تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    سلطات القنيطرة تُعلن عن قرار سار لجماهير اتحاد طنجة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إطلالات على ظاهرة الإلحاد في العالم العربي
نشر في هسبريس يوم 13 - 06 - 2021

يواجه العالم العربي من بين ما يواجهه في هذه الأيام ظاهرة الإلحاد أو الرفض للمكون الديني في الثقافة المجتمعية. وهي ظاهرة مرتبطة في بعض جوانبها بمخاض التغيير الذي يعيشه العالم عامة والعالم العربي خاصة، وتتداخل في أسبابها السيكولوجي والسوسيولوجي والديني والسياسي. وقد تضمن هذا العرض بعض الإطلالات على الظاهرة -دون نفي وجود غيرها- في أفق تعميم الاستفادة.
1- إطلالة من نافذة الواقع:
تقول بعض الدراسات إن عدد الملحدين يبلغ 850 مليونًا في العالم أي ما يعادل (14 ٪) من عدد سكان الأرض، فقد أجرت قناة "بي بي سي" استطلاعا للرأي ما بين عامي 2018 و2019 عن الملحدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، شارك فيه أكثر من 25 ألفا من سكان عشر دول، خلص إلى أن عددًا متزايدًا من العرب تحولوا إلى ملحدين. ويذكر الاستطلاع أنه منذ عام 2013، ارتفعت نسبة اللادينيين من 8% إلى 13%. وجاءت تونس في المرتبة الأولى في عدد اللادينيين بنسبة 30%. هذا وقد رصدت مجلة الملحدين العرب في عدد يونيو 2020، أن عدد مشاهدات قناة أحد الملحدين المصريين على "يوتيوب" بلغ قرابة ال 10 ملايين مشاهدة على فيديوهاته، و70 ألف مشترك. وبلغ عدد المحاضرات التي يقدمها هذا الملحد على القناة 700 محاضرة لنشر فكره بالعربية. وتلعب منصات التواصل الاجتماعي "فيسبوك، وتويتر ويوتيوب" دورًا كبيرًا في نشر الإلحاد، فقد انتشرت أخيرًا العديد من الصفحات والمنتديات بلافتة الإلحاد في مواجهة الديانات السماوية. وهي بمثابة المقاهي الحقيقية التي يجتمع فيها رواد الفكر الإلحادي والتي تمكنهم من مساندة بعضهم بعضًا والالتقاء بأشخاص يشبهونهم في الإلحاد الذي يدعوهم للابتعاد عن الدين. وقد شهدنا أخيرا تزايدا في عدد هذه الصفحات وعدد مرتاديها بشكل كبير.
2- إطلالة من نافذة التعريف :
يمكن تعريف الإلحاد كرفض لله المتجسد في الفكر واللغة، أو المتجسد في التاريخ والسلطة الدينية. وقد يكون كذلك رفض لقضية وجود الله كقضية فلسفية. وإذا نظرنا إلى الواقع في المجتمعات العربية، فإننا نجد أن ظاهرة الإلحاد لا تلتزم بالضرورة بأي تعريف، بحيث لا يُمكن حصر الإنسان ومواقفه في تعريفات مؤمن/ملحد/لا-أدري، لأن الذي يوجد في الواقع أعقد وأكثر تركيبا من اللغة والكلمات. فهناك بعض الناس الذين يضعون أنفسهم داخل حدود تلك التعريفات بوعي أو بغير وعي، وهؤلاء يحصرون أنفسهم داخل حدود موجودة سلفا قبل أن يولدوا وقبل أن يفكروا. فالمشكلة هُنا تتعلق بالصلة بين اللغة والواقع، ومحاولة استيعاب الواقع الإنساني المتحرك والمتغيِّر دوما في قوالب لغوية ثابتة جامدة. فهذه الظاهرة موجودة بكل تأكيد، وبصور متعددة ومتباينة ومختلفة. فقد تجد إنسانا يعتبر نفسه مؤمنا ولكن بعض خصومه يصفونه بالإلحاد، وقد تجد آخر يعرف نفسه كمُلحد لمجرد كونه يعيش حالة شعورية معينة. وبالطبع الانتماء للإلحاد ليس مثل الانتماء للدين، إذ لا يمكن إخراج أحد من "ملة الإلحاد" بسبب عدم تطابق مواقفه مع محددات معينة، بينما في الدين هناك شروط قد تُخرجك من المِلّة الدينية كما يحددها الدين السائد. ونفس الأمر ينطبق على الظاهرة التي يُشار إليها بالدين أو الإيمان، فهي كذلك تضم مواقف متباينة، وقد يكون الانتماء للموقف الديني مجرد تقليد مثلما أن الموقف الإلحادي قد يكون كذلك تقليدا. وقد يكون موقفا إيمانيّا أصيلا، مثلما أن الإلحاد قد يكون موقفا فلسفيا أصيلا وذلك في الحالات الأكثر جدِّية للإلحاد. وهناك حالات أخرى أقل ما يُمكن أن توصف به هو أنها غير جادة، غير ناضجة وغير عميقة.
