لما انتقل المرحوم اليوسفي إلى مثواه الأخير، وظهر لي أن حدث وفاته لن يمر دون أن يتجاذبه الصراع الدائم بين الإسلاميين والتقدميين؛ فكتبت على حسابي على الفيسبوك إن اليوسفي فضل أن يظل صامتا بعد اعتزاله، ومن الخير احتراما له، ولتاريخه، وشخصه؛ أن يترك صامتا كما شاء هو لنفسه، ولا يُتخذ حدث رحيله ذريعة للإشارة بالنيابة إلى حزب أو جهة؛ فاليوسفي شهد مرحلة حكم الإسلاميين ولم يعلق عليها، ومحاولة الحديث بفمه وتقويله ما لم يقل هو في الحقيقة خيانة له حين لا يستطيع الدفاع عن نفسه. ولا أظن أن هذه الدعوة وجدت لها صدى في نفوس كثيرة أدمنت أن تجعل من كل حدث حطبا للصراع بلا توقير ولا أي اعتبار؛ فيكثر القيل والقال، والسب والشتم، والتنقيص من ذات فضلت أن تبقى صامتة حتى رحلت صامتة. ومقالي هذا أكون مضطرا لتسطيره اليوم على الأقل لنُخرج النقاش من منطق التضاد والصراع إلى منطق الموازنة حيث الاحتكام إلى المعرفي لا إلى الشعبوي؛ وإن كان المعرفي بما يقتضيه من شروط يحتاج إلى حيز أوسع من هذا. لقد كان السيد عبد الرحمان اليوسفي رئيس حكومة منتخب، وهو إلى جانب هذا يمثل الصدر بالنسبة لليسار المؤمن بالتغيير من الداخل؛ وهذا معناه أن اليوسفي ليس بالضرورة يمثل اليسار ككل، ولكنه فقط يمثل طرفا كبيرا مما ذكرنا؛ وهو ما يجعله محل انتقاد شديد بالنسبة للأطياف الأخرى من اليسار التي ترى فيه الرجل الذي جازف بتاريخ اليسار ومهد لمن معه ليتحولوا إلى حيتان تتقاسم الريع والغنيمة. وهذا ما عبر عنه اليوسفي نفسه حيث اعتبر أن دخوله العمل الحكومي كان مخاطرة فاضَل بينها وبين استمرار الدولة؛ ففضل المجازفة على إرضاء الحس الأيديولوجي وتاريخ الحزب لما كان المغرب على وشك السكتة القلبية. وقد قيل إن الحسن الثاني قال له: أعلم أنك رجل لا تجري وراء المناصب ولكن وطنك في حاجة إليك.. وفي هذه النقطة لا يختلف كثيرا السيد بنكيران عن المرحوم اليوسفي؛ فهو أيضا يمثل الجانب الأكبر من الإسلاميين المؤمنين بالعمل من الداخل؛ وقد رأى فيه مناوئوه من الإسلاميين غير المؤمنين بمؤسسات المخزن رجلا باع تاريخ نضالالحركة الإسلامية، ومهد الطريق لحيتان الحزب لتتحسن أحوالهم بالتدبير الحكومي.وبنكيران نفسه ردد ما ردده اليوسفي من أسبقية مصلحة الوطن على مصلحة تاريخ الحركة الإسلامية. وكما أن التيار الشعبي لا يستطيع ولا تتوفر فيه الشروط المعرفية للتفريق بين اليسار وتفريعاته، كما التفريق بين الإسلاميينوتفريعاتهم؛ فقد كان فشل الاتحاد فشل اليسار ككل، وكان فشل الإسلاميين يُنظر إليه فشل "اللحايا" ككل دون الحاجة للتفريق. إذ لا عجب أن يكون من أشد الناقمين على تجربة بنكيران هم الإسلاميونأنفسهم. لم يكن دخول المرحوم اليوسفي للحكومة تناوبا ديمقراطيا، بل كان تناوبا توافقيا؛ إذ أن إرادة المخزن كانت حاضرة لإنجاح هذا التوافق والدفع بالاتحاد إلى المقدمة بكل الوسائلالمشروعة وغير المشروعة؛ وإن كان الاتحاد لا يحتاج إلى دفع شديد، ولكن المخزن كان يريد لهذا التوافق أن ينجح حتى يتيسر الانتقال بالعرش بكل سلاسة، وهو ما وافق عليه