شكلت سنة 2011 ميلاد دستور جديد للمملكة المغربية ، كان بمثابة اللبنة الاستراتيجية التي جسدت من خلالها مضامين خطاب 9 مارس 2011 والذي دشنت فيه المؤسسة الملكية خطة طريق استراتيجية قوامها مواصلة الاصلاح المؤسساتي والتدبيري من أجل بلوغ أهداف التنمية وفقا للمستجدات الوطنية والدولية في جميع أبعادها الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية عبر بوابة الديمقراطيين التمثيلية والتشاركية وذلك انطلاقا من كونها مصبارا حقيقيا لمواصلة بناء دولة الحق والقانون. دستور تم بناءه على أساس سبع نقاط أساسية وهي: أولا: التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة؛ ثانيا: ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب؛ ثالثا: الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه؛ رابعا: توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال: برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية. حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب؛ تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها؛ تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي؛ دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته؛ خامسا: تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية، والمجتمع المدني؛ سادسا: تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة؛ وسابعا: دسترة هيآت الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات. هذه المقومات، كانت بمثابة المحفز لدى المواطنات والمواطنين المغاربة للتصويت بنعم للاستفتاء الذي نظم من أجل اخراج دستور 29 يوليوز 2011 الى حيز الوجود. وهو توجه دستوري يقوي من الاختصاصات التنظيمية لمؤسسة رئيس الحكومة والتي أصبح بامكانها التدخل المباشر في بناء صرح السياسية العامة للدولة وعبره خلق بنية موازية من السياسات العمومية القادرة على تدبير قضايا الشأن العام في نطاق وطني كفيل بالتمكين التنموي وخاصة في صبغتيه الاقتصادية والاجتماعية لعموم المواطنات والمواطنين من طنجة الى الكويرة. ينضاف إلى هذا التوجه المرتبط بتوسيع اختصاصات رئيس الادارة بصفته رئيسا للحكومة، التنزيل الدستوري لمبادئ الحكامة الجيدة عبر بوابتي المساءلة والمحاسبة، وهو ما تم التنصيص عليه بصورة صريحة من خلال مضامين الفصل الأول من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 الذي ينص على: "(...) يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة (...)". مقومان يحيلان وبكل جرأة دستورية وسياسية على التوجه الحديث للمملكة المغربية في ظل دستور 2011 وذلك في اتساق تام مع مجموعة من الأهداف الكبرى التي تم تضمينها بديباجة الدستور سواء أتعلق الامر بما هو وطني، اقليمي، قاري أو دولي، أمر تم تجسيده من خلال التنصيص على المبادئ والاهداف التالية: المملكة المغربية، الدولة الموحدة، ذات السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير، تؤكد وتلتزم بما يلي: * العمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي؛ * تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة؛ * تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولاسيما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء؛ * تعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار الأورو- متوسطي؛ * توسيع وتنويع علاقات الصداقة، والمبادلات الإنسانية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم؛ * تقوية التعاون جنوب-جنوب؛ * حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما ؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء؛ * حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان؛ * جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة. مبادئ من بين أخرى، تمثل عناية المغرب بمحيطه الداخلي والخارجي ، وهو توجه يكرس البنية الديمقراطية المبنية على التدبير المشترك لحاضر ومستقبل الاجيال في اتساق تام مع القانون الدولي والشرعية الدولية. وهو ما يتم تكريسه وبلغة الممارسة من خلال الدور المحوري الذي يلعبه المغرب على المستوى الداخلي ومع تعاقب الحكومات الثلاثة التي تداولت وتتداول على تدبير قضايا الشأن العام من خلال بناء رؤى تنهج منحى التخصص في التعاطي مع تطلعات الالفية التي يشكل المواطن قطب رحاها ، سواء أتعلق الامر بصياغة نموذج تنموي جديد للمملكة، ميثاق جديد للاتمركز الاداري، ميثاق جديد للاستثمار وكذا نموذج الدولة الاجتماعية ناهيك عن المشاريع المهيكلة الكبرى التي ارتضتها المملكة من خلال بناء شراكات عبر وطنية مع جملة من الشركاء كالتجارة الحرة مع الولاياتالمتحدةالامريكية ، طريق الحرير مع الصين ، الدعوة لبناء مجموعة الثلاثة والعشرين الذي سيجمع الدول الافريقية الاطلسية ناهيك عن الثقة التي تضحى بها المملكة المغربية من قبل مجموعة من الشركاء الدوليين وهو انعكس بالايجاب على دعمها لمشروع مقترح الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب سنة 2007 ومن ثمة تناسل القرارات الاممية المؤيدة لهذا الطرح الواقعي، الجدي وذي المصداقية ناهيك عن تدشين مشاريع كبرى بالاقاليم الجنوبية بالصحراء المغربية وفتح جملة عريضة من القنصليات العامة ، كلها مقومات تبين الوضع المحوري ذي الصبغة الاستراتيجية الذي اصبحت تحتله المملكة المغربية لدى الشركاء الدوليين. إن واقع الحال الدستوري، وارتباطا بجملة المشاريع الكبرى التي اطلقتها المملكة المغربية في ظل العهد الحديث لينم عن تقدم دستوري حقيقي في الاختصاص وخاصة فيما يتعلق بتوسيع رقعة تدخل السلط، أمر يجب على الجميع استحضار قوة ورمزية سنة 2011 بالنسبة للمغاربة ، والعمل بكل جدية على التقريب بين رؤى الديمقراطتين التمثيلية والاشتراكية عبر دولة المؤسسات ، ومن خلال ذلك الابداع في انتاج سياس ة عامة وسياسات عمومية قادرة علوى احتواء استراتيجية المرحلة في جميع تمثلاثها المركزية ، اللامتمركزة واللامركزية، مما سيمكن لا محالة من الوصول الى اهداف التدبير المبني على النتائج والخاصة اساسا بتكريس العدالة المجالية والاستمرار في بناء دولة الحق والقانون في بعديها المتقدم والموسع. الدكتور العباس الوردي أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس بالرباط، والمدير العام للمجلة الافريقية للسياسات العامة