المستقرئ لردود الفعل التي تعقب كل عملية داعشية يخلص إلى وجود ثلاث نظريات مفسرة للظاهرة الداعشية، اثنتان تردان في سياق محاولة التخلص و إعلان البراءة منها، و الثالثة تبحث في شروط تشكلها و أسبابها، أما بالنسبة للنظرية الأولى وهي نظرية المؤامرة التي ترجع تدبير كل الأحداث و الوقائع و لا سيما ما يتعلق منها بأمور الدين الإسلامي والعروبة كانتماء و هوية وحضارة إلى الصهيونية العالمية، و هي نظرية تتميز بكونها تريح الإنسان من التفكير و ترضي الذوق العام الخامل المستكين إلى الأجوبة الجاهزةوالذي لا يريد قراءة الأحداث بنظرة واقعية من شأنها أن تعيد بناء الفكر الإسلامي بما هو جزء من الفكر الإنساني العام، يسري عليه ما يسري على غيره من سنن الكون، و يعيد مساءلته من منطلق المسؤولية البشرية المشتركة، حتى يستطيع أن يتموقع من جديد في ساحة الإنسانية ، فهي أشبه بأسطورة تصهر الأحداث و معها كل الكون في تصورات تخييلية تستعصي على التصديق لما يحوجها من حجج وأدلة مقنعة، و في الآن نفسه يستطيبها الوجدانالمتشبعبفكرة التميز والاختلاف، و المهووس بهاجس الرصد من قبل الآخرين، تقول نظرية المؤامرة: إنه ما من فعل يحدث في أدنى جزء قصي من العالم فللصهيونية يد فيه،من باب دفع كل مسؤولية عن الذات و تنزيهها و إعلان البراءة من الأخطاء و العيوب كلها. ومشكلة هذه النظرية أنها لا تستطيع تبرير أحداث العنف و القتل التي عرفها التاريخ الإسلامي قبل وجود الصهيونية، و هي أحداث مؤلمة، لا تختلف كثيرا عما يحدث في زماننا إلا من حيث الوسائل التي أصبحت أشد فتكا و أكثرا تطورا، ويمكن العودة إلى تاريخ الخوارج و كل الحركات المتمردة للوقوف على مشاهد مغرقة في العنف الممارس تجاه المختلف و لو من داخل الصف الإسلامي الواحد,أما نقطة ضعف هذه النظرية هي أنها تحمل بذور فنائها في داخلها إذ من الممكن حسب النظرية نفسها أن يكون هذا التفسير مؤامرة؟؟؟ أما النظرية الثانية فهي ما يمكن تسميته بنظرية الإلصاق و هي على النقيض تماما من النظرية الأولى، و لكنهما يلتقيان في مسألة التبرير الجاهز، بحيث تجزم هذه النظرية بأن الداعشية منتوج إسلامي خالص، بل تذهب بعيدا في التعسف حينما تعتبر أن الداعشية جوهر الدين الإسلامي سندها في ذلك الأحداث التاريخية المجتزأة من سياقها الذي كانيحكمه منطقيختلط فيه مفهوم الحق بالقوة، و من ثم يسقط أصحاب هذه النظرية تصوراتهم الحديثة على تلك المفاهيم دون مراعاة للبعد الزمني أو الغرابة على حد تعبير عبدالفتاح كيليطو. و أصحاب هذه النظرية يتخذون أحداث العنف التي مر بها تاريخ المسلمينحجة يقذفون بها في وجه كل من يعارضهم الرأي، و قد تمكنوا من صياغة شروط لا بد من تحققها كلها أو بعضها حتى يمنح الفعل صفة الداعشية، أول تلك الشروط أن يكون الفاعل مسلما، و لا يجوز فيه غير ذلك من كل أنواع الملل و النحل الأخرى، ثم يجب أن يكون سنيا، ثم لا يكفي ذلك بل تنقصه صفة أخرى و هي أن يكون عربيا، هذه شروط تفصيلية أم الشرط الإجمالي فيكفي أن يكون الشخص بملامح عربية بصرف النظر عن منشئه أو ديانته أو اسمه.