ورد في تدوينة للأستاذ عبد الوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص حديث عن إعادة النظر "في عملية تخصيص عمومات القرآن وتقييد مطلقاته بآحاد ومرويات نبوية" والدعوة إلى الانفتاح على المدارس الأصولية التي تقول بأن " عموم القرآن ومطلقه لا يمكن تخصيصه إلا بنص مساو له في القوة على مستوى الثبوت" ممثلا لحديثه بحديث " لا وصية لوارث" المخصص لعموم قوله تعالى" كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين" حيث اعتبر أن " النص القرآني عام في الإرشاد إلى الوصية للوالدين وعموم الأقربين، دون تفريق بين وارث وغير وارث، وأن الحديث ظني " لا يمكنه معارضة القرآن ولا تخصيصه ولا تعميمه، فكيف والحال أن هذا الخبر حديث ضعيف بشهادة عدد من المحدثين.." مؤكدا أن صاحب المال له الحق في التصرف في تركته، متسائلا عن " المانع في أن يرى صاحب المال أن أحد أولاده -ذكرا كان أو أنثى- يستحق من ماله أكثر من غيره لمرض أو عجز أو عدم توفيق؟ وأين الإشكال في أن يرى الزوج أن زوجته تستحق ما يفوق الثمن المقدر، وهل يمكن تعطيل كل هذه المصالح بخبر ظني لا يثبت حتى بميزان المحدثين؟؟" أن المتخصص المبتدئ في علوم الشريعة يرى أن ما ذهب إليه الأستاذ عبد الوهاب رفيق متهافت من الناحية العلمية، وذلك للاعتبارات التالية: 1: صحة حديث " لا وصية لوارث" فقد ادعى الأستاذ رفيقي أن حديث لا وصية لوارث ضعيف وموقوف على الصحابي كما ذهب إلى ذلك بعض الدراسين، وليس بالحديث الصحيح الذي ينسخ آية المواريث، وردا على ذلك نؤكد أن الحديث الذي ادعى عبد الوهاب رفيقي ضعفه هو حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى والدراقطني...، ومن العلماء من جعله من السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي الحسن الأشعري وهو أعلى درجة الصحة في علم الحديث، فقد جاء في إرشاد الفحول " يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور، كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري، وابن برهان، وابن الحاجب. قال ابن فورك في "شرح مقالات الأشعرى": وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعرى، وكان يقول: إن ذلك وجد في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ، فإنه منسوخ بالسنة المتواترة، وهي قوله: "لا وصية لوارث " "وكان يقول: إنه لا يجوز أن يقال إنها نسخت بآية المواريث"* لأنه يمكن أن يجمع بينهما. قال ابن السمعاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وعامة المتكلمين." فحدث لا وصية لوارث من الأحاديث التي أجمع العلماء عليه وهو ما قرره الشوكاني بقوله " إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها. أما ما أجمعوا عليه كقوله: "لا ميراث لقاتل" 2 و"لا وصية لوارث" 3 فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر، لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها." 2. 2: من العلماء من قال بأن نسخ حكم آية الوصية إنما هو بالقرآن والآية التي نسخت حكم الوصية هي آيات المواريث من سورة النساء التي فصل فيها الله تعالى أنصبة الورثة، إذ قال الله تعالى " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا..." النساء الآية 11. وفي هذا يقول الشافعي " الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيِ الْمَوَارِيثِ وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ مِمَّا لَا أَعْرِفُ فيه عن أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيت خِلَافًا" 3 والحديث أقر ذلك وأكده . 