3- إطلالة من نافذة علم النفس :
في سنة 1999 نشر عالم النفس الأمريكي البروفسور بول فيتز Paul Vitz كتابًا عنوانه "نفسية الإلحاد: إيمان فاقد الأب". ومنذ صدوره تنبه علماء النفس لدور المشاكل النفسية المترسبة في تبني الإلحاد. وتنبه فيتز لتلك الحقيقة التي عاشها هو نفسه، والتي لم ترق لرواد الإلحاد المعاصرين الذين انزعجوا كثيرا من التنبيه إلى دور المشاكل النفسية في تبني الإلحاد وسير كبار الملاحدة من رواد التنوير الأوروبي. فقد نشر عالم النفس بنيامين هلاهمي عام 2007 دراسة مهمة بعنوان "النمط النفسي للملحد" أجراها على أعضاء "الاتحاد الأمريكي للإلحاد المتقدم". وقد كشفت هذه الدراسة أن نصف الذين أنكروا وجود الإله قبل عمر العشرين من الشباب الذين أجريت عليهم الدراسة ألحدوا بسبب مشاكل نفسية تتعلق بفقد أحد الوالدين أو معاناة في الطفولة أو اختلال أسري. وبسبب القناعات العلمية الناشئة عن عدة دراسات مشابهة اعتبر كثير من الباحثين أن ما يطرحه الملاحدة كأسباب معرفية (موضوعية ومنطقية) لإلحادهم ما هي في معظم الأحيان إلا قناع تختفي وراءه العوامل النفسية والشخصية والاجتماعية. وقد لخص البروفسيور بول فيتز أسباب إلحاده شخصيا عندما كان عمره بين 18 و38 سنة بأنها كانت أسبابا سطحية، وغير منطقية، وبلا نزاهة فكرية أو أخلاقية، وهي الأسباب نفسها الشائعة -حسب دراسته- بين الملحدين من بين المثقفين والعلماء والفلاسفة المعروفين من أمثال الفيلسوف الألماني آرثر شبونهور والمؤرخ والفيلسوف البريطاني برتراند رسل والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، والأديب الفرنسي فولتير والفيلسوف الألماني فريدريك فيلهيلم نيتشه وعالم النفس سيجموند فرويد... ففي رصده وتحليله للأسباب النفسية للإلحاد طوّر البروفسور بول فيتز نظرية التقصير الأبوي (Defective father hypothesis) التي اعتمدها علماء النفس باعتبارها أحد أهم أسباب الإلحاد في العصر المعاصر. وبمقتضى هذه النظرية فإن الإنسان الغربي لاعتقاده ب "التثليث" يرى في أبيه تجسيدًا بشريًا للإله رمز القوة والسلطة والكمال، وحين يفرط هذا الأب في رعاية ابنه، أو يسيء معاملته بدنيًا أو معنويًا، أو يفقد الأب أصلًا بسبب موت أو هجر لأسرته، أو يكون جبانًا ضعيفًا، فإن الابن يخامره شك في حقيقة الإله فينكر وجوده ليريح ضميره من هذا التضارب المقيت بين كمال الإله المعتقد ونقص الأب المشاهد. ومن جهة أخرى وعلى هامش هذه النظرة كان عالم النفس البريطاني جون بولبي John Bowlby يصوغ نظرية الارتباط أو التعلق (Attachment theory) والتي تقول إن طبيعة العلاقة بين الطفل وأمه تحدد النموذج الذي ستكون عليه علاقة الطفل بالآخرين في المستقبل. ويمتد ذلك التأثر حتى يحدد علاقته بالإله في المستقبل. كلتا النظريتين يمكن تلخيصها في مفهوم واحد هو "الاختلال الأسري"، الذي ترجع أكثر أسباب إلحاد كبار الملاحدة من فلاسفة وعلماء الغرب المعاصرين. وفي نفس السياق لاحظ سيغموند فرويد صاحب نظرية الإسقاط Projection theory أن الشباب يميلون إلى فقدان الإيمان إذا عانوا من فقدان الأب أو ضعفه أو غيابه. واستنادا لهذه النظريات فيجب أن لا يغفل العامل النفسي في أية مقاربة لمعرفة أسباب ظاهرة الإلحاد.