اليوسفي، وهو ما يفسر العناية الشديدة للملك بالمرحوم، بل إن الملك ظل شديد الامتنان للمرحوم اليوسفي وكأنه يحس أنه خذله في شيء ما ويبحث عن أي فرصة لرد الاعتبار له . وهذا السيناريو لا يختلف فيه بنكيران وحزبه عن المرحوم وحزبه. وإن كان بنكيران دخل الحكومة مبتهجا مسرورا بها محمولا على الأكتاف فيما عد انتصارا وإنجازا، بينما اليوسفي دخلها محرجا؛ فوجه الشبه هو أن بنكيران كان صمام الأمان للملكية لما كان يصرخ بصدق أو بنفاق خوفا على الملكية؛ فلم يكن من المخزن إلا أن لعب بورقة الإسلاميين التي طالما كبحها من قبل. ووصول الإسلاميون للسلطة يختلف كثيرا بين الحزبين. والفرق شاسع بين الحزبين، فالاتحاد بدأ مسيرته مناوئا للمخزن منبتقا من نضابات أبناء الحركة الوطنية بما لها من حمولة، والمرحوم اليوسفي هو تاريخ من النضال والممانعة، بينما خرج السيد بنكيران وحزبه من جبة المخزن مع تاريخ من النضال يسير، وإن كان انتهى به الحال أقل ضررا وبؤسا مما انتهى إليه الاتحاد. و المجازفة بالقولبمخزنيةبنكيرانيحتاج إلى بعض النظر؛ وهو ما حاولت الإجابة عنه في مقال سابق موسوم ب "هل بنكيران مخزني". فإنه لئن كان المخزن يثق في الرجل ذي التاريخ اليساري ولو كان حمل في وجهه السلاح، فإنه بالمقابل لا يثق ويظل متوجسا من الرجل ذي التاريخ الإسلامي حتى ولو كان أمضى حياته مهادنا، فالمخزن يقوم بواجب الشكر للإسلاميبما قدمه له من خدمة، ويغدق عليه من المال حتى تتحسن أحواله، ويمنحه بعضا من الحصانة؛ لكنه يظل متوجسا منه لعلمه أن الإسلامي لا يؤمن جانبه سياسيا. وهذا مايخلق المفارقة ويجعل الموازنة صعبة بين أسلوب اليوسفي وفلسفة بنكيران… إن الجو العام الذي ظهر فيه المرحوم اليوسفي لا يشبه كثيرا الجو الذي ظهر فيه السيد بنكيران؛ ففي عهد اليوسفي كانت المنابر الإعلامية الحزبية ما تزال تحتفظ ببريقها وجاذبيتها؛ بل حتى التي لم تكن حزبية كانت تريد لهذه التجربة الفريدة أن تنجح؛ وهذا ما كان يمنح لليوسفي أن يعمل من غير تشويش، هذا إذا علمنا أن من يملؤون الشارع عادة بالاحتجاج كانت تروقهم تلك التجربة التي كانوا يرون فيها تتويجا للأحزاب الشعبية. وفي حالة السيد بنكيران فالأمر مختلف جدا؛ ذلك أن حزب العدالة والتنمية وصل للحكومة بضغط الشارع على المخزن بينما ظل المحتجون ناقمين عليه، وناظرين إليه سارقا لنضالاتهم التي كانوا لا يريدون لها نهاية بئيسة غير تلك؛ خاصة وأن السيد بنكيران كان أعلن العداء قبلا للمحتجين من حركة 20 فبراير. أما ما كان يتمتع به اليوسفي من الدعامة الإعلامية فقد افتقده بنكيران لما غمت المنابر المستقلة على المنابر الحزبية حتى ما عدت تسمع لها ركزا، وهذا ما جعل بنكيران يجد نفسه مضطرا للوقوف في وجه تيارات كثيرة مناوئة، بل أن يغفل عمله الحكومي للرد على خطابات المناوئين، خاصة وأننا لم نعد كما حدث مع اليوسفي حيث الصحافي وحده الذي يعبر ويمكن مصادرة صوته أو إضعافه أو إغراؤه؛ بل في عهد بنكيران شهد المغرب ثورة رقمية جعلت آلاف المواطنين قادرين على إنشاء آرائهم؛ فكثر اللغط والغلط، وتحولت خرجاتبنكيران