3: من العلماء من أقر أن آية الوصية عامة لم تنسخ، بل خصصت بآية المواريث وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بيناه في قول الشوكاني السابق " أما ما أجمعوا عليه كقوله "لا يرث القاتل" و "لا وصية لوارث" فيجوز تخصيص العموم به قطعا، فيعمل بهما معا عملا بقاعدة الجمع أولى من الترجيح، فتصح الوصية لمن لا يرث، وللورثة الذين منعهم مانع من موانع الإرث، مثل الأب أو الابن أو القريب عموما غير المسلم، وفي هذا يقول الشافعي " وَدَلَّ على أَنَّ الْوَصَايَا لِلْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرِثُ بِكُلِّ حَالٍ إذَا كان في مَعْنًى غَيْرِ وَارِثٍ فَالْوَصِيَّةُ له جَائِزَةٌ وَمِنْ قِبَلِ أنها إنَّمَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ إذَا كان وَارِثًا فإذا لم يَكُنْ وَارِثًا فَلَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْوَصِيَّةِ"4. 4: في القول بأن صاحب المال له الحق في التصرف في تركته فيه تطاول على صاحب الحق الأصيل، وادعاء عن جهل أو دون قصد بأن الخالق جل جلاله ليس جديرا بتوزيع الثروة، ولا يدري مصلحة خلقه فيما أقره من أنصبة وحقوق تتعلق بالتركة، فصاحب الثروة هو الأدرى وهو الأجدر وصاحب الحق الأول والأخير. لقد نسي الأستاذ الفاضل أن صاحب الحق المطلق هو الخالق جل جلاه، الذي أقر في كتابه بوجوب التصرف في المال وفق إرادته وفي الطرق التي شرعها كسبا وإنفاقا، يقول الله عز وجل " وآتوهم من مال الذي آتاكم" النور 33. فالمال مال الله والإنسان مستخلف فيه لقوله تعالى " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ " الحديد 17. فلا يحق له التصرف فيه إلى فيما أراده الله وفق مراد الله، يقول صلى الله عليه وسلم " فعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"5. وسيسأل يوم القيامة عن كسبه ونفقته " يقول صلى الله عليه وسلم " لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ."6. 5: رد الحديث نقض لأصل من أصول التشريع في الإسلام، إذ معلوم عند عامة المسلمين فضلا عن الدارسين والمتخصصين أن السنة النبوية الأصل الثاني من أصول التشريع، فهي المخصصة لعموم القرآن الكريم، والمفصلة لمجمله، والمقيدة لمطلقه، والموضحة لمشكلة، والمضيفة لكثير من الأحكام غير الواردة فيه.. فلو أخذنا بالقول القائل أن" عموم القرآن ومطلقه لا يمكن تخصيصه إلا بنص مساو له في القوة على مستوى الثبوت فسنفتح مجال النقض لكل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي نقضُ وهدُّ أصل من أصول التشريع الذي به نتعبد الله ربنا في صلاتنا ومناسكنا وزكاتنا ومعاملاتنا المالية والاجتماعية، فبالسنة تعرفنا على كيفية الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي" 7، وبها تعرفنا على طريقة أداء المناسك، لقوله عليه الصلاة والسلام " خذوا عني مناسككم"8، وبها تعرفنا على مقادير الزكاة " " فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ"9، وقوله صلى الله عليه وسلم، " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ" 10. فالتساهل في رد الأحاديث الصحيحة التي أجمعت الأمة على صحتها منذ أربعة عشر قرنا نتيجة سوء فهما، أو التوظيف الخاطئ لبعض نصوصها، أو القصور في فهمها مغامرة غير محسوبة العواقب، وتطاول على تخصص أفنى العلماء أعمارهم في ضبط مسائله وتحرير مفاهيمه وتقرير قواعده للاستفادة من ثمراته. 1: : محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ج:1/ ص: 389. 2: المصدر نفسه، ج:1/ ص:389 3 : الشافعي، الأم، ج:4/ ص:99. 4 : المصدر نفسه، ج:4/ ص:99. 5 : البخاري، الصحيح، باب من انتظر حتى تدفن، ج: 4/ص:85. 6 : الترمذي، السنن، باب في القيامة، ج: 4/ ص: 190 7 : صحيح البخاري/ 8/72. 8 : صحيح مسلم/ 1/ 302 9 : موطأ الإمام مالك، 2/380. 10 : المصدر نفسه، 2/342.