يعتبر موضوع التوظيف بالتعاقد أو التشغيل بالتعاقد مشكلا شائكا حقيقيا تتفاعل فيه عدة أبعاد، فهو يتجاوز الإطار التقني الضيق المرتبط بصياغة خريطة جديدة متحكم فيها للموارد البشرية التعليمية ليصل إلى أبعاد أوسع تهم نمط المشروع المجتمعي الشامل الذي نؤمن به وطبيعة النموذج التنموي الذي نريده وموقع الإنسان والمواطن في هذا المشروع، ونمط تهيئة وتكوين هذا الإنسان ليلعب الأدوار المنتظرة منه. كما يحيل موضوع التعاقد أيضا على تصورنا للدور الاستراتيجي للتربية والتعليم في المجتمع ويسائل الأهمية التي نعطيها للمرفق العموم المدرسي ودوره في تحقيق ديمقراطية التعليم وإرساء تعليم موحد تحقيقا للإنصاف وتكافؤ الفرص. وبغض النظر عن الارتباك الذي رافق تفعيل التعاقد بفعل ما سببه من أزمة بنيوية في تدبير الموارد البشرية لوزارة التربية الوطنية وما صاحب ذلك كله من تصاعد الاحتجاجات الميدانية لمن فرض عليهم التعاقد، فقد أصبح التشغيل بالتعاقد يشكل تحديا حقيقيا وسيقوم برهن مستقبل الإصلاحات حاليا وفق القانون 17-51 وستكون له آثار جد وخيمة على مستوى تحسين جودة المردودية الداخلية والخارجية للتعليم عن امتداداته وتداعياته السياسية والاجتماعية والتربوية وآثاره على الاستقرار النفسي والمهني للفاعلين التربويين وعلى فاعليتهم البيداغوجية أيضا. وبعد هذا التقديم المقتضب، لابد من الإشارة إلى أن فهم افلاس ومأزومية التعليم يستدعي مقاربة براديغمات تستلهم التاريخ السياسي والتعليمي المغربي والاقتصاد والتربية والإكراهات الدولية التي عانت منها السياسات العمومية. فالاجهاز على المرفق المدرسي العمومي، الذي قد يسميه البعض إصلاحا، كان خطة مدروسة ومبيتة وذات النفس الطويل وهي تستند على استراتيجيتين اثننين. الإستراتيجية الأولى، تتعلق بفرض التشغيل بالتعاقد والثانية تتعلق بخطة خوصصة التعليم. بالنسبة للإستراتيجية الأولى، نجد في الحقيقية أن البوادر الأولى للتفكير في التعاقد تعود الى أواخر الثمانينيات أثناء مرحلة انجاز التقويم الهيكلي التي اقترنت بتداول توصيات الصناديق الدولية الممولة، ومفادها أن ضرورة الحفاظ على التوازنات المالية تقتضي تخفيض كتلة الأجور وتقليص نفقات القطاعات الاجتماعية باعتبارها قطاعات غير منتجة حسب رأي منظري تلك الصناديق الدولية، وقد سايرت السياسات العمومية المغربية تلك التوجهات وخططت لتقليص كلفة التعليم خلال الفترة الممتدة من 1983 الى 1999 وذلك بالرغم من توصيات اللجنة الوطنية للتعليم المنعقدة سنة 1994 والتي دعت لمراجعة سياسات تمويل التعليم، لكن توصياتها قوبلت بالرفض وألغيت أشغالها واستبدلت في سياق آخر باللجنة الملكية للتربية والتكوين سنة 1999، وهي التي أنتجت الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي تشير المادة 135- أ منه صراحة الى تنويع أوضاع المدرسين الجدد الخ. ومنذ تلك الفترة حاولت الحكومات المتعاقبة تهيئ الظروف المواتية والآليات القانونية والتشريعية التي ستساعد على تفعيل التوظيف بالتعاقد، وقد كان هناك تأرجح أحيانا بين المبادرة الصريحة وأحيانا الضمنية، وذلك حسب تغيير موازين القوى ومدى ملاءمة السياقات الظرفية، المهم أن استراتيجية تفعيل التوظيف بالتعاقد تستهدف تفكيك بنية الوظيفة العمومية في التعليم وتتوخى إدخال قيم وأساليب التدبير المقاولاتي لمجال الموارد البشرية التعليمية دون أي اعتبار لخصوصية التربية وعدم قابليتها للتسويق حسب قوانين العرض والطلب هذا على صعيد الإستراتيجية الأولى المتعلقة بالتوظيف بالتعاقد. الإستراتيجية الثانية المعتمدة في الإجهاز على المرفق المدرسي العمومي، تقوم بتشجيع ودعم التعليم الخصوصي واعتباره رسميا ضمن المكونات الأساسية للمنظومة المدرسة المغربية، وذلك