بعد خطاب بروكسيل، أعلن الراحل عبد الرحمان اليوسفي موقفه من الخروج عن المنهجية الديمقراطية وما كان يسميه جيوب المقاومة، ثم أعلن اعتزاله للعمل السياسي. ومنذ تلك الخرجة في العاصمة البلجيكية، لم يتحدث المرحوم اليوسفي عن السياسة في بلده، ولم يتحدث عن القادة الجدد لحزبه ولا عن اختياراتهم، إلى أن وافته المنية رحمه الله رحمة واسعة. لكن الوزير السابق مصطفى الرميد، يبدو أنه ارتأى خيارا آخر. فبعد الإعلان عن نتائج انتخابات 8 شتنبر، أعلن الرجل استقالته من حزب العدالة والتنمية، واعتزاله للعمل السياسي ثم توارى عن الأنظار. وهو قرار شخصي لا يسعنا إلا أن نحترمه ونحترم خيارات الرجل. لكنه في الأسابيع الأخيرة بدأ يشارك في نقاشات تتعلق بمواضيع تهم تخصصه في القانون، ويعطي وجهة نظره في الترسانة القانونية التي تخص بلادنا. إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، لأن اعتزال العمل السياسي لا يعني عدم المشاركة في ورشات متعلقة بالمسار المهني لصاحبه وتجربته في الموضوع. إلا أن خرجته الأخيرة في برنامج "في ضفاف الفنجان" مع الصحافي يونس مسكين، طرحت الكثير من الأسئلة أمام كل مهتم بالشأن السياسي في البلد، رغم حديثه عن كون قراره بالاعتزال السياسي لا رجعة فيه. فإن لم تكن خرجته الأخيرة سياسية بامتياز، تحمل رسائل سياسية لأشخاص اختارهم بعناية فائقة، فما ذا ترك للنخب السياسية التي تمارس السياسية داخل أحزابها أو من مواقع أخرى؟ كثيرة هي المواقف والتعبيرات التي تناولت خرجة السيد الرميد. والضبابية التي صاحبت أسباب النزول، جعلت ردود الأفعال تبلغ مستوى من التناقض يتأرجح بين تصفية حسابات سياسية للرجل مع القادة الحاليين للحزب، ومغازلة "الدولة العميقة" حتى ظهر من يقول "إن الرجل تمخزن" ويريد إرسال رسائل لمن يهمه الأمر لمحو مواقف الرميد السابقة. طبيعي أن يركب خصوم الحزب على خرجة السيد الرميد، وأن يضعوها في خانة "وشهد شاهد من أهلها"، وهو أمر يدخل في إطار التدافع السياسي. لكن الغريب هو ما تعرض له الرجل من انتقادات تجاوزت حدود الخلاف السياسي، واستعملت قاموسا لا يمت بصلة للحوار والنقاش، قد تكون تصريحات الرميد الغريبة من بين أسبابها. بعيدا عن هذا الأسلوب الذي لا يمت لقواعد النقاش بصلة، وجب علينا طرح خرجة السيد الرميد في إطارها الصحيح، لإزالة الضبابية التي اتسمت بها تصريحاته. ينتمي الرميد لحزب سياسي جعل فكرة الإصلاح من داخل المؤسسات جوهر عمله. والفكرة قد يتراجع وهجها وتضعف قوتها لكنها لا تموت. تعرض الحزب لما تعرض إليه، تراجعت بعض القيادات، وانسحب البعض الآخر بمن فيهم الأستاذ الرميد. لكن قيادات أخرى أخذت مشعل الإصلاح وعقدت العزم على مواصلة المسير، مع توجيه بوصلة العمل نحو محاربة الفساد ومواصلة مشروع الإصلاح في ظل الاستقرار لخدمة البلاد والعباد. السيد الرميد أعلن انسحابه من الحزب وهو ما يعني نزوله من قطار الإصلاح وخدمة مصالح الوطن، لكنه في ذات الوقت، أطلق سهام التجريح في القيادة الحالية التي تقود مشعل الإصلاح، ولم يسلم حتى الحزب بحيث قال عنه "أصبح حزبا لا أعرفه". والأكثر من ذلك والأخطر في تصريحاته هو قوله "مرحلة العدالة والتنمية انتهت..."