح الشخصية.. فكيف يمكن الحديث عن التنمية في ظل هذا الفساد القائم !! إن الحكم على مدى قوة أو ضعف الدولة ينوضح بالأساس في قدر الغموض والشفافية التي يحيط بمعاملات الدولة الإقتصادية وكذلك في مدى اتباع الإجراء ات والنظم الموضوعة في التعيينات وفي مدى قصور أجهزة الرقابة أو فاعليتها .. فكلما كانت التعيينات والوضائف تعتمد بصورة أقل على الجدارة والكفاءة انخفضت شفافية تشغيل الأفراد وترقياتهم ..وهذا ما تعرفه مؤسسات القطاع الخاص المبني على العلاقات الزبونية الفيودالية ..ذلك أن أغلب المقاولات في المغرب هي مقاولات عائلية تسود فيها الزبونية القائمة على القرابة ..وتعرف نظاما إقطاعيا حيث بالإمكان طرد المشغِّل للمشغَّل بدون متابعة قضائية.. فضلا عن مؤسسات القطاع العام وما تعرفه من خروقات خصوصا على مستوى الجهاز الأمني المخزني وما يسري فيه من ترسيمات وتعيينات غير استحقاقية تتدخل فيها المنفعة الشخصية على حساب الكفاءة المهنية.. وذلك ينعكس على مستوى الأداء الحكومي ويؤدي إلى تراجع الإنتاجية .. أضف إلى ذلك البحث عن عائدات مالية سهلة عن طريق الإعتماد على الريع بدلا من الإتجاه نحو العمل المنتج وأخذ المبادرة في الإستثمار في مشاريع ناجعة ترفع من نسبة النمو الإقتصادي وتشغل اليد العاملة المؤهلة المنتظرة الجالسة في كراسي الإحتياط .. وكما أن الفساد يقلل من الكفاءة والجودة الناتجة عن غياب النوعية والحكامة يضعف بذلك من الكفاءة والإنتاجية والتنافسية فيتضرر معدل النمو الإقتصادي.. ويرتفع مستوى التضخم الذي يزيد من عجز الميزان التجاري ..وذلك يفضي إلى انخفاض الإيرادات العامة التي تعتمدها سياسة الدولة المالية كمؤشر رئيسي تنبني عليه التوقعات القادمة لرسم السنة المالية الموالية .. وفي ظل تزايد مستويات العجز في الميزانية العامة تتنامى نفقات الإستثمار والتسيير ويتزايد الضغط على نفقات الخدمات الإجتماعية التي تهدف إلى إعانة الطبقات المتضررة والمسحوقة وما أغلبها في المجتمعات النامية .."التعويض عن فقدان الشغل" .."صندوق الأرامل" .."الدعم الموجه للجمعيات" ..وبالأخص ما يعرف في المغرب بصندوق المقاصّة أي "صندوق الدعم الإجتماعي" الذي يدعم المواد الأولية الضرورية الحيوية الإستهلاك ..وما ارتفاع أثمان بعض المنتجات الإستهلاكية وتحرير أسعار النفط إلا دليل على عجز ميزان هذا الصندوق .. ولعل الفساد السياسي هو الأخطر حيث يتخذ شكل تجارة النفوذ التي تقوم على منح أفضليات وامتيازات لأشخاص لا يستحقونها وذلك يخل بدعائم الديموقراطية التي من شأنها تخليق الحياة العامة وتكريس العدالة الإجتماعية ...وذلك يزيد من حدة الفقر والتهميش التي تعرفها طبقات واسعة من المجتمع ..هذه الفئات التي تتأثر بنتائج الفساد لا تجد حلا بديلا عن إعادة إنتاجه في صراع من أجل البقاء وتحصيل المطلوب عن طريق خلق ميكانيزمات جديدة للإحتيال والتدليس والرشوة بهدف الوصول إلى مطامحها التي هُمّشت وأقصيت بفضلها .. وفي غياب سياسات فعالة وناجعة فضلا عن وجود مواطنة حقة وضمير إنساني يقظ ..يقف الفساد حاجزا منيعا ضد مشاريع التنمية فيعيد إنتاج نفسه في دائرة مغلقة مُبْعدا بذلك كل البعد عن مصاف التقدم المنشود التي تأمله المجتمعات ..ولعل قارة إفريقيا خير شاهد على ذلك ..فرغم أنها من أغنى القارات نظرا لمواردها الطبيعية إلا أنها تعرف انتشارا واسعا للفساد مما ينعكس على سكانها الذين يعيشون حالة من الفقر المدقع..