ثانيا- الأسس الفقهية لحماية الحياة الخاصة للأفراد يتحجج المناصرون للمطالبة بعقود الزواج في الفنادق وأماكن الإيواء الأخرى بحرمة العلاقات الجنسية خارج الزواج دينيا، وأن من شأن هذا التساهل التشجيع على هذه العلاقات، وهو ما يشكل برأيهم تعارضا مع هوية المغاربة واختيارهم التاريخي والدستوري والاجتماعي للإسلام وشريعته. والواقع أن الإشكالية المطروحة غير مرتبطة بموضوع العلاقات الرضائية خارج الزواج، ولا بمنطق الحلال والحرام الذي يعتبر في الأخير اختيارا ذاتيا وقناعة شخصية، بقدر ما يرتبط بمفهوم الحياة الخاصة في الشريعة الإسلامية وحرمة المنازل والمساكن، ومدى مشروعية اقتحامها أو التجسس عليها، والمسؤوليات المترتبة على ولي الأمر في رعاية هذه الحرمات، والحالات الخاصة التي يمكنه التدخل فيها. وبالعودة لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وما تركه الفقهاء من تراث مقاصدي وتفصيلي نجد تشديدا واضحا في ضرورة حماية الحرمة الخاصة للأفراد، وخصوصا ما يتعلق بالمساكن ومنازل الإيواء، وعدم جواز التجسس أو الأخذ بالظن، ومحدودية صلاحية تدخل ولي الأمر في اقتحام المساكن والفضاءات الخاصة. ويظهر ذلك فيما يلي: * حرمة الحياة الخاصة في القرآن الكريم: من أهم النصوص القرآنية الواردة في حرمة الحياة الخاصة، قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (النور 27-28). وقوله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"(الحجرات 12) وقوله تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا "(الإسراء 36) ويمكننا من خلال هذه النصوص استقراء الضوابط التالية المتعلقة بحماية الحياة الخاصة وضرورة مراعاة حرمتها: * حرمة المسكن وحق العيش فيه آمنا بعيدا عن تطفل الآخرين وتدخلهم. * عدم جواز اقتحام أي بيت أو مسكن أو دخوله دون استئذان من صاحبه. * عدم جواز بناء الأحكام على مجرد الشك، إذ حذر القرآن من بناء الأحكام على الظن، فأمر باجتناب كثير من الظن، واعتبر الحكم به مخالفا للحق "إن الظن لا يغني من الحق شيئا"، ففي هذه النصوص تحذير من اتخاذ أي إجراء ينطوي على انتهاك لحرمة الحياة الخاصة للإنسان، وذلك لمجرد الظن بأن ثمة جريمة قد ارتكبت أو في طريقها للارتكاب. * النهي عن اقتفاء أو تتبع أمور الناس بغير هدى أو علم، ومن يفعل ذلك يكون مسؤولا عن أي انحراف عن الحق نحو الباطل. * تحريم التجسس والغيبة، وذلك في قوله تعالى «ولا تجسسوا"، وهو نهي عام واضح عن التجسس والنظر إلى العورات، سواء أكانت في مسكن أو أي بيت يستعمل للستر والسكن. وهو نهي عام متوجه إلى الجميع، حاكما كان أو محكوما، موظفا كان أو رجلا من عموم الناس. * حرمة الحياة الخاصة في السنة النبوية: شددت السنة كما القرآن في ضرورة حماية الحرمة الخاصة للأفراد، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا" (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"(رواه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم "من تسمع حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" ( رواه البخاري)، كما قال صلى الله عليه وسلم : "من اطلع في قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص"(رواه أحمد). فدلت هذه المرويات النبوية على ما يلي: * ضرورة المحافظة على الحق في حرمة الحياة الخاصة وحمايته. * النهي عن الطعن في أعراض الناس وتتبع أعراضهم. * النهي عن اجتناب