في خضم المعاناة المعيشة شرقا وغربا، و شيوع المآسي اليومية المتواصلة التي لا طاقة للإنسانية بتحملها ولا قبل للطفولة المضطهدة بإدراكها أو فهمها نتيجة الذهنية الاستبدادية والنفسية العدوانية التي باتت غالبة ولقيت "فجأة" من الدعم والمساندة ما جعلها مهيمنة مستحكمة على جزء غير يسير من العالم، وفي ظل الإصرار على استبعاد الحكمة عن الساحة وإلغاء منطق العقل والقيم والاستخفاف بالعبقرية الإنسانية في الوقت الذي يتم فيه تعطيل القوانين أو تأويلها لتأخذ منحى جاهليا، يبقى الإنسان خاضعا لتيار أو مواليا لفئة أو رهيناً لطائفة أو في أحسن الأحوال حبيسا لحيرة قد لا يتخلص منها، وقد يتخلص منها لاحقا لينتهي خاضعا أو مواليا أو رهينة.. ! هذه نظرة عامة من خلال الإنسان ومن خلال رأي الإنسان حوله على وجه الشمولية، لكنها تظل قياسا – إن شئنا القول – على مفارقات وتقاطعات جهوية وإقليمية و حتى وطنية، لينتهي الأمر بالكائن البشري رقما ليس إلا، قد يكون ضحية وقد يكون جلادا ! والجلاد تختلف طبيعته من منطقة لأخرى حسب الإمكانيات المتاحة (...) وحسب الظروف مثلما تختلف طبيعة الضحية أيضا، فهناك بعض المتمكنين بمناطق آمنة حقيقة، لكن - مع شديد الأسف - لهم حظهم مع ذلك في الاستبداد و نصيبهم من النفسية النرجسية، يمارسون بالفعل ما تيسر لهم (...) من ثقافة العدوان وحب الانتقام والتلذذ بالمس بالسلامة المعنوية للغير والمعاملة القاسية المهينة الحاطة بالكرامة، يتيسر لهم ذلك وأكثر بعيداً عن الرصد وعن الأضواء الكاشفة، وعن كل "فضول" متتبع..، بينما تجدهم يتظاهرون بالتشبث بالقيم والنصوص والثوابت وهم في الأصل منها أبعد كل البعد ! والغريب في نفسية هؤلاء العدوانيين "بالفطرة" أنهم يُنَظّرون لمبادئ قيمية تارة، ويدافعون "بشراسة" عن نصوص منزَّلةٍ تارة، ويرافعون "بحزم" عن ضوابط مسطرة تارة أخرى، لكن الواقع مؤسف محير بالنظر لما يأتون من خروقات وخوارق تدمي القلب.. ! فكيف لذواتهم أن تستقيم ؟ ولئن كان هذا واقعا مرئيا حقيقة، فإنه من جانب آخر قياس صغير تافه على ما يتتبع المرء في أطراف شاسعة موزعة عبر العالم بشكل أفظع يحتار له العقل ويندى له الجبين، لكن "معظم النار من مستصغر الشرر" كما قيل، فأين نحن إذن من أداة النص وأداة الثابت وأداة الضابط..؟ أين نحن من الأداة المعيار في ضبط الانضباط فينا ؟ فإذا كانت الشخصية المستقيمة المتزنة تدعو إلى الاستبشار بتبوء صاحبها المنصب السامي في السياسة أو في التدبير الاقتصادي أو الإداري أو غير ذلك، باعتبار أن الإيمان والالتزام بروح النصوص والثوابت هو المعيار الأساس والأول للثقة ولتولي منصب المسؤولية، فإن الضرورة تقتضي وضع مساطر صارمة ومحكمة لقياس المستوى وتحديد نسبة الانضباط. إن الالتزام الشخصي بالقيم المرتبطة بالذات، ومن ثم الالتزام بالضرورة بالنصوص المتصلة، والثوابت المرتبطة بالوطنية كفيل بأن يضعنا أمام المسؤولية موضع الحرف بالحركة المناسبة، أيا كان الحرف، وكذلك مسؤولية الشأن العام، محليا كانت أم مركزيا، وارتباطها بالشخص لابد من وضعها مُلازمة لمعيار الذات من خلال أداة السيرة، خُلُقاً و أدباً ومعرفةً والتزاماً، إذ لا يكفي وضع الجميع سواسية أمام القانون نظرياً بينما الواقع يضع فئة من "البيض" والفئة الأخرى من "السود" ( !)