، وكأن الرجل هو من يوقع شهادة وفاة الأحزاب، وليس زعمائها والجماهير المتعاطفة معها. ولربما كان الوزير السابق يعتقد أن انسحابه من الحزب سيكون له أثر كبير، لكونه يتحدث عن نفسه كقيادي أول في الحزب، علما أن النخب السياسية المحافظة على مبادئها، لا تتحدث عن تاريخها السياسي، بل تترك للمتعاطفين والمؤرخين وللآخر عموما الحديث عن القيادي السياسي إن كان لديه ما يستحق التأريخ. لكن انسحاب الرميد من الحزب لم يكن له أي أثر، وتم في صمت يشبه انسحاب أي عضو في الحزب، وتعاملت معه القواعد الحزبية كحدث عادي يقع في جميع الأحزاب، وشرع الحزب في الصعود من جديد بجديته وعمله المتواصل. لذلك نجد الرجل يطلق مثل هذه التصريحات الخطيرة التي لا تستهدف قيادات الحزب، بل تستهدف كل منخرطي حزب العدالة والتنمية، وتستهدف الفكرة الإصلاحية التي يقوم على أساسها الحزب. كما أنه تصريح يلتقي، من حيث يدري أو لا يدري، مع دعوات حل الحزب من قبل خصومه. فهل يطمح السيد الرميد لحل حزب العدالة والتنمية بعد أن انسحب منه؟ وهل نسي أو تناسى أن الأحزاب الحقيقية لا تقوم على الأشخاص، وأن الأحزاب هي من تصنع النخب السياسية بمن فيها السيد الرميد وليس العكس. إن هذا السلوك، الذي ابتعد عنه الراحل عبد الرحمان اليوسفي بكل إخلاص ومبدئية، لا يليق بقيادة من الصف الأول. فاعتزال العمل الحزبي، هو إقرار بارتكاب أخطاء وعجز عن تنفيذ قناعات مبدئية، وعين العقل هو أن يقدم الرجل نقدا ذاتيا، ويترك الآخرين يمضون لاستكمال الطريق. لكن السيد الرميد اختار في حواره الأخير تزكية الذات وإلقاء لوم الفشل على الآخر. فهل نفهم من هذا أن الرجل لم يعد يؤمن بالفكرة الإصلاحية التي يتبناها حزب البيجيدي، وتحول من قائد في الصف الأول لأطروحة الإصلاح، إلى عدو للإصلاح ولو تطلب الأمر استعمال حبل الدولة العميقة؟ ثم إن الزعيم السياسي لا يتحدث عن إنجازاته وليس هو من يسوقها، بل يترك الآخرين تتحدث عنه، وتذكر بخصاله. فلماذا اختار السيد الرميد الحديث عن نفسه بأسلوب يفيد أنه كان ينصح والآخر يتمادى في الأخطاء؟ المتتبع الحاذق لخرجة السيد الرميد مع الصحفي يونس مسكين، يُدرك تمام الإدراك أن الرجل قد حدد بدقة متناهية أهدافه، واشتغل عليها لإيصال رسائله السياسية والحزبية، محاولا تغليفها باعتزاله السياسة، وهو ما يضعه في تناقض من الصعب فهمه. فكانت ردود الفعل القوية، التي ستجعل الرجل يعيد ترتيب أوراقه. فلا هو نجى من ضربة مطرقة خصوم الأمس وهو قيادي حزبي، ولا استفاد من حماية سندان الأصدقاء الأمس في الحزب. فتعرض لازدراء من طرف خصوم الأمس، وتلقى انتقادات بلغت درجة الشماتة من طرف رفاق الحزب الذي استقال منه. على العموم، تحدث الرجل عن قضايا كثيرة، يمكن أن نتناولها في ثلاث نقاط: النقطة الأولى تتعلق بالتاريخ السياسي للرجل. فقد تحدث بإطناب عن هذا التاريخ، وكان حريصا على أن لا يتغافل عن أي محطة من المحطات وأن لا ينسى حتى جزئيات بعض الأحداث. لكن المثير في هذا الصدد هو محاولته الدخول في ندية مع التاريخ السياسي للسيد عبد الإله بنكيران الأمين العام للبيجيدي. فزعم أن التحاقه بالحركة الإسلامية كان قبل التحاق بنكيران، وحرص على إعطاء الانطباع بأن مسؤوليته في بناء العمل الإسلامي كانت أقوى مما صنعه بنكيران. والكثير من أعضاء الحركة الإسلامية يسمعون هذا الأمر لأول مرة. لماذا البروز بهذه الندية مع عبد الإله بنكيران؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ الأمر غير مفهوم وربما له حيثيات أخرى لم تظهر بعدُ للرأي العام. هناك من يضع الأمر في خانة تصفية حسابات، وهناك من يضعها في خانة أن دور الرميد في الحركة وفي الحزب أقوى من بنكيران. لكن هناك حلقة مفقودة تجعلنا نتريث في الحكم إلى حين اكتمال الصورة. فقوة تصريحات السيد الرميد، تجعلنا نعتقد أن الأمر لن يقف عند هذا الحد خاصة بعد ردود الفعل القوية، وهو ما سيطرح