رغم أن الحق في التربية دستوريا في الفصل 31 من دستور 2011 تكفله فقط الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، ويضمن هذا الحق حسب الدستور الحصول على " تعليم ميسر عصري وذي جودة " فخصخصة التعليم المدرسي الذي استوعبت حاليا حوالي %20 من التلاميذ يساهم فعليا في تقليص نفقات التعليم العمومي، لكنها تخرق بشكل سافر مبدأ المدرسة الموحدة الموحدة التي هي شرط إقامة الإنصاف وتكافؤ الفرص.. فلا إنصاف ولا عدالة تربوية ولا مجالية إذا لم تكن المدرسة موحدة، وهذه هي نقطة ضعف الرؤية الإستراتيجية 2020-2030 التي تصورت أن الإنصاف يمكن أن يقوم رغم وجود المدارس الخصوصية والتمايزات والتفاوتات الاجتماعية، كما أن هذه الخصخصة لا تساير روح الدستور وباقي المقتضيات الحقوقية، وفي هذا السياق يمكن مساءلة السياسات العمومية المتبعة حول ما هي الغايات القصوى للتربية في المغرب؟ هل الهدف أن ننمط المتعلم بشكل يجعله قابلا للتسويق والادماج في سول العمل، أم ينبغي على أن نعمل على إعداده للحياة وللعيش المشترك، هنا نميز بين تصورين للمشروع المجتمعي. وارتباطا بموضوع تمويل التعليم كإشكالية تحد من تعميم التعليم منذ الثمانينيات، نشير إلى مفارقة تتمثل في أن المنطق يقتضي، كما هو في الدول المتقدمة، أن يزداد التمويل العمومي للمدارس العمومية كلما ارتفعت نسبة التلاميذ الملتحقين بالمدرسة الخصوصية، لكن العكس هو الذي يحدث عندنا، وبالتالي نقلص النفقات كلما ارتفع الالتحاق بالخصوصي، وهذا يخالف منطق الأشياء، يضاف إلى ذلك أن شرذمة وخصخصة التعليم العمومي تساهم في القضاء على التجانس الذي أشار إليه "إميل دوركايم Emile DURKHEIM" حينما أكد أن دور التعليم في إدراك الأطفال للتشابهات وللقيم المشتركة التي تتطلبها الحياة الجماعية والعيش المشترك. لقد أصبحا نعيش في جزر تربوية قائمة الذات، ولا توجد أية جسور بينها : فهناك مدارس عمومية ومدارس خصوصية ومدارس بعثات أجنبية متعددة، بحيث أنه لا يمكن في هذه الوضعية بناء مواطن فاعل وبحد أدنى من القيم المشتركة. فالولوج غير المتكافئ للمعرفة يتعارض مع روح عصر مجتمع المعرفة ويضرب في العمق دمقرطة المعلومة والبناء الجماعي للمهارات والكفايات، ويضاف إلى ذلك كله أن تفويت المدرسة العمومية لصالح مؤسسات منافسة فتح الباب أمام تكسير مبدأ الاختلاط المجتمعي، المدرسة العمومية التي أصبح يلجها فقط أبناء فقراء المدن وأبناء سكان الأرياف، فتقريبا حوالي 60 إلى 70 % من تلاميذ الدارالبيضاء يدرسون في التعليم الخصوصي، ويشكل ذلك ضربا للتجانس الاجتماعي داخل المدارس بحيث أصبحت لدينا مدارس خاصة بكل طبقة أو شريحة مجتمعية، ناهيك عن الأعطاب البيداغوجية المتمثلة في انعدام التفاعل الاجتماعي بين التلاميذ ومختلف الشرائح الاجتماعية، وهو تفاعل ضروري لبناء التعلمات وتكوين الشخصية وتعليم قيم العيش المشترك كما كان عليه الأمر في السبعينات. على سبيل الختم أشير إلى أن الدروس المستفادة من جائحة كوفيد 19 قد بينت أهمية التعليم والبحث العلمي وأولوية المجال الحيوي والصحي للمحافظة على مقام واستمرارية الدولة والمجتمع، كما بينت الجائحة أن الخوصصة والتسليع بمنطق السوق وتبضيع التعليم لم يعد أولوية حتى بالنسبة لدعاة ذلك، خصوصا أنه تبين للجميع منافع دولة العدالة والرعاية الاجتماعية، فمادامت السياسات العمومية التي أرست التعاقد وشجعت الخوصصة تعود إلى زمن ما قبل الجائحة، ينبغي الآن استحضار دروس الجائحة ومراجعة السياسات وخصوصا ما يتعلق منها بمسلسل تفويت وتدمير المدرسة العمومية وفرض الهشاشة المهنية على مواردها البشرية والعمل على إعادة ضبط التوازن بين الاجتماعي والاقتصادي.. أعتقد أن نضالات الحراك لانقاد المدرسة العمومية