الظن وبناء الأحكام على الشك. * النهي عن التجسس على البيوت واقتحام حرمتها. وهذا هو عين ما بنى عليه السيد وزير العدل مقاربته لقضايا الحريات الفردية في القانون الجنائي، حيث جاء في كلمته التي ألقاها بالمكتبة الوطنية بالرباط تحت عنوان "الحريات الفردية بين القيم الكونية والثوابت الوطنية": "وأما تثمين الحياة الخاصة للفرد واحترام مساحاته فقد كان الإسلام واضحا جدا في تكريسها والدفاع عنها، فحرم التجسس على الغير والحديث عنهم بسوء زمن غيابهم ، في قوله تعالى: "ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا"، وحرم تلصص الناس بعضهم على بعض في حياتهم الخاصة وفضاءاتهم الحميمية، فقال عز من قائل: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وآتوا البيوت من أبوابها"، وحرم التشهير سواء بالنفس أو بالغير، فجاء في الحديث النبوي " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها"، وقال في حديث آخر " كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عز وجل ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه". * حرمة الحياة الخاصة من خلال مقاصد الشريعة: تقرر مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل واضح حرمة الحياة الخاصة للأفراد، فمن مقاصد الشريعة حفظ المصالح وصيانة الضروريات، يقول الجويني: " فأما فإني أرى مسكن الرجل من أظهر ما تمس إليه حاجته، والسكن الذي يؤويه وعيلته وذريته، مما لا غناء عنه.. فإذا تقرر إلحاق المساكن بالحاجات، بطل النظر إلى المالك والمستأجر لعموم التحريم". واعتبار المسكن من الضروريات كما قال محمد كمال إمام الدين هو أساس حماية الشارع للمسكن بوجه خاص، ولحق الخصوصية بشكل عام، لأن حماية المسكن إنما قصد بها حماية الانفراد والخصوصية، لا الملكية التي قرر الشارع لصيانتها حدا في العقاب على السرقة، بالإضافة إلى التعازير وضمان المتلفات، ولو كانت الحماية للملكية لما قررها الفقهاء للمستأجر والمستعير وكلاهما ليس مالكا. * حرمة الحياة الخاصة للأفراد في الفقه الإسلامي: لا خلاف بين فقهاء المسلمين في ضرورة صيانة الحياة الخاصة للفرد عملا بما ورد من نصوص سابقة، بل إن لهم من التفريعات والتفصيلات في الأحكام ما يعزز هذه الصيانة ويؤكدها، ومن ذلك ما يلي: * اعتبار المسكن من الحرز، واعتبار الاستئذان شرطا أساسيا لدخول الحرز، لدرجة أن بعضهم لم ير الحد على السارق إذا كان مأذونا له بدخول البيت لشبهة الحرزية، "فلا يقطع السارق من امرأة ابنه أو زوج أمه أو امرأة أبيه إذا سرق من المنزل المضاف إليه فلا يلزمه القطع"، و"الضيف إذا سرق بيت المضيف لا يقطع لأنه مأذون بالدخول في الحرز". * التوسع في تعريف المسكن، فقد اعتبروا أن السكن هو كل ما أوى إليه الفرد على سبيل الاختصاص، سواء كانت الإقامة فيه على سبيل التأقيت أو الديمومة، استدلال بقوله تعالى: "والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم"، ولهذا قال الفقهاء أن الخيمة في الصحراء لها حكم البنيان، وحدد ابن حزم الأندلسي السكن الموجب للحرمة ما كان " يقي شتاء من المطر، وصيفا من الشمس، ودائما من عين المارة"، ولم يفرقوا بين أن يكون السكن دائما أو مؤقتا، مملوكا أو مستأجرا، فيدخل في ذلك كل منازل الإيواء من فنادق وشقق للإيجار وغيرها. * اشتراط الظهور في تدخل ولي الأمر لمنع منكر من المنكرات، ويقصدون بالظهور عدم الاستتار، وفعل