في ميزان الصدق إعلان الرجل اعتزاله للسياسة. النقطة الثانية تتعلق بما وقع لحزب العدالة والتنمية بعد انتخابات 8 شتنبر. والغريب في الأمر هو أن السيد الرميد يُصنف نفسه من قيادات الصف الأول سواء في الحركة الإسلامية، أو في حزب البيجيدي، ويُعطي لنفسه دورا كبيرا وتاريخيا في هذا الصدد يفوق دور السيد بنكيران. لكنه عندما يتحدث عن انتكاسة الحزب، فهو يذكر رئيس الوزراء الأسبق عبد الإله بنكيران، ورئيس الوزراء السابق سعد الدين العثماني الذي أخذ نصيبا أوفر من الانتقاد سيكون سببا في سيل الكثير من المداد، وكأنه لا يتحمل أي مسؤولية لا عما وقع للحزب مكتفيا بالقول إنه نبه لهذا الأمر قبل سنة على الاستحقاقات الانتخابية، ولا عن أداء الحكومة علما أنه ساهم في الحكومتين اللتان قادهما الحزب الذي كان ينتمي إليه. حديث السيد الرميد في هذه النقطة، يمكن وصفه بمحاولة تبييض الوجه، مقابل إلقاء اللوم على الآخر. وهو أمر لا يستقيم بالنسبة لمسؤول حزبي تحمل المسؤولية الحكومية لولايتين. إذ لا يكفي الحديث بالقطع البين في قضايا مثل القنب الهندي فرنسة التعليم والتطبيع لكي يصدقك الناس، ويلومون رفاقك الآخرين في الحزب. النقطة الثالثة تتعلق بموقفه الجديد من الدولة. والغريب أن الرجل لم يكتف بالحديث عن الدولة، بل تحدث عن الدولة العميقة واصفا إياها بالنعمة. حين كان مصطفى الرميد في المعارضة إلى جانب الاتحاد الاشتراكي، كان هذا الأخير يصف الدولة العميقة بالحزب السري وأم الوزارات وجيوب المقاومة كما كان يقول المرحوم اليوسفي. وكانت كل سلبيات الحياة السياسية من تزوير للانتخابات في عهد الراحل ادريس البصري، وتدَخُّلٍ في استقلالية الأحزاب وخلق أحزاب لضبط الساحة السياسية وتعديل التقطيع الانتخابي للتحكم في نتائج الانتخابات ... كل تلك السلبيات كانت النخبة السياسية تعلقها على مشجب الدولة العميقة. لكن الأستاذ الرميد، بعد تجربته الحكومية، وبعد أن خبر دواليب الدولة، اتضحت لديه صورة الحكم من الداخل، وحوَّلَ اسطرلاب قناعاته 180 درجة، فأصبح يصف الدولة العميقة بالنعمة، وبطبيعة الحال كل ما تقوم به لضبط الأحزاب والساحة السياسية وخلق حزب لمواجهة حزب آخر، هو كذلك نعمة من النعم التي تنعم بها الدولة العميقة على النخب السياسية. لو قال السيد الرميد إن الملكية نعمة، لفهمنا قصده. فالحزب الذي كان ينتمي إليه السيد الرميد يؤمن إيمانا قاطعا بأن الملكية هي صمام الأمان، وهي البوصلة التي كان يشتغل على أساسها السيد بنكيران حتى أنه وقف ضد تظاهرات 20 فبراير ولم يشأ أن ينخرط فيها الحزب رغم أنه كان في المعارضة. في الوقت الذي خرج السيد الرميد في هذه التظاهرات رافعا مطلب الملكية البرلمانية التي كان وما زال يعارضها السيد عبد الإله بنكيران. فالتاريخ لا يمكن مسحه بجرة حوار في لقاء صحفي. الموقف من الملكية البرلمانية تجعلنا نميز بين الخط السياسي الثابت والمستقيم الذي يسير عليه الأستاذ بنكيران، والخط اللولبي والمتأرجح الذي ينهجه السيد الرميد. يبدوا أن الانتقال من المعارضة إلا دواليب الحكومة يؤدي إلى مسارين لا ثالث لهما: مسار الانسحاب والصمت كما فعل المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، ومسار خلط الأوراق أو "اللخبطة السياسية" على حد قول المصريين، وهو ما فعله الرميد في خرجته الأخيرة. وإن كانت خرجة إعلامية من خارج السياسة لتتحدث في السياسة. فلم يعد المتتبع للشأن السياسي في بلدنا قادرا على التفريق بين اعتزال السياسة وممارسة السياسة في القاموس الجديد للسيد الرميد.