في مشهد صادم، يقف العالم متفرجا على أبشع إبادة جماعية تستهدف اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه. وفي حين تتسابق الدول لحصد الميداليات وتحطيم الأرقام القياسية بباريس، تتصاعد في غزة والضفة الغربية صرخات الأبرياء وتتعالى أصوات المدافع، ويتم هدر دماء البشر دون أدنى اعتبار، في مقابل حالة جماعية من تبلد المشاعر لمن يتابع أنواع القتل عبر الشاشات ومشاهد الأشلاء البشرية والخراب. ففي الوقت الذي يستمتع به متفرج بمنافسات رمي الرمح ضمن فعاليات باريس الأولمبية ، ينقله زر جهاز التحكم بالتلفاز إلى ساحة حرب بعيدة، حيث تتطاير الشظايا وتتساقط القذائف، يتابع باهتمام وهو يشاهد الرياضي يرمي الرمح، غير مدرك أن ذلك يتزامن مع سقوط ضحايا في مكان آخر. وفي روما القديمة، كان الرومان يتوافدون على المدرج الكبير ليشاهدوا المصارعين يتقاتلون حتى الموت. كانوا يهتفون ويصفقون ويراهنون على من سيعيش ومن سيموت. اليوم، وبعد ألفي عام، نستمر في مشاهدة طفل هارب من الحرب، وأم تحمل رضيعها، متسللة بين الأنقاض، محاولة النجاة من قصف عشوائي، مدركة أن طفلها إن لم تقتله قذيفة فسيموت جوعا أمام أنظارها، فهل هناك قهر أكثر مما يجري في فلسطين ؟ وفي ساحة رمي الكرة الحديدية، يتنافس الرياضيون على رمي كرة ثقيلة لأبعد مسافة ممكنة. وفي مكان آخر، يتنافس جنود الاحتلال على إطلاق القذائف واصطياد الأبرياء بالطائرات المسيرة. ولأن العالم يقف متفرجا على جرائم إسرائيل، فليس مستبعدا إضافة رياضات جديدة للألعاب الأولمبية، تحاكي واقعنا المرير، كسباق العدو 100 متر هربا من القصف، والقفز بالزانة بعد سقوط الصاروخ، ورفع الأثقال لإزاحة ركام المنازل المدمرة، والرماية على أهداف متحركة تمثل صحفيين وعاملين في المجال الإنساني. وفي عام 404 ميلادية، أوقف الإمبراطور الروماني هونوريوس مصارعات الجلادياتور، معتبرا إياها وحشية وغير إنسانية. وبعد 1620 عاما، نحن نقيم الألعاب الأولمبية احتفالا بالسلام والوحدة الإنسانية، بينما تستمر الحروب في أماكن أخرى. ولا فرق بين وحشية الأمس واليوم، كل ما في الأمر أنه يتم إخفاء وحشيتنا خلف ستار من الحضارة المزيفة المتشدقة بحقوق الإنسان والقانون الدولي، وغيرها من الشعارات الرنانة التي يتم توظيفها سياسيا لتحقيق الأطماع الاستعمارية التوسعية للدول الكبرى. لذلك لا عجب أن تنتقل الشعلة الأولمبية من عاصمة لأخرى دون أن تنطفئ نيران الحروب المشتعلة التي تكشف وحشية الإنسان وتناقضاته، وأن نتظاهر مجددا بأننا نحتفل بالسلام. لعل الشاعر الروماني جوفينال كان محقا عندما قال: "الشعب لا يطمح الآن إلا إلى شيئين: الخبز والألعاب". لنضف إليهما هاتفا موصولا بالأنترنت، فالناس أصبحوا منشغلين أكثر بمقاطع "تيكتوك" التافهة أكثر من أي اهتمامات أخرى بما في ذلك القيم الإنسانية. وعوض التفكير في سبل التضامن مع ضحايا الحروب والكوارث، وإقامة العدل الكوني، نجد أنفسنا أمام معضلة أكبر وهي استعادة آدميتنا التي تسرقها منا تطبيقات خبيثة.