4- إطلالة من نافذة علم الاجتماع :
حين يتخذ علم الاجتماع كمدخل لفهم الإلحاد فإنه يعني أن تؤخذ أسباب الإلحاد الاجتماعية وموقف المجتمع منه، وخلفيات الفئات الاجتماعية التي تدخل بالظاهرة، إضافة إلى نوع المجتمع الذي يظهر فيه الإلحاد في إطار نظرية اجتماعية، بعيدا عن الجانب المعرفي والفلسفي للإلحاد. والإلحاد ليس مسألة شخصية بين الفرد والله كما يبدو لبعض الملحدين، فهو يثير ردود فعل اجتماعية رافضة له في المجتمع العربي. فباعتباره موقفا وسلوك معلنا ضد الدين، يكون الإلحاد في المجتمعات ذات التضامن الآلي كالمجتمعات العربية ظاهرة مضادة للتماسك والتلاحم والتضامن الاجتماعي، لأن الدين هو المجتمع ذاته فيها، ومن هنا يكون الرفض الاجتماعي القاطع للإلحاد مفهوما، لأن الجماعة تحارب دفاعا عن كيانها من الإلحاد الذي يضرب أساس تماسكها وتعامل الملحد كمعاملة الخائن أو الغريب أو العدو، لأن المجتمع يدرك المصدر الخارجي للإلحاد، فيتهم الملحد بالمؤامرة كتحصيل حاصل. وبما أن هذه المجتمعات هي مجتمعات دينية فإن ظهور الإلحاد بها قد يبدو غير ممكن إلا كدخيل أو طارئ عليها. فالديني والدنيوي في اختلاط دائم طول الوقت. ففي النهوض والجلوس وفي الاستيقاظ والنوم وفي الدخول والخروج وفي البدء والختام وفي الفرح والحزن وفي التحية والتعازي... إلخ. تستعمل كلمة "الله" في كل هذه السلوكيات اليومية العادية. وهذا ما يؤيده تاريخ الإسلام الذي خلا تقريبا من الملحدين، وقد أدى موقف المجتمع الجزائي الصارم من الإلحاد إلى تخفي بعض الملحدين -على نذرتهم- من الإعلان عن إلحادهم لفترات من الزمن. وفي غياب دراسة سوسيولوجية لظاهرة الإلحاد الحديثة العهد لا بد من ذكر الملاحظات التالية المرتبطة بالظاهرة :
– الاستفادة الكبيرة من وسائل التواصل الافتراضي -الإنترنيت- للتعبير ونشر الأفكار الإلحادية.
– عدم اطلاع الملحدين العميق على الكتب العلمية والفلسفية والاكتفاء غالبا بالأفلام الوثائقية والروابط والمقالات على محركات البحث والمجاميع في فضاءات التواصل الاجتماعي.