، ثم إن حسن اختيار المسؤول وفق قواعد ثابتة وملزمة يعد إقراراً بالقوانين المسطرة التي لم تعد حكرا في الدراسة بالجامعات والمدارس العليا الموازية وحتى خارجها على "نخب" معينة كما كان الشأن في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي، بل باتت في متناول "السود" و "البيض" على حد سواء، ولا شك أن "السود" يمثلون الأغلبية، والخطأ بات اليوم يسمى فضيحة، والفضيحة هي العورة حين تكشف للأغلبية وهي وقود الفتنة... إن وضع المعايير والوقوف عندها، كقاعدة أساسية للتعيين أو التقييم يسهل المأمورية ساعة الحساب، ويلزم المستهدف بالانضباط لتستشري بالتالي قاعدة الانضباط، ولا شك أن هذا سيساهم في إشاعة التخليق في المجتمع بشكل تلقائي وسلس لينخرط الجميع في مسلسل متواصل من الاجتهاد في العطاء والإبداع والإيجابية خدمة للتنمية المجتمعية في فضاء تسوده فضائل السلم والأمن والتعاون بدلا من هاجس انعدام الثقة وتصيد الأخطاء والتشنج والعداء.. فالتطرف ! وطالما أن الجِدَّ لدى رجالات الدولة يتمثل - في ما نحسب - في العض على القانون والحذر من الحياد عنه، وطالما أن عين الصواب ومنتهى الحكمة لدى علماء الشرع يجتمعان قطعا في ما جاء به الوحي وتنزل به الكتاب وترجمته السنة النبوية الشريفة، وطالما أن الأديب والفنان يطمئنان الاطمئنان كله إلى جمال الكلمة وروعة التعبير وعذوبة اللحن وصدق اللمسة، فإن المنطق الحق يجعل معيار الاستقامة في الأداة الثابتة المعتمدة كثابت لدى صاحبها في تقويم الذات لا الالتفات عنها كأنها تجارة تُعتمد وقت الحاجة وحسب، لبلوغ أهداف ومرامي معينة من إثراء أو سلطة أو شهرة .. ! بيد أن ما نشهده في كثير من الحالات هنا وهناك سواء لدى الساسة أو رجال الفكر أو الثقافة الواقفين منهم على منصة التنظير بخاصة (...) يجسدون السفاهة ويثيرون الاشمئزاز والأسف ! ويجوز للمرء أن يرثي الواقع المرير المتمثل في هذه الازدواجية التي باتت سائدة بيننا وحيثما التفتنا على مختلف المستويات حين غلب التظاهر الكاذب بالانحياز المزعوم لمنطق الحق، بينما الحقيقة أن التشبث بالسفاهة والأنانية تظل الأبرز. هي إذن ظروف صعبة قاسية مدمية نحياها وتثقل علينا إلى حد أنها انتهت إلى إلغاء اهتمامنا بجانب الجمال فينا وفي من حولنا وإلى إلغاء ارتباطنا بالظاهرة الإيجابية وملازمتنا لها، أدبا وواقعا وعلما وحياة. وأتساءل حقيقة عن رأي القاضي بحس العدالة الذي يسكن وجدانه في هذا الذي بات مهيمنا في ذات الإنسان، والذي "أصر" على أن يفصل الرغبة الذاتية عن القيمة المزعومة المعلنة لدى السياسي والمثقف والفنان والصانع والطالب..؟ ! أتساءل عن سر هدوء – حتى لا أقول صمت – الحكماء في القضاة الملتزمين بحب منطق الحق والعدالة، وكذا الحكماء في رجال ونساء الفكر والثقافة، وفي أصحاب جمال الكلمة واللحن واللمسة والتعبير..؟ غير أن الأمل يظل – رغم كل المثبطات – معقودا على هؤلاء، صناع الحضارة وورثة حضارة الأسلاف، للتعاضد من أجل إشاعة التخليق والرفع من سمو أدب الفعل وفك القصور عن روح الإبداع الإيجابي الحي وبث الحياة الوطنية بين اللسان والضمير وإصلاح الذهنيات..، إذ لا مجال هنا للحديث عن "فرض الكفاية"، فالعمل في غياب الضمير أو انحطاط الأخلاق لا قيمة له، والأخلاق غير الملازمة للعلم ضعف وتخلف وهوان.