ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الخميسات.. إيقاف شخص في حالة سكر هدّد بارتكاب جناية وتعريض حياة المواطنين للخطر    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    إفريقيا تنتقد ضعف التمويل المناخي    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    فدرالية أطباء الطب العام بشمال المغرب تعقد المؤتمر الثاني للطب العام    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    الصحة العالمية تؤكد أن جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ عامة        انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران        الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من واقع ومستقبل المنظومة التربوية والتكوينية.. من أجل الاستدراك
نشر في العمق المغربي يوم 03 - 12 - 2023


أبجدية:
لا يجادل اثنان في كون المنظومة التربوية والتكوينية أس التنمية على مختلف الصعد والمجالات والقطاعات الحياتية، خاصة في ألفية المعرفة، حيث لم تعد الدول والمجتمعات تعتمد على الثروات المعدنية والطبيعية في بناء تقدمها ونموها، وإنما أصبحت المعرفة الثروة الأساسية في أي تقدم مادي وإنساني وحضاري، وفي أي تنمية بشرية وحجرية.
ومن هذا المنطلق نجد القضية التربوية والتكوينية المغربية ذات أهمية استراتيجية في بناء الإنسان وتأسيس تنميته في مختلف مجالات حياته وأبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية والمهنية والسياسية والاقتصادية والبيئية ... لا يمكن مقاربتها إلا برؤية استراتيجية بعيدة المدى؛ تستشرف المستقبل من واقع الحاضر ومن تجارب وخبرات ومعطيات الماضي الإيجابية والسلبية منها، الأولى للاستثمار والثانية لتحويلها إلى فرص نجاح. ولا يمكن ضمن هذه الرؤية الاستراتيجية القبول بأية أخطاء، أو أي تخبط، أو أية عشوائية، أو أية ارتجالية لأن الاشتغال هو اشتغال على الإنسان وبالإنسان لا اشتغال على الأوراق. بل؛ لابد من تشييد منظومة تربوية وتكوينية متينة ومنسجمة وفاعلة، قادرة على بناء الكفايات والقدرات والمهارات والمعارف فضلا عن تعمير المعمار الفكري للمتعلم بقدرة الفعل وبمختلف أنواع التفكير من أجل الارتقاء والتقدم الإيجابي، الذي يعمل على تطور الدولة والمجتمع في البعد الحضاري والإنساني.
والمنظومة التربوية والتكوينية المغربية حين تلامسها بالنقد البناء، تألفها قضية إشكالية، ومشكلة معقدة، تراكمت في ثناياها وأحشائها بشكل شبكي عنكبوتي كل الإخفاقات السياسية وعوائدها وسلبياتها القاتلة، التي تعاني منها اليوم هذه المنظومة المأزومة، التي ما برحت العودة إلى نقطة الانطلاق، ونقطة الصفر بعد كل إصلاح، في نقطة تلاشي الجهود المبذولة في الإصلاحات، والعود على بدء! فهي منظومة راكمت الفشل تلو الفشل، ولعل ما تعاني منه اليوم من احتقان واختلالات لدليل قاطع على هذا الفشل.
فنحن نقف اليوم على ظاهرة خطيرة جدا قد يجدها البعض عادية في سياق التربية والتكوين وسيرورة الفعل التعليمي، وهي ظاهرة الدعم التربوي الداخلي والخارجي، والذي يعبر حقيقة عن هشاشة هذه المنظومة، فالدعم بهذه الكثافة في المجتمع يفيد أن المنظومة لا تؤدي دورها ورسالتها ووظيفتها على الوجه المطلوب، لأن الدعم لا يكون إلا مع الاختلال والهشاشة، فهل رأيت بيتا مشيدا بطريقة جيدة، أو ناطحة سحاب شامخة قائمة على أسس هندسية علمية متينة وصلبة، مبنية على أسس علمية وتجريبية صحيحة؛ مدعومة بقوائم خارجية تقيها أو تقيه الانهيار والانهدام؟
فبمجرد أن ينظر الخبير التربوي إلى ظاهرة الدعم التربوي بشقيه الداخلي والخارجي، ويقف على ناتج المردودية الداخلية والخارجية للمنظومة؛ يعرف بدقة الخلل الذي يعتري المنظومة التربوية والتكوينية. كما أن ملامسة المشاكل والظواهر السطحية تعلن عن أزمة المنظومة، وأما ما خفي في المناهج والبرامج والخطط والاستراتيجيات والأدوات والتشريعات والنظريات والمنهجيات والأطر الفكرية المؤسسة للفعل التعليمي التعلمي والتكويني أعظم، وهو ما ينسف البناء المعرفي والكفاياتي والكفائي للمتعلم من الداخل، ويشل بنيته العميقة العاملة.
تركيم وترصيد الأخطاء والسلبيات:
فالتركيم والترصيد للخيبات عبر السنين أدى إلى:
تآكل المنظومة التربوية والتكوينية من الداخل نتيجة الترسبات السلبية العديدة والمتنوعة، التي أدت في الأخير إلى فقدانها مفعولها في المجتمع مدخلا للترقي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفكري فضلا عن تشكيل الوعي السياسي بالدرجة الأولى، الذي يعمل على تخليق الإرادة السياسية في الفعل، وفي خوض المعارك لأجل بناء الدولة والوطن والمجتمع تحت أنظار العقل والدين والأخلاق، والعلم بكل مكوناته وأدواته.