– انتشار الإلحاد بين شريحة عمرية من الشباب والتي تمتاز بالتغير الفكري والسلوكي والفيزيولوجي. فبخلاف ما يقع اليوم فقد كانت المجتمعات التقليدية تقنن المراحل العمرية بشكل محكم، فيتم الانتقال بالشباب من مرحلة إلى أخرى بالترافق مع شعائر وطقوس خاصة بهذا الانتقال ممكن تسميتها ب"طقوس العبور"، تؤولهم للانتقال من "الطيش الشبابي" إلى النضج الفكري والمسؤولية الاجتماعية في ما بعد.
– تركيز الملحدين فقط على فكرة "أن الله غير موجود" وأن الآيات القرآنية تتعارض مع النظريات العلمية. دون إدراك علاقة الإلحاد بالأخلاق والعقود والجزاءات الاجتماعية والضبط الاجتماعي والعقد الاجتماعي للجماعة التي يتكفل الدين بالتوسط بينها، وتوفير المعنى والحافز الحياتي للفرد التي يوفرها الدين. إذ كيف نجد بدائل اجتماعية لكل هذه الأمور، تحظى بقبول المجتمع حين نلغي الدين؟
– فشل أحزاب الإسلام السياسي في الحكم في العديد من الأقطار والحروب الطائفية بين المسلمين، كان دافعا لبعض الشباب لرفض الإسلام السياسي عن طريق التطرف بالعلمانية أو الإلحاد، حيث ترافق ظهور الإلحاد نسبيا مع هذه الظروف.
– قبول كثير من الملحدين بوجود إله غير إسلامي، يعني أن المشكلة لديهم مع الإسلام أساسا وليس مع الله، وبلغة اجتماعية أن مشكلتهم مع المجتمع الذي يعيشون فيه.
– التنافر المعرفي عند كثير من الملحدين الذين يستخدمون في أحاديثهم اسم الله في التحية "السلام عليكم" أو الوعود والتمنيات "إن شاء الله"، أو الوداع "في أمان الله"، ويبقى بعضهم يمارس التمييز الطائفي المذهبي أو الديني وبعضهم يبقى يمارس طقس الزيارة بحجة المتعة فقط...
– استعمال السخرية من العامة من طرف الملحدين قصد التميز عنها.
– نظرة الملحدين للممارسة الدينية على أنها ثابتة ولا تتطور عبر الزمن.
– اعتقاد الملحدين أن الإلحاد مسالة علمية، فتراهم يستشهدون بالنظريات الفيزيائية لنفي وجود الله، في حين أن الإلحاد مسألة فلسفية، وذلك لجهلهم بفلسفة العلم.
5- إطلالة من نافذة علم الأديان :
تشير الدراسات التي تعمق فيها علماء الأديان عبر العالم أن ظاهرة التدين من أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها. فقد ذهبت عالمة الأديان كارين أرمسترونغ إلى القول إن الجدل ينبغي أن يتحول من تعريف الإنسان بالعاقل إلى تعريفه بالمتدين. وسوغت ذلك بأن الدين لم يكن مرتبطًا بطبيعة دنيوية بائدة على يد ملوك وكهنة متلاعبين بل كان أمرا طبيعيا للبشرية، بينما النزعة الدنيوية الراهنة هي تجربة جديدة كليا، ولا سابق لها في تاريخ البشرية. وبسبب البعد الديني المتجذر في كيان الإنسان اعتبر المفكر علي شريعاتي في كتابه "دين ضد الدين" أن المجتمعات البشرية في جميع مراحلها لم تخل من دين أبدا، أي أن التاريخ لم يحدثنا عن مجتمع عاش بدون دين، في أي مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، وفي أي نقطة على وجه الأرض، فهو يرى أن الصراعات الدينية عبر التاريخ لم تقع بين أهل دين وملحدين، وإنما وقعت بين أهل دين ودين، ودليل ذلك أن الأنبياء لم يأتوا ليدعو الناس إلى أصل التدين. والشعور الديني والاعتقاد بالغيب والإيمان بالله أو الآلهة كان سائدا في جميع الأقوام والمجتمعات التاريخية. فقد لاحظ علي شريعاتي في دراسته للمجتمعات وعلاقتها بالأديان عبر مراحل التاريخ المختلفة أن الفئات الملحدة لم تتحول إلى طبقة أو فئة اجتماعية معتد بها، وحتى في زمن الإلحاد المعاصر، فقد تم رصد هذه الحقيقة وتأكيدها من طرف أهم مركز بحثي معني برصد التحولات الدينية وعلاقات الشعوب بالأديان "مركز بيو للأبحاث" الذي أوضح في نتائج دراسة له نشرت في 2017 أن الذين لا يؤمنون إيمانًا ماديا بوجود خالق أو قوة عليا، لا يصلون في الشعب الأمريكي للعشرة في المائة.
