الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وصلى الله على سيدنا محمد الداعي إلى خير الأديان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد.. سببت أحداث الحادي عشر من شتنبر سنة 2001، التي استهدفت برجي التجارة العالمية بالولاياتالمتحدةالأمريكية، تطوير خطاب الإلحاد، والذي أصبح خطابا معاديا لجميع الديانات السماوية والوضعية لا سيما الدين الإسلامي، "فلا ريب أن هذه النزعة العدائية الجديدة المتمثلة في الإلحاد الجديد هي امتداد للإلحاد الذي تطور في القرنين الثامن والتاسع عشر، فقد اتفق المؤرخون عامة على أن تنامي ظاهرة الإلحاد هو ظاهرة غربية حديثة"[1]. وقد ظهر مصطلح الإلحاد الجديد بعد هذه الأحداث وشاع بشكل كبير في الدول الأوربية والغربية، "فكان الملحدون قبل أحداث 11 شتنبر خاصة في أوربا وأمريكا منخرطون في الطعن في الأديان، والدعوة إلى استئصالها ومحوها من المجتمعات البشرية. ومما زاد من النزعات العدائية بعد هذه الأحداث لهذه الأديان، هو إعلان رئيس الولاياتالمتحدة آنذاك جورج بوش الابن الحرب الصليبية على العالم الإسلامي، فغزت أمريكاأفغانستانوالعراق، وشعر الملاحدة الجدد أن حروب الأديان ستؤدي إلى قيام حرب عالمية ثالثة تبيد الجنس البشري بأكمله، وأن الأديان أصبحت خطرا على الحضارات الإنسانية، فلا خلاص إذن منها إلا بأن يصبح الناس والعالم بلا دين"[2]. ونلاحظ أن الإلحاد الجديد انتشر بشكل كبير في العالم الغربي والعالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر شتنبر، فاستنادا لعدة دراسات إحصائية قامت بها مؤسسات دولية، " فإن انتشار الإلحاد في العالم تنامى بشكل خطير، حيث ذكرت عدة مؤسسات إحصائية في أوربا منها يوريا روميتر سنة 2005، أن (%18) من سكان أوربا ملحدين فلا يؤمنون بوجود الإله الخالق، وأن نسبة (% 27) يؤمنون بقوة روحانية، أو قوة وراء هذه الحياة"[3]، وأما امتداد الإلحاد الجديد ومقولاته في دول العالم العربي والإسلامي الذي هو موضوع دراسة هذا الكتاب، فقد أجرى المعهد الدولي غالوب سنة 2012 إحصاء لنسب الإلحاد في الدول العربية والغربية (57 دولة عربية وغربية) أبرزها[4] : – الإمارات % 4، – مصر % 4، – العراق % 15، – الأردن % 4، – لبنان % 13، – فلسطين % 5، – سوريا % 15، – السعودية % 4، كما أجرى منتدى بيو فورم الدين والحياة العامة -وهو مركز دراسات وأبحاث أمريكي متخصص بالأديان والمعتقدات- دراسة إحصائية بخصوص الإلحاد سنة 2010 في أكثر من 230 دولة، وصدرت نتائجها سنة 2012، كون أن الإلحاد الجديد أصبح التوجه الفكري الثالث في العالم بعد الدين الإسلامي والديانة المسيحية، كما كشفت الدراسة كذلك أن أقل نسبة من الملحدين موجودين في الشرق الأوسط حيث لا يزيدون على (% 2) من سكان العالم من مجموع مليار ومئة مليون ملحد في العالم[5] ، وغيرها من الدراسات الإحصائية التقديرية، فهذه الإحصائيات عن أعداد الملاحدة في دول العالم الإسلامي والعربي قد أثارت الكثير من اللغط والاستهجان بسبب عدم دقتها حسب كثير من المراقبين، وعلى كل حال فإن الإشارة إلى هذه النسب هي مؤشرات على وجود انحرافات عقدية وفكرية لدى شريحة مجتمعية خاصة في أوساط الشباب، "والحقيقة أن نسبة الملحدين في العالم عرفت زيادة بعد أحداث سنة 2011 وعرفت زيادة وارتفاعا في العالم العربي والإسلامي، وما لحقها من أزمات كبرى، أدخلت اليأس والتشاؤم على سكان هذه البلدان من العالم بالخصوص، لكن الفئة الأكثر انتشارا هي تلك التي مازالت في منطقة الوسط بحيث لم تحسم اختياراتها في ظل الحيرة الشديدة التي تعصف بها، ويعزى انتشار الإلحاد في الدول العربية والإسلامية لعدة أسباب؛ أهمها[6]: – موجة العنف الشديد التي عرفها عالمنا العربي والإسلامي في الفترة الأخيرة، خصوصا مع ظهور تيارات متطرفة باسم الإسلام، مارست أبشع الجرائم والانتهاكات باسم الدين، مما دفع كثيرا من الشباب الذين لا يميزون بين الإسلام كنصوص شرعية ومنظومة فكرية متماسكة وبين تصرفات بعض منتسبيه إلى رفض الإسلام جملة وتفصيلا وتبني بعض المقولات الإلحادية. – عجز المؤسسة الدينية التقليدية عن بلورة إجابات كافية ومتساوية مع إكراهات اللحظة التاريخية الراهنة بما يشبع النهم الفكري عند الشباب، ويحصنهم ضد الأفكار الهدامة، كما زاد الطينة بلة تماهي بعض هذه المؤسسات الدينية الرسمية