هذا التآكل أدى بدرجة كبيرة إلى ضعف ناتج التعلم عند المتعلم، وهي نتيجة لا تتحمل فيها المسؤولية هيئة التدريس وحدها، وإنما المسؤولية مشتركة بنسب مختلفة، أكبرها يؤول إلى الوزارة وأجهزتها التدبيرية التي تقرر كل شيء من ألفه إلى يائه. وهو ما انعكس على الأفراد والمجتمع والدولة مشاكل وقضايا تغطي سماء الوطن الحبيب، وعلى التنمية بشكل كبير جدا، وما سمح بتوطين الفكر الصياني لا الفكر الإبداعي في نمط تفكيرنا؛ وما عاد على مجمل القطاعات الحياتية باختلالات كبرى، حيث فقدت الجودة وأغلب القيم الإيجابية عنها. وأصبحنا أمام ظواهر سلبية في القطاعات العامة والخاصة على حد سواء، لا يمكن لذي عقل أن ينكرها.
وهذا التآكل مازال يفعل فعله في سيرورة الممارسة الصفية، التي تعاني هشاشة التكوين الأساس والمستمر والذاتي، والإمساك بالحقول المعرفية المدرسة بشكل جيد، والإلمام بتفاصيلها وإشكالياتها المعرفية والمنهجية والموضوعية والأدائية، في غياب الممارس البيداغوجي المختص عن سلك الابتدائي، وغياب بعض الاختصاص عن سلكي الإعدادي والثانوي؛ حيث يتم تفعيل الفكر الصياني والترقيعي في مواجهة ذلك عبر التكليف بأدائها وتنفيذها من هو تخصصه قريب منها أو مجاور لها، كتكليف تدريس التربية الإسلامية لأستاذ مختص في اللغة العربية، أو تكيف أستاذ مختص في علوم الحياة والأرض لتدريس الرياضيات أو الفيزياء؛ وهكذا مع العديد من المشاكل والإشكاليات الحادة التي يتم رتقها بالأسلاك والخيوط المتنوعة.
من أساسيات المنظومة التربوية والتكوينية في العالم توفير بيئة مريحة لأطر هذه المنظومة من كل جوانبها وأبعادها ومجالاتها بدء من إغنائهم بما يحول دون طلب المعيش اليومي بسبل مختلفة لاستكمال دورة الحياة لديهم أو طلبهم مساحات إضافية تريحهم وأسرهم وتزيدهم استقرارا ورفاهية؛ وقد عملت الدولة على تلبية ذلك من خلال زيادات عديدة وخدمات مختلفة في غالبها ثابتة على مسافة زمنية طويلة، لم تعهدها الأزمنة الماضية من تاريخ هذه المنظومة المنكوبة، لكنها مع تطور الحياة ومتطلباتها، والزيادات المتتالية في أسعار المواد الأساسية والضرورية للحياة، وفي لوازمها الشرطية؛ لم تعد تلك الإضافات والزيادات في الأجور كافية لتلبية مطالب المعيش اليومي فأفقرت أطر المنظومة التربوية والتكوينية، وأحالتهم إلى طبقة الفقراء الجدد في المجتمع المغربي، وتآكلت أجورهم ورواتبهم وتعويضاتهم من الداخل نتيجة التضخم الاقتصادي؛ بمعنى الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار وارتفاع تكاليف الحياة بما فيها الخدمات. فأشغلهم طلب المعيش اليومي عن التفرغ للمنظومة التربوية والتكوينية في كيفية تلبية مستلزمات الحياة لهم ولأبنائهم وأسرهم وعائلاتهم، خاصة أن أغلبهم واردون إلى هذه المهام والرسالة من الطبقة الوسطى والطبقة الشعبية التي تعيش التهميش من السياسوية المقيتة والاستغلالية والاستفزازية، التي لا تترك هامش الحركة للمهمش وإلا استغلته لصالحها بما في ذلك الركوب على معاناته في صناديق الانتخابات بإحالته رقما في رصيدها.
ونظرا لهذه الوضعية التي استمرت مع تعاقب سياسات تعليمية لا تعرف أولوياتها ولا أساسيات ومرتكزات الانطلاق الفاعل لإصلاح المنظومة التربوية والتكوينية نحو تحقيق الغايات والأهداف، ولا تملك رؤية استراتيجية للتربية والتكوين والحاضر والمستقبل فضلا عن تركيم الإخفاقات في الإصلاح من حيث حل المشاكل والإشكاليات بخلق أخرى بمنطق تأزيم المأزم. هو الذي أخذ هذه المنظومة إلى الأزمة الحادة التي تعيشها تحت وطأة الإضرابات والعصيان المهني، التي تجد في مكان ما مبررات لها مقابل وجود العديد من المسوغات التي تستدعي مراجعة صيغ الإضراب والتعاطي مع هذا الوضع بتفكير مغاير من خارج العلبة السوداء. ذلك؛ أن مقاربة أزمة منظومة التربية والتكوين بمنظور عميق يستشف مؤشرات سيميولوجية، تؤدي إلى بعض الصور المستقبلية للمنظومة التربوية والتكوينية بناء على الحالية، كالتالي:
*إذا نظرنا إلى الناتج التعليمي للمنظومة العميق نجده يؤول إلى الصفر؛ فالناتج الحقيقي للمنظومات الجيدة والرائدة عالميا هو حاصل التفكير عند المتعلم، لا حاصل المعلومات والمعارف فقط، وحاصل كفاءة الأداء لا حاصل الإجراء. بما يؤسس إنسانا مفكرا، تفكيره متنوع ومستقل وحر، ونقدي وإبداعي؛ يعتمد على خلق الفارق بين التخلف والتقدم، بين الجمود والتطور. يبدع مناطق جديدة غير مسبوقة في النمو الفردي والجماعي والمجتمعي، التي تضمن التطور والتجدد على مختلف المستويات، وفي مختلف المجالات والقطاعات. وهذا الناتج لا نجده في منتوج المؤسسة التعليمية بصفة عامة، وإنما كاستثناء في بعض الحالات. وهو ما يؤدي إلى الاتكال على التوظيف لدى الدولة دون إمكانية خلق فرص عمل ذاتية ناجحة، والتي في مكان ما نجدها محاصرة بالاسترزاق والاحتكار الاقتصادي والتجاري الوطني والمحلي فضلا عن العالمي. ولعل شيوع شركات الاستيراد والتصدير مؤشر دال على هذا الحصار للطاقات الإبداعية الوطنية، ويضايق فرص العمل الحر الناجح والباني للتنمية في كل المجالات الحياتية.
