يقال أن السلطة لا تسلم الحقوق دون أن يكون هنالك مطالبين لها، فهي لم ولن تفعل هذا أبداً، إذن الحالة الطبيعية هي محافظة السلطة على الأوضاع القائمة، بل إنها تدافع بقوة على استمرارها كما هي، ولذلك فكل خرق لهذه القاعدة سيكون الرد الطبيعي للسلطة هو الرفض. وهو الأمر الذي يفسر التوتر المستمر بين الأفراد والسلطة على مر التاريخ، فالسلطة تود الحفاظ على الأوضاع القائمة مهما يحدث من تغير وتطور، والأفراد يودون التغيير المستمر نحو مزيد من الحقوق والمكتسبات، بل إن السلطة تعتبر منح الحقوق دون إلحاح من الأفراد وصمة عار في جبينها، والأفراد يرون العار كل العار أن يظلوا تحت نفس الشروط والأوضاع رغم ما يحدث من تغيرات. إن هذه العلاقة الجدلية بين السلطة والأفراد هي منبت كل الاحتجاجات، وعكس ما يمكن أن يقال، إنه وضع طبيعي وعلامة على دينامية وحيوية المجتمع، وهو الأمر الذي يجعل المجتمع متوازنا، لأن الأطراف الفاعلة فيه حية وتتفاعل فيما بينها، أما تغول السلطة وتذويب الأفراد داخلها فهو الوضع الذي ينتج السلط الكليانية ويوفر الأرضية الخصبة لاستنبات التسلط والاستبداد والقمع، إنه وضع يغتال فيه المجتمع لصالح السلطة ويصير معه الأفراد مجر دمى للتمثيل، وهو ما يمكن السلطة وأجهزتها من التفنن في سلب الحقوق بدل تسليمها، بل أكثر من ذلك يقتل المجتمع ويدخل السلطة في صراع مع ذاتها. واضح إذن أن الصراع بين السلطة والأفراد هو العلامة المميزة لكل مجتمع بشري، غير أن الصعوبة والتعقيد ستظهر جليا عندما نريد التدقيق في طبيعة الصراع وآلياته، فأن تمتنع السلطة عن تسليم حق ليس من الحق في شيء، وأن يطلب الأفراد ما ليس من حقهم ليس من الحق، لكن من يحدد الحق من عدمه؟ لتتحدد فيما بعد مشروعية طلبه. إن تاريخ مصدرية الحق وما خلفه من نقاش حاد ومتضارب حد التناقض بين الفلاسفة والفقهاء والسياسيين ليس هنا مجال التفصيل فيه، لكن مما لا يقبل التجاوز والتنازع حوله اليوم هو أن الدساتير هي المصدر الأسمى لتحديد ما هو حق مما ليس بحق، على اعتبار أن الدساتير هي الإطار المتعاقد عليه بين كل من السلطة والأفراد. إذن طلب الحق ومشروعيته وقوته يستمدها من الدستور الذي تعاقد عليه الطرفين، وهو بالضرورة محط مراجعة وتقويم على اعتبار كونه منتوج بشري صرف يدير شؤون أفراد يتفاعلون فيما بينهم ومع محيطهم. لقد نص الدستور المغربي 2011 صراحة في الفصل 31 على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين على قدم المساواة من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، والشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي، وكذلك ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق، إلى جانب حقوق أخرى شملها هذا الفصل، وذلك في انسجام تام مع ديباجة الدستور التي تؤكد على وفاء الدولة المغربية في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة. بناء على ذلك، يعد الحق في التعليم والشغل والوظيفة حقا مشروعا بقوة الدستور، وهو ما يفترض أن لا يشكل مصدر صراع بين السلطة والأفراد على اعتبار كونه أحد المرتكزات التي تعطي لوجودهم وتعاقدهم معنى. مما يعني أن تنازع السلطة والأفراد ليس على أحقية الاستفادة من الحق من عدمه وإنما على كيفية الاستفادة من الحق، لذلك فالحق قائم وتفعيله خاضع لطبيعة السلطة وفاعلية الأفراد، وهذا هو الإطار النظري الذي شكل سبب نشأة الوسطاء الاجتماعيين الذين يتولون الدفاع عن حقوق الأفراد والسهر على استفادتهم منها بكيفية تحفظ كرامتهم وتضمن استمرارها، وحرستها من ارتدادات السلطة، وهو ما دفع هذه الأخيرة إلى قتل مصادر المقاومة المحتملة، لكنها تناست أنه من تحت الرماد تتقد نار مشتعلة، وهو الأمر الذي بدا جليا مع ظهور وتناسل هيئات يصعب محاصرتها وتدجينها، التنسيقيات نموذجا، والتي شكلت البديل الموضوعي في الصراع مع السلطة بعد القتل الممنهج لمؤسسات الوساطة التقليدية، وذلك في صراع مستمر بين حق السلطة وسلطة الحق.