ينبغي أن تنطلق أولا من تشكيل إطار وطني ناظم لنضالاتها، أتصور شكل هذا الإطار الناظم على شكل جبهة وطنية واسعة تضم الأحزاب الوطنية الديمقراطية واليسارية والمركزيات النقابية للعمال والمجتمع المدني والتنسيقيات المهنية والمثقفين والإعلاميين وغيرهم من القوى الفاعلة القادرة على الدفاع عن المدرسة العمومية، ويقتضي تحقيق هذه الجبهة الوطنية الموسعة لإنقاذ المدرسة العمومية فتح نقاش عمومي وحوار وطني شامل وهادف يتناول الاستراتيجيات البديلة لمقاومة مسلسل إضعاف المدرسة العمومية المغربية ويحرص على جعل المدرسة العمومية مسألة مجتمعية بامتياز يتفاعل معها المجتمع بكل مكوناته، لأن الأمر يهم الجميع، وينبغي وضع الدفاع عنها ضمن أولويات الجميع، كما ينبغي العمل على تشغيل تعبئة مجتمعية مستدامة لاستعادة المدرسة العمومية لجاذبيتها وبريقها بواسطة تحسين صورتها وتبيان مزاياها ونجاحاتها رغم مسلسل إضعافها. أما القاسم المشترك بين نضالات جبهة الحراك الوطني لإنقاذ المدرسة العمومية فينبغي أن يكون جزءا من مكونات برنامج العمل المشترك الذي سيصدره الفاعلون في الحوار الوطني. أود الإشارة لبعض المبادئ التي قد توضع كأرضية للنقاش وللتوافق حولها من جملة هذه النقاط: 1- اعتبار أن الحق في تعليم موحد وموحد وميسر وذي جودة هو أساس باقي الحقوق لأن له بعدا أفقيا يجعله هو المدخل للمطالبة بباقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، 2- إيجاد جسور بين الحراك من اجل حماية المدرسة العمومية والنضالات اليومية للفاعلين وذلك بواسطة إدماج إنقاذ المدرسة العمومية في صلب نضالات مكونات الحراك الوطني السياسية والنقابية والمدنية والتنسيقيات، وربط هذا الحراك بالنضال الوطني من اجل دمقرطة المجتمع وبناء دولة الحق والقانون والحداثة والديمقراطية، 3- التركيز مرحليا على ثلاث مداخل مطلبية كبرى هي : الحد من خوصصة المدرسة العمومية ، ثم إدماج من فرض عليهم التعاقد في الوظيفة العمومية، ثم إرساء إصلاحات داخلية في المدرسة العمومية كمراجعة مكونات النموذج البيداغوجي بأكمله ولغة التدريس واللغات المدرسة، والارتقاء بتكوين الأساتذة، 4- الدفاع عن المدرسة الموحدة والموحدة باعتبارها الوحيدة الضامنة للإنصاف وتكافؤ الفرص والارتقاء الفردي والجماعي، وإذا غابت هذه المدرسة بالمواصفات المذكورة، فلن يتحقق أبدا الإنصاف وتكافؤ الفرص المرجوان، 5- الدفاع عن مبدأ الاختلاط الاجتماعي داخل الفصول المدرسية، لأن المدرسة العمومية لم تخلق فقط لإيواء فقط أبناء الفقراء، لأنها ليست مؤسسة خيرية بل هي مؤسسة تعليمية وتربوية، لكن ضعف السياسات المتبعة هي التي خلقت هذه الوضعية الشاذة ، 6- اعتبار أن تفكيك المدرسة العمومية يهدد التماسك الاجتماعي ووحدة الكيان الوطني ويخلق ثقافات وقيم وسلوكات متنافرة، 7- حماية المدرسة العمومية تتم أيضا بواسطة اشتغالها على ذاتها من خلال مراجعة وتنقيح المناهج الدراسية مع إعطاء الأولوية للمعرفة العلمية ولبناء القدرات والكفايات بدل إغراق المناهج كما هو الأمر عليه الآن في معرفة الهوية، 8- دعوة كل الفاعلين التربويين من أساتذة وقيادات تربوية من إداريين ومفتشين وموجهين ...إلى سحب أبنائهم من التمدرس في التعليم الخصوصي وذلك لإعطاء القدوة واسترجاع الثقة في المدرسة العمومية ووضع حد لهذه الباطولوجيا الاجتماعية المتمثلة في التسابق والتفاخر بتسجيل الأبناء في الخصوصي، 9- ضرورة إشراك الآباء والأمهات وأولياء أمور التلاميذ وتحسيسهم بنبل الدفاع عن المدرسة العمومية.. هذا هو الاختصار لمجمل النقاط التي أتصور أن تكون أرضية لمزيد من النقاش في سياق وضع ميثاق للحوار الوطني من أجل حماية وإنقاذ المدرسة العمومية. * العلمي الحروني- ناشط سياسي ونقابي