*وأما ما قرر من مناهج وبرامج وخطط وهندسة تربوية وتكوينية وتعلمات وأنشطة وموارد، فهي تساهم بقسط وافر في ضعف ناتج التعلم هذا، وتزيد المنظومة ضعفا وسلبية تجاه صناعة الإنسان المفكر القادر والمستقل والحر والمبادر. بل هي بحمولتها ومتنها التعليمي التقليدي المتهالك تصنع العجزة والمسنين معرفيا وأداء وتفكيرا. دورهم فقط تلقين النشء ما خزن في ذاكرتهم الجمعية من موارد قديمة ومتقادمة تجاوزها العصر، وهي غارقة في الماضوية لم تتجاوز في أحسن أحوالها المحصلة المعرفية لعصر النهضة، ومازالت تتغذى وتنتعش على فكر الآخر، ولم تخرج بعد من عباءته نحو استقلالية ذاتها وموضوعها وأدواتها وقاموسها ونظرياتها. فهي رهينة أطروحات الآخر في الإصلاح وتجاربه وخبرته، فاقدة الثقة في نفسها؛ مما يحيلنا على عدة أسئلة مؤلمة وحارقة مفتوحة في وجه السياسي التربوي والمدبر التربوي والتكويني والمجتمع برمته؛ أصعبها يفيد التساؤلات التالية: لماذا يتواطأ أغلبنا بوعي أو بدون وعي على المنظومة التربوية والتكوينية بالتجاذب والتدافع الداخلي الذي يستنزف جهدنا وزمننا وطاقاتنا، ويضيع علينا فرص التطور والنمو والتقدم؟! لماذا هذه الأزمة المزمنة لم تستطع تجاوز ذاتها بإيجاد حلول جذرية ونهائية طلبا للشفاء من عقدنا النفسية والاجتماعية، وسعيا إلى تأسيس تكامل وتناسق وانسجام نحو رفعة هذا الوطن السعيد؟ ولماذا لا نتقاسم جميعا آلام وأحزان ومسرات وأفراح هذه المنظومة من أجل بناء الإنسان المغربي على أسس متينة تساير معطيات العصر المتنوعة والمستجدة؟ لماذا؛ ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي مازلنا نناقش أساسيات العيش وسبل الاستغناء والإغناء دون اتقاء الفقر الفكري والتخلف الحضاري؟ لماذا السياسي وهو يمثل الشعب بغطاء ما وتحت صفة ما، دائما مفارق لتطلعات هذا الشعب، ويخدم ذاته قبل كل شيء؟ لماذا السياسة التعليمية تشهد باستمرار فجوات وانقطاعات وانعطافات حادة وكبيرة سلبية وموجبة كالتيار الكهربائي المتردد؟ إلى متى سيظل وضع المنظومة التربوية والتكوينية سيئا إلى هذه الدرجة؟ وما آفاق هذه المنظومة وهي على هذا الحال؟
أسئلة تمتد جذورها إلى أمراض العقل العربي والإسلامي الذي يمتنع عن الاعتراف بأمراضه وطلبه العلاج؛ فالعقل المريض بكل أنواع الأمراض والعاهات لا يمكن أن ينتج إلا الأمراض والعاهات والمرضى. فلن يشيد سوى الأزمات والآلام والنكبات التي تتجمع في بحر التخلف. وعليه؛ فمنظومة التربية والتكوين بكل مكوناتها وأدواتها وأجهزتها ونظرياتها لن تنجح في تجاوز الأزمة الحالية لأنه يوجد شرخ كبير بين السياسي وتنسيقيات أطر المنظومة والنقابات ذات التمثيلية؛ حيث السياسي لا يعترف في حواره بالتنسيقيات لعدم وجود تمثيلية رسمية لها في اللجان الثنائية، مقابل اعترافه بالنقابات لوجود ذلك الشرط، وهذه الأخيرة النقابات لا يوجد لها امتداد طبيعي في التنسيقيات يسمح لها بتمرير نتائج الحوار إلى القواعد والتنفيذ، وبالتالي نجد الحوار فاشلا من البداية لعدم وجود خيط ناظم بين الأبعاد الثلاثة للقضية التربوية والتكوينية، فضلا عن وجود ألغام شديدة الانفجار داخل المشكلة التربوية والتكوينية ونظامها القانوني والتشريعي والتربوي والإجرائي. فمثلا الانحياز المجاني إلى فئة دون فئة أخرى، والتمييز بين مكونات المنظومة يؤدي بطبيعة سيرورة المتناقضات إلى نسف النسق التربوي من الداخل. فمثلا التمييز بين هيئات التدريس في الدرجات وأرقام رتبها يعد قنبلة موقوتة في وجه المشرع التربوي والسياسي، خاصة أن هذه الفئات تتوحد عندها شروط ومطالب التوظيف، ويفرقها فقط الاختيار حسب المناصب وحظوظ النجاح، وهناك في مجالاتها اختلاف من حيث الحقول المعرفية للمباراة. أما شروط الدخول إلى المراكز الجهوية للتربية والتكوين فواحدة موحدة. فغياب وعي السياسي بمكامن النسف من الداخل أو غض البصر عنها يؤدي إلى ما نحن عليه اليوم من ضياع الجميع، المتعلم، أطر التربية والتكوين، السياسي، المجتمع، الحاضر، المستقبل. كما أن النضال بعقل شعبوي من خارج تدقيق مفرداته قانونيا وموضوعيا، يؤدي إلى مشاكل شائكة لن يستطيع النضال أن يبررها موضوعيا وقانونيا وأخلاقيا؛ كتلك المفردات التي تعطل المواد القانونية في القانون أو العقد، مثل ما سطر في بعض البيانات النضالية من عدم استقبال هيئة المراقبة التربوية من طرف هيئة التدريس، الذي لا يتكئ على مادة قانونية تسمح بذلك. فالقانون المنشور في الجريدة الرسمية أقوى من قوة بيان النقابة أو التنسيقية؛ فلو افترضنا أن الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين رفعت دعوى وشكاية أمام القضاء الإداري بعدم استقبال ممارس بيداغوجي لمؤطره التربوي ورفض دخوله إلى الحجرة الدراسية، فأول إجراء سيقوم به القضاء النظر في الفعل من الناحية القانونية، ويبحث في حججه. ما يستدعي الإدلاء بالنصوص القانونية التي تسمح بهذا الفعل، فلن يجدها إلا في إطار البيان، لا في إطار النص التشريعي المنشور في الجريدة الرسمية وبنود العقد. وبذلك سيكون الحكم لصالح القانون والعقد طبعا. فصيغ النضال يجب أن تراجع وتدقق قانونيا، وتخرج عن إطار التفكير العاطفي والشعبوية والذاتية والتهور، وتكون في مفاصل موجعة، مبررة قانونيا وتشريعيا نضاليا. وفي إطار المعقول والواقعي والقانوني وقابلية التنفيذ.