إلى مادة للنقاش والفرجة يترقبها العدو والصديقمما أعاد الحياة للعمل السياسي. وهذا لم يكن في عهد اليوسفي الذي كان يفضل العمل على الكلام، مما يطرح سؤالا وجيها حول هل كان المغاربة يقبلون صمت المرحوم اليوسفي أم يكون المرحوم مضطرا للكلام تحت رقابة جمهور ينتبه للصغيرة والكبيرة دائم التشويش والتأويل. فالسيد بنكيران بما يتمتع به من قدرة على الخطابة يتفوق على اليوسفي في هذا الجانب. وبقدرته على الخطابة والبلاغة في معناها الحديث الحجاج؛ والمغالطة؛ والإقناع؛ استطاع أن يضمن للحزب ولاية ثانية لم تكن متوقعة بما قُدر أنه جني حزب الإسلاميين على المواطنين بل وبمقاومة شديدة ومحاولات إطاحة؛ بل إن تجربة الحزب على فشلها وما لاقته من تشويش استطاع بنكيران أن يضيف للحزب ثماني عشرة مقعدا؛ وهو ما يقرب ثلاثة أضعاف ما حصل عليه اليوسفي بعد تجربته التي اعتبرها كثيرون ناجحة. إن من بين الفروق الكبيرة والواضحة بين الرجلين؛ هو أن اليوسفي كان يتمتع بشخصية مستقلة، وكان يحظى باحترام الجميع، ودخل الحكومة محرجا وخرج منها زاهدا، بينما دخلها بنكيران راغبا فيها وخرج منها مطرودا مايزال في نفسه منها شيء، رغم علمه أن من أدخلوه أرسلوا له الإشارات بعدم رغبتهم في استمراره. إن ما يؤاخذ به المرحوم عبد الرحمان اليوسفي من خوصصة القطاعات الحيوية وتفويضها للأجانب، لا يمكن اعتباره أمرا يستحق الذكر؛ ذلك أن ما قام به المرحوم اليوسفي يدخل في باب التدبير الحكومي المشتركوالبحث عن المصلحة داخل نظام رأسمالي أفشل قوى شيوعية كبيرة وأدخلها في غياهب الظلام لعقود بالإضافة إلى المقاومة الداخلية. وهذا ينطبق حتى على إجراءات بنكيران، وإن كانت الفروق شاسعة بين نتائج تدبير بنكيران وتدبير المرحوم اليوسفي، والأرقام وحدها تكشف حجم الفارق في حجم الدين،والناتج ومعدلات النمو، والبطالة، وإن كان هذا يخضع لاعتبارات كثيرة ليس هذا مقام تفصيلها . لكن خلاصة التجربتين هي أن المرحوم اليوسفي كان قريبا من الطبقات الشعبية؛ بينما انبرى بنكيرانخصيما لها يريد أن يقيم مشروعه الإصلاحي على ظهورها في توقير شبه تام لتماسيح المال والريع؛ الذين ظل يصرخ في وجوههم ظاهرا ويسالمهم في السر. ولو أن الرجل امتد بحزمه إلى الجميع لكان الأمر مقبولا ولالتمس له كثير من القوى الشعبية عذرا؛ ولكن عيب السيد بنكيران هو انبطاحه الشديد للأخطوبوطات وناهبي المال العام؛ هو كلامه الكثير الذي أعاد به الحياة للسياسة وأقنع به كثيرا من المصوتين لكنه بالمقابل جلب عليه الكثير من العداء كان الوطن والمواطنون حطبا لها. لا يتسع الحيز لقول كل شيء في مقال يفترض فيه أن يكون قصيرا، ولكن الخلاصة هي أن محاولة الموازنة لابد أن تراعي مجموعة من الاعتبارات التي حاولت أن أقدم بعضا من ظروفها حتى نخرج من منطق التعميمات والشعبوية، وندخل بالنقاش إلى حقل المعرفة. فمخزن الأمس ليس هو مخزن اليوم، وتاريخ الاتحاد ليس هو تاريخ الإسلاميين، ورقابة إعلام الأمس والجمهور ليس هي رقابة اليوم؛ وهذا ما يفرض على الناظر التحلي بكثير من الموضوعية في النقاش والطرح.