المنكر علانية حيث يراه الناس، والتلبس به واستمرار ذلك الفعل وقت ضبطه، فأسسوا بذلك قديما لمبدأ التفريق بين الفضاء العام والخاص، بل إن الفقهاء من تشددهم في الأمر لم يعتبروا السمع أو العلم من أدلة الإثبات، بل اشترطوا الإدراك البصري لإثبات المنكر، ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن الرجل الذي سمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال: "ما عليك، ما غاب لا تفتش". * اشتراط الحلول لاحتساب ولي الأمر على المنكر، ويقصدون بالحلول وقت مزاولة المنكر لا قبلها ولا بعدها، بل يرون أنه حتى لو كانت متوقعة من شخص اعتاد على فعل ذلك فلا يحتسب عليه، يقول الجويني: "أن المتعلقين بضبط الأحوال – ولاة الأمر- قد يرون ردع أصحاب التهم قبل إلمامهم بالهنات والسيئات، والشرع لا يرخص بذلك". * تحريم التجسس باعتبار الظهور شرطا في المحتسب عليه، وقد أجمعت المذاهب الفقهية على منع التجسس، يقول الخرشي المالكي في شرحه على مختصر خليل: " ويشترط في ظهور المنكر من غير تجسس ولا استراق سمع ولا استنشاق ريح، ولا بحث عما أخفي بيد أو ثوب أو حانوت فإنه حرام". * اشتراط ضرورة العلم في الاحتساب على منكر يجري داخل المساكن، رغم أن الفقهاء بنوا أغلب أحكامهم على الظن، إلا أنهم تشددوا فيما يجري داخل المنازل لحرمتها فاشترطوا ضرورة العلم والقطع، يقول أبو يعلى الفراء الحنبلي: " إنكار المنكر لا يجب إلا بعد العلم والقطع بحصول المنكر، فأما إذا ظن وقوعه منه، لم يجب عليه إنكاره.. لأنه لا يأمن ان يكون الأمر على خلاف ما ظنه فوجب ترك ذلك"، وهو ما يعني أن اقتحام المنازل بحجة توقع المنكر أولى بالمنع والتحريم. وخلاصة الموضوع أن الشريعة الإسلامية تمنع تفتيش المساكن واستباحة الحياة الخاصة لمجرد التوقع أو الظن بوقوع ما هو ممنوع قانونا، خاصة حين يتعلق الأمر بالعلاقات الجنسية، وهو ما جعل الشارع يتشدد في طرق إثبات "الزنا"، حيث اشترط معاينة أربعة شهود لواقعة المعاشرة مع تحقق حدوث الإيلاج بين الرجل والمرأة، وهو ما لا يمكن أن يكون إلا علانية وسط الناس، وليس في غرف المنازل أو الفنادق. على أن الدولة ليس من مهماتها التدخل في حياة الناس واختياراتهم الدينية، ولا توزيع الأحكام الشرعية على أفعال الناس وتصرفاتهم، فذلك موكول للخالق وحده، وهو ما أكده السيد وزير العدل في كلمته المشار إليها سابقا " إنّ تحريض الناس على التدخل في الحريات الشخصية لبعضهم البعض لا يعني مُجرّد انتهاك للكرامة الإنسانية، حيث يتمّ التعامل مع الناس باعتبارهم قاصرين يحتاجون إلى الحِجر والوصاية، بل إنه انتهاك لأحد حقوق الله، الحقّ في الثواب والعقاب، لا سيما بخصوص القناعات الشخصية. وقد قيل لصوفي ذات مرة: إنّ رجلا يشتم الله ويجبُ علينا أن نقتله. فردّ عليهم بكل هدوء: إذا أدركتم بأنه لا يحب الله فمن أدراكُم بأن الله لا يحبه؟ لقد أجمع المسلمون في سياق التدين الشعبي والفطري، على ضرورة إرجاء أحكام الله للآخرة، وتركها لله حصرا، تماشيا مع منطوق الخطاب القرآني الذي يقول "الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون"، كما يقول في موضعٍ آخر من كتابه العزيز "ثمّ إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون"، بهذا المعنى الرباني تكون التعددية الدينية قدرا دنيويا لا راد له، وبالتالي فإن التعددية الدنيوية تتبع القدر نفسه". يُتبع... * باحث في الفكر الإسلامي