*انشغال السياسي والمدبر التربوي والمجتمع بمشاكله الكبرى عما يوحدهم اتجاه إصلاح وإنقاذ منظومتنا التربوية والتكوينية من الإفلاس، التي ستؤول في الأخير إلى الخوصصة أو إلى رؤوس الأموال للاستثمار فيها، وقد ظهرت البداية مع انتشار المؤسسات التعليمية الخاصة في المدن المغربية وقراها كانتشار النار في الهشيم، تأكل من مدخلات المؤسسة التعليمية العمومية إلى أن تقضي عليها بصفة نهائية، حيث سيتسيد التعليم الخصوصي المدن الكبرى، ويبقي على التعليم العمومي لهوامش الحواضر والمدن، والمداشر النائية، وللفقراء والمساكين المعدمين؛ وبذلك سيقضي هذا التعليم على الوظيفة العمومية بكل صيغها في قطاع التربوية والتكوين بكل أسلاكه بما فيها الجامعي. فإذا كانت اليوم لنا فرص التوظيف؛ فغدا لن تكون هذه الفرص متاحة لأبنائنا أو أحفادنا، ولن يكون أمام هؤلاء الاختيار لوجود اختيار واحد هو الاشتغال بقطاع التعليم الخصوصي وتحت سقف شروط المشغل. لذا؛ علينا نحن الطبقة الشعبية أن يعي هذا المعطى، ونستوعب المستقبل الذي يحضر لنا من الرأسمالية المتوحشة التي لن يضيرها فشل أو انهيار التعليم العمومي لأنها الرابحة من ذلك. فعلينا أن نعي برؤية ثاقبة وحادة المصيدة التي وقعنا فيها بحكم التسيب الذي يسود هذا المجال؛ الذي هب إليه الكفء وغير الكفء، القادر والعاجز ... بناء على كونه مجال مستباح للكل على حد سواء كالمجال السياسوي الذي يقوده؛ حتى بتنا يقودنا الجاهل الذي لا يحسن ضبط جملة بالشكل، ولا يثقن لغته العربية، وهم نماذج لمهرجين سياسويين لا قادة سياسيين ورجال دولة. لا يهمهم من هذه الحياة إلا أنفسهم وأسرهم وعائلاتهم، أفقرونا وركبوا على فقرنا واستغلوه بعطايا ومنح وتبرعات هي في الأصل حقوقا لنا سلبت منا لأننا حطمنا ومازلنا بمعيتهم نحطم حاضرنا ومستقبلنا.
ومن باب الواقع المعيش والخبرة والتجربة في الميدان التربوي والتكويني والعلمي والبحثي ألفيت مشكلة التعليم وأزمته مستمرة منذ اشتغلت بهذا القطاع. وأنا اليوم أبلغ من الكبر عتيا، وقد غادرت المهنة الرسالة، والمشكلة والأزمة مادامت قائمة بيننا، يتوارثها جيل مهني بعد جيل بأشكال وصيغ وأطروحات متنوعة ومختلفة بلا حلول حاسمة ولا إجراءات فاعلة تنهي الأزمة نهائيا لتتفرغ المنظومة إلى بناء الإنسان المغربي المتساوق مع العصر، الفاعل في مجتمعه والمنفعل بقضاياه نحو التطور متعدد الوجوه والاتجاهات والمجالات. وقد سبق لنا في سياق النقد البناء أن قدمنا للجهات العليا في المنظومة وعلى مستوى رأسها، وبتعدد ألوان هذا الرأس السياسية والإيديولوجية والفكرية توصيات في أكثر من ندوة ومؤتمر علمي ومحاضرات ودروس وبحوث ومقالات منشورة، وغير منشورة؛ لأجل الإصلاح المعقلن والعلمي تحت سقف التجربة والخبرة الوطنية، بما يقطع مع مكامن الضعف في المنظومة التربوية والتكوينية، لكن مع الأسف الشديد اعتبر بعض لوبيات وبيادق المنظومة أننا من المارقين الحاقدين على المنظومة، واتهمونا بما ليس فينا، ولهم ذلك في كتبهم الى يوم الدين، نتحاسب عليه؛ وأزاحوا تلك التوصيات من التداول رغم استفادة البعض منها، في التزلف لأهل القرار. ومهما كانت معاناتنا كبيرة وشديدة الوقع، فهي ضريبة لابد من دفعها لروح وعيون المنظومة التي نكن لها أصدق مشاعر الود والحب، وأصدق المتمنيات بالتطور والتجدد والتوفيق، لأنها مدخل نماء المجتمع والوطن والأفراد.