مع المنظومات الاستبدادية وتبريرها لممارسات لا إنسانية ولا أخلاقية، بل تورط كثير من الدعاة والعلماء التقليديين في هذه الجرائم النكراء بالفتوى والتبرير، مما دفع الشباب إلى رفض هذه المؤسسات والدين الذي تدافع عنه. – فشل مجموعة من التيارات الإسلامية والدعاة والعلماء في الوفاء لخطابها الدعوي والسياسي وتنفيذ وعودها المعسولة بعد وصولها إلى الحكم، مما جعل كثيرين يضعون الإسلام وهذه التيارات في سلة واحدة، والحكم على الجميع بعدم الصلاحية للإجابة عن أسئلة المرحلة. ومن ثم، البحث عن إجابات فكرية جديدة والتي من بينها الإلحاد. – حالة الإحباط العامة التي مر منها كثير من الشباب بسبب الاضطرابات وعدم الاستقرار التي تعيشها منطقتنا العربية والإسلامية، خصوصا بعد إجهاض أحلامهم بعد الربيع العربي من خلال الصعوبات التي واجهتها المنطقة العربية في تحقيق تنمية مستدامة، واضطرار أغلب الشباب للهجرة إلى الخارج، مما يدفع بهم إلى قبول المقولات الإلحادية. ولا شك أن هناك أسباباً أخرى موضوعية جعلت خطاب الإلحاد الجديد ومقولاته وأفكاره تنتشر في ربوع الوطن العربي والعالم الإسلامي أدخلت شريحة كبيرة من الناس خاصة الشباب في حيرة وريب، دفعتهم إلى التخلي عن معتقداتهم بحثا عن بدائل جديدة نتيجة اضطرابات نفسية وفكرية وعقدية، فضلا عن نقمتهم للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبلدانهم التي أصبحت أرضية خصبة لنمو أفكار خطاب الإلحاد الجديد. وهكذا، لم يعد الإلحاد في عصرنا مرتبطاً بالكفر البواح أو الشرك الصريح، وإنما يأتي في صورة فلسفة في الحياة، ونمط في التفكير، حيث يرتدي لباس العلم، ويزعم الدفاع عن الحريات، ما جعله خطاباً مغرياً للشباب، فيتغلغل في أوساطهم ويمتد تأثيره إلى شرائح اجتماعية واسعة، وخاصة مع تطور وسائل الإعلام الجديد؛ حيث تدفق المعلومات المستمر والتواصل الاجتماعي العابر للثقافات جعل الكثير من المفاهيم التي لها صلة بقاموس الإلحاد، تنتشر على نطاق واسع؛ مثل تمجيد العلم على حساب الإيمان، وتبخيس أثر العبادات في سلوك المتدينين، بل وحصر الدين في مظاهر شكلية تعزله عن سياق التأثير في الواقع وفي بؤرة الحياة. إنَّ الغاية من دراسة الإلحاد، ليست هي إفحام الخصوم وإثبات كفاءة الذات في الردّ على الضالين والمنحرفين، فذلك انتصار للنفس، وباب للغرور ودخول العجب والرياء والسمعة والإحساس بالتفوق، في حين أن الغاية هي هداية الملحد، ومساعدته على تجاوز محنة الإيمان، بتوضيح الحقائق، وبالدعاء له وبالصبر عليه وبالإحسان إليه، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النّعم"[7]. ولذلك ينبغي الاهتمام أيضاً بأدب الحوار مع الآخر المخالف، مما يكون له أبلغ الأثر في التأثير على النفوس، وهو منهج الأنبياء في الحوار مع الطغاة والجبابرة، وقد أمر الله موسى عليه السلام بنهج هذا الأسلوب مع أقوى الطغاة في تاريخ البشرية، فقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[8] ، وإذا كان هذا التعامل مع الطغاة، فكيف إذا تعلّق الأمر بالتعامل مع المقربين، وهذا يعني أن علاج القضايا الإنسانية ينبغي أن يتم عبر مداخل إنسانية تركز على إصلاح العلاقات وتقريب المسافات، ثم إنّ الله خالق الإنسان يتولى توجيه عباده، فهو أعلم بالمهتدين. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل * د.علال الزهواني/ باحث في العلوم الشرعية وقضايا الاجتهاد والتجديد مختبر الحوار الحضاري والتكامل المعرفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية -جامعة محمد الأول -وجدة [1] نفسية الإلحاد، بول سي فيتز، سلسلة الترجمات 11، ترجمة: مركز دلائل، الرياض، 2013، ص 17. [2] الإلحاد للمبتدئين.. دليلك المختصر في الحوار بين الإيمان والإلحاد، هشام عزمي، دار الكاتب للنشر والتوزيع، 2015، مصر، ص15-16، بتصرف. [3] الإلحاد.. ووسائله وخطره وسبل مواجهته، صالح بن عبد العزيز بن عثمان السندي، دار اللؤلؤة، لبنان، 2013، ص 17. [4] موقع معهد غالوب الدولي، www.gallup.com [5] موقع منتدى بيو فورم للدين والحياة www.pewforum.org [6] تهافت الإلحاد المعاصر، إسماعيل بنزكري، مركز يقين للدراسات والأبحاث، ص 18-19. [7] أخرجه البخاري (3701)، ومسلم (2406) وهو جزء من حديث مطول، قاله النبي لعلي -رضي الله عنه- يوم خيبر. [8] سورة طه، الآية: 44.