6- خاتمة بإطلالة من نافذة إسلامية :
إن الجوهر في الدين، وغير القابل للدحض والإنكار هو البحث عن الله أو السعي والتوجه نحوه. ومنطقيا لا يُمكننا أن نقول يجب أن نجد الله أولا ثم من بعد ذلك نسعى نحوه، فهذه قضية معكوسة منطقيا، فالذين يمكن أن يجدوا الله هم الذين يبحثون عنه ويسعون ويتوجهون نحوه، وهذا البحث والسعي هو كل القضية. والناس خلال هذا السعي قد يمرون من تجارب دينية، وقد لا يمرون. فالله عز وجل هنا لا يكون قضية اعتقادية كلامية أو فلسفية، ولا نصوص دينية، إنه غير محدد أو غير قابل للتحديد "ليس كمثله شيء"، ولذلك فإنه يوجد كغاية وكمنتهى بالنسبة للباحثين أو المتوجهين نحوه.
يقول القرآن الكريم في أواخر سورة البقرة "آمَنَ الرسُولُ بما أُنزل إليهِ مِنْ ربِّه والمُؤمنُون..." فالنبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو القائد الأول للركب المتوجه نحو الله، هو مؤمن، يؤمن بما أُنزِل إليه من الله، يؤمن بأنه نبي ورسول، يتعبّد، يرفع يده نحو السماء بالدعاء يسأل الله ويلح في السؤال. فجوهر العلاقة حتى بين النبي الكريم والله عز وجل هو الإيمان. وهنا الإيمان لا يعني مجرد التصديق الذهني بمعارف دينية، وإنما هو حالة وجودية عميقة وتجربة حيّة قوية. ولا أحد يعرف على وجه الدقة ماهية التجربة الدينية للنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فهُناك حاجز اللغة والتاريخ بالنسبة للماضي، وهناك بالنسبة لنا أُطر الوعي والعقل والشعور الخاصة بنا لا نرى العالم والوجود إلا من خلالها. ولكننا مع ذلك نؤمن أن الأنبياء والعارفين يمرون بتجارب دينية هي جوهر الدين وأساسه.
وإذا كان ما يتم إنكاره ورفضه ليس هو الله ولا الدين، وإنما هو الوثن والصنم والقضايا الفلسفية والكلامية والعقائد و... التي أصبحت تعبد على أنها هي الله، فإن تحطيم هذه الأصنام قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح، خطوة نحو الله. فالأنبياء أيضا رفضوا في البداية ما اعتبروه خاطئا، كفروا بالآلهة التي يصنعها البشر، ثم بحثوا من بعد ذلك عن الحقيقة. ولم تكن مهمتهم تحطيم الأصنام ليقيموا مكانها صنما آخر وإنما كانت مهمتهم إضاءة الطريق أمام الناس ليمضوا فيه بأنفسهم. فمهمة الدين هي الإشارة إلى الطريق، وليس الطريق ذاته، فضلا عن كونه هو الغاية النهائية.
فإذا قال أحد ممن يلقب نفسه أو يلقبه الناس بالملحد أنه قد بحث عن الله ولكنه لم يجده، وأضاف في قوله أنه يأمل أن يجد الله يوما ما، ولكننه الآن لا يملك لا التجربة ولا الأدلة التي تحمله على الإيمان، فسيكون موقفه موقفا فلسفيا معتبرا قد تكون له -إلى حد ما- أحقية في الوجود مثله مثل الإيمان.
والله أعلى وأعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.