ومازلت لحد الساعة أجد في هذه المنظومة انحصارا شديدا يوقعه العقل العشوائي المرتجل المتخبط، الذي لا يدري ماذا يفعل! ومازالت بعض الأقلام النيرة والواعية لخبراء مغاربة تسدي النصيحة وتقدم التوصيات والإرشادات دون أن يلتفت إليها بعض مقرري المنظومة، ويعدون ذلك ترفا فكريا صالحا للاستهلاك الإعلامي لمنشوراتهم وإنتاجاتهم الأدبية التربوية. ويلقون بكل ذلك في سلة المهملات. وهو السلوك الذي يأزم الوضعية ويراكم السلبيات، ويديم المشاكل ويطيل أعمارها. والحقيقة تتطلب من هؤلاء ومن غيرهم الوقوف أمام أنفسهم بمحطة نقدية ذاتية، لعلهم يطرحون على أنفسهم أسئلة المسؤولية التي يتحملونها اتجاه الوطن والمجتمع والأجيال الحالية والمستقبلية، ويواجهونها بأسئلة الضمير الإنساني والأخلاقي النافذ إلى أعماق ذواتهم، ليحركوا الراكد منها وفيها. فالتاريخ يسجل ولا يرحم، فيرمي بالقمامة غير القابلة للتدوير في مكب النفايات، ويبقي على القامات الشامخة التي تؤثر في المجتمع والإنسانية دون عواطف ومجاملات ومحاباة. ومنه على كل إنسان في القطاع التربوي والتكويني، خاصة، لأن هذا القطاع هو قطاع إنساني وأخلاقي ورسالي بامتياز؛ أن يسأل نفسه: ماذا قدمت لوطني وللمجتمع وأبنائه في حدود استطاعتي؟ هل كان له مردود على مستوى الكم والنوع؟ هل ما قدمته له أثر يساير الحاضر ويعد للمستقبل أم هو استهلاك للطاقة والزمن وتضييع للحاضر والمستقبل؟ أي درجة أتحمل بها المسؤولية في تطوير وتجديد المنظومة التربوية والتكوينية من موقعي؟ هل أنا فاعل أم ساكن أم منفعل أم متفاعل؟ ... أسئلة ذاتية تشرق شمس الإجابة عنها على وعيه.
*مازال بعض السياسويين ينظرون إلى المنظومة التربوية والتكوينية نظرة قاصرة، ويعتبرونها عنصرا ماصا للميزانيات والأغلفة المالية الكبيرة والضخمة، فهي منظومة غير منتجة، ويجب التخلص منها، وقد قال يوما ما، من المفترض فيه الحرص على بقاء المنظومة التربوية والتكوينية قائمة مجانية انطلاقا من مرجعيته الدينية والأخلاقية المزعومة، يجب على الدولة أن ترفع يدها عن قطاع التعليم؛ وهي دعوى صريحة إلى خوصصة التعليم، لأنه صاحب مؤسسة تعليمية خاصة. وهي نظرة غير صادقة لأن الفارق بين الدول المتقدمة والمتخلفة هو فارق المنظومة التربوية والتكوينية بين الجودة والرداءة. وما تقدم الأمم في ألفية المعرفة سوى الاعتماد بالأساس على هذه المنظومة وجودتها، فهي التي تخلق العقول المفكرة والمبدعة من خارج الصندوق. لذا؛ فالأمم تولي اليوم المنظومات التربوية والتكوينية العناية الفائقة من كل نواحيها. لكن للتخلف موطن في العقول البسيطة والساذجة والسمجة، لن يخرج عن النمطية والتعليب والتقليد والخطية الأفقية المستمرة في التفكير ومقاربة الأشياء. ولن يعتبر قطاع التعليم سوى هدرا للأموال، وفي موطن من مواطن هذه الرؤية نجد ما يبررها بنسبة معينة. فحين تجد السياسي التربوي يجري قطيعة مع معطى سابقيه، فهو يحرق كل شيء بما في ذلك الأموال والناتج والأشخاص. وليكن مثالنا ما وقع مع بيداغوجيا الإدماج؛ فقد جاء رأس المنظومة رحمه الله وهو مشبع بوجهات ورؤى الآخرين الذين وجدوا أنفسهم مقصيين من كعكة البرنامج الاستعجالي وخارج حصصه المالية الريعية. فأوعزوا له بأن البرنامج الاستعجالي فاشل من الانطلاق، يستهلك الأموال الطائلة، ولا فائدة منه ونحن هنا لا نزعم أننا مع البرنامج أو ضده، وإنما نحن مع الدراسات والبحوث النظرية والميدانية التي تكشف السلبيات والإيجابيات، والتي تصادق بالحجج وبالموضوعية على فشله أو نجاحه فعمد إلى إلغائه وضرب ما أنجز في الصفر، وقد ناقشناه أكثر من مرة في بعض القضايا البيداغوجية والتربوية ضمن اجتماعات ودورات مجلس الأكاديمية الجهوية لجهة الحسيمة تازة تاونات، فكان يحيلنا على المفتشية العامة التربوية للحوار والمناقشة، وكان صريحا معنا وهذه الصراحة تسجل له بمداد الذهب في ميزان حسناته رحمه الله أنه لا يعرف المسألة البيداغوجية لأنه غير متخصص فيها، ونحن نقدر له ذلك، وكثيرا ما دعمناه في بعض قراراته الصائبة التي عملت على الحد من بعض التسيب في القطاع. وكان يطلب الدليل والحجة في طرح القضايا ويحرص كل الحرص على الإجابة عن الأسئلة الشفهية أو المكتوبة. ولا يهمل شيئا، وهنا نستغرب كيف أوقف البرنامج، خاصة منه بيداغوجيا الإدماج دون أن تستوفي دورتها الزمنية والتنفيذية والإجرائية الميدانية، ودون تقديم بين يديه الحجج والأدلة. وكان رحمه الله جريئا وصريحا إلى أبعد الحدود مع نفسه والآخر؛ لكن مع الأسف دائما لوبيات المنظومة ولوبيات ومجموعات مقاومة التغيير يحاربون كل خطوة إيجابية إلى الأمام. ويئدونها في المهد ويدسونها في التراب وهي حية! فضاعت بذلك التوقيف جهود كبيرة بذلت من أجل الإصلاح، وضاعت معها تلك الأموال الطائلة التي صرفت في البرنامج الاستعجالي، الذي وسم بالفشل دون دلائل وحجج حقيقية تشهد على ذلك. نعم هناك هفوات وخطوات خاطئة ذكرناها في وقتها في عدة محطات حوارية ولقاءاتنا الفكرية والمهنية ونشرتها بعض كتاباتنا في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية.