و هذه الشروط هي ما يجوز الإدانة و يضفي المشروعية على طقوس الشجب و يبرر كل ردود الأفعال، و خاصة إذا كان الضحايا من نوع الإنسان الغربي. وهذاالتفسير للأحداث الداعشيةيوقع أصحاب نظرية الإلصاق في الكثير من التناقض الذي ينسف نظريتهم، من ذلك أن أحداث القتل أو نفي الآخر المختلف لأي اعتبار كان،بما هي لب الداعشية لم يخل منها تاريخ البشرية عبر امتداده منذ أن قتل قابيلُ هابيلَ، أي قبل أن يتواجد دين اسمه الإسلام، و من هنا فتصنيفهم للقتل لا يكون باعتبار الفعل و لكن باعتبار الفاعل، فأن يكون القاتل يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا أو غيرهم من الديانات الأخرى لا يعد ذلك فعلا داعشياإرهابيا، لأن الفاعل ليس مسلما سنيا عربيا، أما النقطة الأخرى التي تدحض نظريتهم فهي أن ما تعرض له المسلمون من قتل عبر تاريخهم أكثر بكثير من أفعال القتل التي تمت باسمهم, فيكفي أن نشير إلى أن فرنسا قتلت ميلون و نصف المليون جزائري!!!كما أن إحصاء عدد القتلى من المسلمين مقارنة مع المسيحين أو اليهود يؤكد الأمر بجلاء. على أن هناك نقطة أخرى تقوم عليها نظرية الإلصاق و تتمثل في كون القتل الداعشي يتم باسم الإسلام و تحت رايته، و لتفنيد هذا التصور يكفي القول بأن معظم المسلمين يدينون هذه الأفعال ويعتبرونها بعيدة كل البعد عن تعاليم الدين، فهل يعقل أن يصدق بضعة آلاف و يكذب الملايين، فماذا لو قام بضعة ألاف من الأشخاص تحت راية الدين بإنقاذ الناس و مساعدتهم، هل سينظر أصحاب نظرية الإلصاق إلى هذا الفعل باعتباره فعلا إسلاميا و من ثم يتم سحبه على كل المسلمين أم سيتم قصره على أصحابه؟ أما النظرية الثالثة فهي النظرية الواقعية التي لا تخلي مسؤولية الذات و في الوقت نفسه لا تحملها المسؤولية كاملة، على أساس أن للمسلمين نصيبا فيما يقع من أحداث سواء أ كان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر، و الذي نعنيه بالمباشر هي حالة التشرذم الفكري التي ما زالت تعاني منها الثقافة الإسلامية التي لم تحسم بعد مع كثير من قضايا الدين في ظل غياب قراءة واضحة ومقنعة للنص الديني تبعد عنه كثرة التأويلات التي تفتح الباب على مصراعيه لكل باحث عن مبرر لأفعاله وسلوكاته، حيث يجد أصحاب النزعات الإقصائية و التدميرية ضالتهم في بعض النصوص الدينيةالتي أصبحت أشبه بدكان للمواد العامة يتبضع كل منه بضاعته. فاللحظة التاريخية تفرض على الأمة من باب المسؤولية إعادة قراءة النصوص الدينية وفق رؤية تبعد عنها غلو الغالين و تطرف المتطرفين تماشيا مع التصور الإسلامي العام القائم على الوسطية والتيسير و الإحسان،و هي مسؤولية ملقاة على عاتق علماء الأمة المعتبرين الذين يتوجب عليهم باعتبارهم ورثة الأنبياء أن يصدحوا بكلمة الحق من خارج جلباب السلطان، و أن يعرفوا الشباب التائه بحقيقة الدين و يرشدوه إلى جهاد العصر المتمثل في امتلاك قوة الفكر للنهوض بالأمة. و إذا كانت المسؤولية المباشرة ذات طابع فكري بالدرجة الأولى، فإن المسؤولية غير المباشرة تجد تجلياتها في حالة السلبية المطلقة و الضعف الذي ينهش معظم دول العالم العربي مما جعلهم عرضة لكل أنواع التدخلات الخارجية التي تغذي نوازع التطرف و الداعشية في نفوس الشباب المحطمة و الفاقدة لكل أمل في التغيير و في الحياة بشكل عام. الخلاصة أن داعش عبارة عن فكرة للقتل و التدمير أو هي نزعة الشر في الإنسان، تتخذ مظاهر متعددة و تلبس أحيانا لبوسا دينيا رغبة في إضفاء القداسة عليها، و قد وجدت من يغذيها و يتغذى عليها و يستثمر فيها لأهداف قد تكون قريبة أو بعيدة المدى، كما وجدت من يسخر نفسه حطبا لها جهلا أو تجهلا، و بالرغم من المجهودات المبذولة من قبل وسائل القهر و التدجين العالمية التيتصر على حصرها في عمليات التفجير و التخريب البدائية و محاولة تصوريها على أنها الفعل الداعشي الوحيد ، فإن الواقع يشهد على عكس ذلك، إذ أن محاصرة الشعوب و إذلالها و نهب خيراتها، و تجريب الأسلحة الفتاكة في أجسام أبنائها لا تخرج عن كونها أيضا أفعالا داعشية مدانة.