ومن ينظر إلى المنظومة التربوية والتكوينية هذه النظرة السلبية، تكون مقاربته مادية صرفة تعتمد على المردود الآني، وأي إصلاح سيقوم حتما عنده على الحسابات المالية وفق قانون الربح والخسارة، دون أن ينظر إلى العائد المعرفي والفكري والثقافي والاقتصادي والنفسي والإنتاجي والتنموي على المدى البعيد. فهو عند الزيادة مثلا في الأجور يرى فيها الغلاف المالي الإجمالي الذي سيصرف. فالزيادة يحسبها بعدد أطر المنظومة مضروبا في رقم ومبلغ الزيادة الفردية، وبذلك يقررها أو يحذفها أو يعدلها؛ وكثيرا ما يقرر الزيادة المنخفضة لكيلا يعظم عنده غلافها، ويحاول على هزالتها الأكل منها بالضرائب والاقتطاعات فيزيدها هزالة، وهكذا يخلق مواطن الاختلاف ومواطن الاحتقان في المنظومة مما يسبب في أزمات عدة. ولا ينظر إلى الراحة والاستقرار النفسي والمهني التي تولده الزيادة المشرفة لأطر التربية والتكوين، فتشكل عاملا مساعدا ومساهما في الاهتمام بالممارسة الصفية وبتطويرها والإبداع فيها، حيث يكون عقل الإطار التربوي والتكويني متفرغا لأداء مهامه ورسالته على الوجه المطلوب. ومن ثمة تجب الدعوة إلى الخروج من هذه النظرة السلبية للمنظومة إن أردنا الإصلاح. وأي إصلاح داخل هذه النظرة لن يكتب له النجاح لأن المعني الأساسي بالممارسة الصفية مغيب عقلا وفعلا وأثرا.
*مازال التكوين الأكاديمي والمهني لأطر المنظومة التربوية والتكوينية أقرب منه إلى التدريس المدرسي، وأبعد منه من التكوين المهني والتأهيل الأكاديمي المتخصص والعميق الذي يمكن أن يعتمد مثلا على بيداغوجيا التناوب " pédagogie de l'alternance " بصيغها المختلفة والتدريب بالتناوب " formation en alternance " بأشكاله المتنوعة، ويمكنه تنويع استراتيجيات التكوين الأكاديمي المهني في المراكز الجهوية للتربية والتكوين؛ مما يخرج أطرا تقنية للصيانة والترقيع أكثر منه أطرا تربوية وتكوينية مفكرة ناقدة مبدعة، واعية بالممارسة الصفية فهما واستيعابا وتحليلا وإعدادا وأداء وتطويرا وتجديدا، ومعالجة للإشكاليات والمشاكل المتنوعة الواقعة في سياقها وسيرورتها وأدواتها وأجهزتها واستراتيجياتها. ما يؤثر كثيرا على ناتج التعلم عند المتعلم؛ لذا وجدنا كثرة الدعم الذاتي والخارجي والمؤسسي. وهو مؤشر سلبي على ضعف وظيفتها بالنسبة للأفراد والمؤسسات والمجتمع والحاضر والمستقبل كما قلت سابقا، يفقد الثقة بالمنظومة التربوية والتكوينية العمومية، وينحو بها نحو الانعزال في المجتمع وهجرها وضرب دورها في التنمية البشرية والحجرية. وهو وضع يدعو أطر التربية والتكوين إلى مراجعة الذات أثناء التكوين الأساس والمستمر بتفعيل التكوين الذاتي لأنه التكوين الحقيقي الذي يؤهل الأطر للقيام بواجبها المهني ورسالتها التربوية، ويقود إلى تحصيل الخبرة والتجربة البانية للمؤهلات والكفايات والكفاءات. ونحن نلمس في الميدان هجر الطبقات الاقتصادية الغنية بما فيها السياسوية المدرسة العمومية نحو المدارس الخاصة المحتضنة من المنظومات التربوية والتكوينية الغربية أو نحو مدارس الخارج في الغرب لتدريس أبنائها، وإعدادهم لقيادة البلاد والعباد بحكم الكفاءة العلمية التي يتحصلون عليها، وبحكم موقعهم النخبوي المتميز بما يمتلكون من معرفة بما هي عنصر قوة لديهم ترفعهم إلى مواقع القيادة بثقافتهم الغربية ومحصولهم الأكاديمي الذي نقف أمامه نحن الفقراء معرفيا وأكاديميا ومهنيا عاجزين، وغير قادرين على مسايرتهم، وعلى نديتهم إلا القليل منا من كون نفسه بنفسه، فكان عصاميا. وأما والوضع الحالي للمنظومة التربوية والتكوينية المأزوم الذي نزيده ببعض تصرفاتنا وسلوكنا الشاذ وإن كان غير عام ونشاز في سياق العموم تأزيما وسوداوية في نظر البعض، كأن يتصدى المشهد النضالي كل انتهازي مصلحجي أو متهاون ومتخاذل وفاشل في أداء رسالته النبيلة أو أن يتصدى لذلك كل مهرج فرجوي لا ينطق بكلام موضوعي ومنطقي وعلمي بمستلزماته الدالة دلالة قاطعة على الكائن في الواقع المعيش. أو كأن يعيش متعلمونا الفقراء والمعوزين الإهمال باسم النضال في مقابل أن يذهب المناضل إلى العمل في التعليم الخصوصي. وهناك صيغ كثيرة لمساعدة هؤلاء المتعلمات والمتعلمين في الرفع من كفاءاتهم بتمكينهم من الموارد والتعلمات والأنشطة التعليمية وبناء الكفايات والقدرات والمهارات والمعارف والتفكير لديهم؛ وذلك من خلال الاشتغال المجاني معهم في أماكن خاصة أو عامة أو في الهواء الطلق في أوقات خارج أوقات النضال، لكيلا يظل أغلبهم في الشوارع والمقاهي، وفي فضاءات مفتوحة على الهدر الإنساني والأخلاقي، وقتل الطاقات. فهؤلاء المتعلمون الفقراء والمعوزون علينا نحوهم مسؤولية مباشرة في الحفاظ عليهم ودعمهم بكل الوسائل والسبل والإمكانيات للارتقاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمعرفي والسياسي. فهي مسؤولية لا تسقط بأية حجة حيث مرجعيتنا الدينية والأخلاقية والإنسانية تفيد تفعيل قيم التضامن والمساندة والدعم والاحتضان والمساعدة، وتوجب علينا ذلك بأحكام شرعية ووطنية. وفي سياق هذا التضامن أتمنى على الكفاءات التعلمية من أبناء الفقراء والطبقات الهشة اقتصاديا، من اكتسبت منهم الكفايات والقدرات والمهارات والمعارف الكافية لاجتياز الأقسام الإشهادية أن يتدارسون مع إخوانهم وأخواتهم الفقراء ما اكتسبوه، ويعملوا على رفع مستوى مردوديتهم الذاتية لمواجهة الفارق القائم بين هؤلاء ومتعلمي التعليم الخصوصي الذين يوجدون الآن في أقسامهم، يتابعون دراستهم بمن ترك أقرانهم في العمومي تائهين في الشوارع، ولم يجر النضال إلا في العمومي لا الخصوصي. ولكي يواجهون بذلك أولئك الذين يهدمون المؤسسة التعليمية العمومية بصمت ونعومة، وأدعو للجميع بالتوفيق لأنهم أبناؤنا كلهم بهم سيرقى وطننا العزيز.
فعلينا أن نسد مجموع الثغرات التي تقع في مكونات المنظومة التربوية والتكوينية العمومية إن أردنا أن نبقي عليها حية ومستمرة في المجتمع ودائمة. وأما إن ظل الحال كما هو عليه اليوم، فالمنظومة ذاهبة للسقوط، وسأضرب مثالا حيا من واقع مؤلم لمؤسسة شهد تاريخها التربوي ناتجا تعليميا مميزا ومتميزا، وهي ما كانت في يوم ما تسمى مدرسة الحسن الثاني بالمدينة الجديدة بفاس، وبعد عقود من الزمن هجرتها مدخلاتها التي تشكلت في الغالب من أطفال الحي الذي تستوطنه نحو التعليم الخصوصي، ونتيجة بناء عمارات عديدة على أنقاض الفيلات والدور التي كانت تستقر في الحي. والهجر والهجرة عاد على المؤسسة سلبا حيث أغلقت ثم حولت إلى مقتصدية لبيع المواد الغذائية والأجهزة المنزلية ثم أفلست هذه التعاونية الاقتصادية وأغلقت المؤسسة التعليمية من جديد، وهي اليوم حزينة تتألم لإهمالها، فغدا بابها الرئيس مطرح الأزبال لاستقرار حاوية أزبال بجانبه، وكأني بها تقول للمؤسسة التعليمية العمومية لا قيمة لك ولتاريخك في حياتنا العامة، فأنت عنوان الفشل الذي يستوجب الإهمال ورمي القمامة في وجهه؛ دون التفكير في تكريمك بتحويلك إلى متحف تربوي يحوي تاريخ التربية في المدينة السعيدة من كتب ومقررات وقوانين وتشريعات ومذكرات ووثائق متنوعة وتجهيزات وأدوات ووسائل تخص التعليم بالمغرب سواء في عهد الاستعمار أو الاستقلال. أو تحويلها إلى معمل تربوي للتجارب والبحوث خاص بمشاريع المتعلمات والمتعلمين، والاشتغال عليها كما في المنظومات التربوية والتكوينية المتطورة والمتقدمة.
فحاوية الأزبال والقمامة الملقاة بجانبها غيض من فيض الرمزية التي تشير أن التربية والتكوين العمومي في الفكر السياسوي والرأسمالي والنخبوي والشعبوي كذلك، تقع على قارعة الطريق كالقمامة، ولا تساوي عند الرأي المحلي شيئا، فهي على هامش الإنسان المهموم بالمعيش اليومي، والمشغول عنها بطلب المستلزمات الأساسية للحياة، وإن كان هو المعني الأول بهذه المنظومة لموقعها المهم في ارتقائه في المجتمع. وهي المنظومة التي تفقد الإحساس بما تعاني منه من إهمال وضياع، من قبل ما يسمى المنظمات المدنية، التي لم ترفع الصوت بالدفاع عن تاريخ ورمزية هذه المؤسسة القابعة داخل جدران مغلقة.
فضعف التكوين والتأهيل الأكاديمي والمهني لأطر التربية والتكوين؛ خاصة منهم الممارس البيداغوجي يقوض الأداء المهني وناتجه التعليمي، ما يشكل تصورا وتمثلا سلبيا عن المنظومة، وعن أطرها، ويحيلهم على النقد والنقد الحاد والمؤلم في بعض الأحيان. ما يطلب الدفاع عنها بكل قوة قبل الدفاع عن الحقوق والواجبات. ويقود إلى انتزاع الاعتبار من جديد مع الثقة، التي تدفع العامة إلى مؤازرة أطر التربية والتكوين ودعمهم في تحصيل مطالبهم المشروعة، وتمحي من الذاكرة المجتمعية الجمعية تلك الصور والتمثلات السلبية عن أطر التربية والتكوين، وتبقيهم في مرتبة الرسل حاملي الرسائل النبيلة الإنسانية نحو الإنسان. فلن نجد من ينكر عليهم بعض الأخلاق والمسلكيات والسلوك السلبي إن لم أقل المشين. ونحن هنا ننقل بعض الآراء الواردة في إطار الاحتجاج على المنظومة وأطرها. ونوصف واقعا نلمسه في يومياتنا كآباء، وفي يوميات أبنائنا وأحفادنا من ابتزاز، وأحكام قيمة سلبية، وتغيبات غير مشروعة، وتحيزات، وتدخلات، ومحاباة ... والتي لا يمكن إنكارها من كل ذي مروءة وموضوعية وعقل سليم، لأن النسق التربوي والتكويني من النسق العام للمجتمع العام، يقع فيه ما يقع في النسق الأكبر. وهو نسق فيه مما ذكر الكثير.
من أجل الاستدراك:
وتبقى المؤشرات السيميولوجية لأزمة المنظومة التربوية والتكوينية مفتوحة على الكثير من المشاكل والقضايا والإشكاليات المعقدة وشديدة الأثر على أدائها ومخرجاتها. لذا نجد من الحكمة عدم الدخول في شد الحبل إلى أن ينفصم يمينه عن يساره، وتحل الكارثة على أجيال المستقبل وعلى مستقبل البلاد، وأن تركن الحكومة والنقابات وتنسيقيات أطر التربية والتكوين إلى الحوار والحوار البناء على أساس المصلحة العامة للمتعلم، بما يفضي إلى حلول وسطى لا تجحف حق أحد وتلغي أحد، وإنما حلول متوازنة مبنية على استحضار مكامن الإجحاف والأخطاء والسلبيات، ومواطن الإمكانيات والقدرات المتاحة، وإمكانية الحلول الوسط التي تفي بالحقوق وتستفي الواجبات ضمن المستطاع الذي يطلع عليه الجميع ويؤمن به، وفي إطار بناء الثقة بين الحكومة والنقابات والتنسيقيات. فالحلول ممكنة إن وضعنا مصلحة المتعلم العليا هدفا نسعى إليه جميعنا من كل الاتجاهات والتوجهات، وألا نضعه في محرقة تجاذباتنا واختلافاتنا وخلافاتنا واحتقاناتنا.
فاليوم؛ علينا واجب التفكير في المشكل بعقل بارد وعن مسافة منه ومن خارجه، لنتحكم في مقاربته بالعقل والواقع وبإيجابية، دون التفكير فيه بعاطفة وتشنج، ومن داخله، وبتحيزات كبيرة اتجاه الذات وبأنانية عالية، ترمي إلى انتصار كل فريق على الآخر. ونحن هنا نريد أن نوضح أمرا؛ إذ الانطلاق من تمثلات وتصورات مسبقة أو الانطلاق من مواقف مسبقة أو من تجارب سابقة واعتمادها في الحوار منطلق خاطئ، فالانطلاق يجب أن يكون بنية حسنة ومن المشترك نحو المختلف للاتفاق عليه والتوافق بشأنه. والعمل على أن تكون الأطراف كلها رابحة، على قاعدة رابح رابح. والرابح الأكبر منها هي المنظومة التربوية والتكوينية والمتعلم. وتفهم الأطراف بعضها بعضا الآخر في تبادلية رياضياتية ذات اتجاهين متلازمين ومتساوقين ومنسجمين. فالمرحلة التاريخية تتطلب أن تكون المنظومة التربوية والتكوينية قوية وجيدة وفاعلة، غير هذه المتدنية على مستوى التصنيف الدولي والإقليمي التي تكاد تمارس محو الأمية في حده الأقصى. فنحن نقف يوميا على مدى ضعف المردودية الداخلية والخارجية حتى بات المتعلم لا يقوى على تحرير بحث علمي بمنهجية ومضمون وتحليل وتركيب إبداعي وجيد ودون أخطاء.
رجاء:
رجائي من كل الأطراف والمتدخلين أن يفهم بعضهم البعض من أجل أجيال المستقبل، ومستقبل البلاد، والخروج من الرداءة إلى الجودة، والرقي بالإنسان في مناحي شخصيته وإنسانيته وأخلاقه؛ بما يرفع المجتمع إلى مصاف المجتمعات المتقدمة والمتطورة، فعليكم البلد يعول في إحداث الفارق بين وجوده وعدمه مع الدعاء بالتوفيق والسداد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.