يتنقل الكثير من الأشخاص حول العالم يوميا إلى أماكن وظائفهم، إما باستخدام وسائل النقل العمومية أو بواسطة سيارات خاصة، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن آثار التنقل اليومي للعمل على الصحة النفسية والجسدية للأفراد؟ كيف يجيبنا العِلم عن ذلك؟ في سياق عالم ما بعد الجائحة، عاد بقوة الحديث عن اعتماد العمل عن بعد، سواء بشكل حصري أو بالتناوب مع النمط الحضوري، وإذا كان للنمط الحضوري للعمل أهمية كبيرة في توفير مناخ التفاعل الاجتماعي وتحسين الصحة النفسية كما أثبتت الدراسات العلمية؛ فماذا، في المقابل، عن الآثار السلبية المترتبة عن التنقل اليومي إلى العمل؟ وما علاقة مسافة التنقل إلى مقر العمل بصحة الإنسان؟ في دراسة علمية أنجزت سنة 2021 من طرف باحثين في قسم علم النفس بجامعة ستوكهولم بالسويد، تم اختيار عينة من 11023 فردا لدراسة العلاقة بين مسافة التنقل إلى العمل من جهة وصحة الإنسان و سلوكه من جهة أخرى، وتم لهذا الغرض، جمع بيانات حول العمر والجنس والمسافة بين السكن ومكان العمل والموقع الاجتماعي والحالة الصحية... توصل الباحثون في النهاية إلى نتائج تثبت أنه كلما زادت مسافة التنقل إلى مكان العمل عن 3 كيلومترات، قَل النشاط البدني، وارتفع خطر اكتساب الوزن الزائد وظهرت اضطرابات النوم و أعراض الاكتئاب بل وزاد خطر التعاطي للكحول. وفي دراسة أخرى عن أثر التنقل اليومي إلى العمل على صحة الأفراد، أجري بحث عن 21088 شخصا تتراوح أعمارهم بين 18 و65 سنة، أخذ هذا البحث في الاعتبار مدة وكيفية التنقل ومعطيات أخرى، وخلصت نتائجه إلى وجود أثر سلبي لطول مسافة الطريق وكيفية التنقل على جودة النوم، التوتر اليومي، الصحة العقلية، وكذا التغيب عن العمل بسبب المرض.. لقد وُجِد كذلك أن الأشخاص الذين يعملون أزيد من 40 ساعة في الأسبوع، يرتفع عندهم خطر قلة النشاط البدني واضطرابات النوم عندما يتنقلون أكثر من 5 ساعات أسبوعيا، ولا يخفى مدى خطورة كل هذه التأثيرات السلبية المذكورة سلفا في الإضرار بالصحة الجسدية والنفسية للإنسان على المدى القريب والمتوسط والبعيد. ما العمل إذن؟ إن تنقل العمال إلى مكان العمل ركيزة أساسية في خلق مناطق حيوية وحركة تجارية ونمو اقتصادي مهم، لكن لَمَّا خلص العِلم إلى سلبية طول مدة التنقل إلى العمل وأضراره على الصحة الجسدية والنفسية، فإن من شأن ذلك أن يحدث اختلالا في التوازن بين الحياة الاقتصادية من جهة وبين المسؤولية الاجتماعية للمنظمات والبلدان وصحة الأفراد وأدائهم المهني من جهة أخرى، ولأن أفرادا بدون أسلوب حياة صحي لا يمكن حتى لأدائهم المهني أن يكون على ما يرام، فإن تجاهل هذا الأمر أو غياب الوعي به سيُدخِل المنظمات والبلدان في حلقة مفرغة لا خروج منها إلا بوضع سياسات شغل تأخذ في الاعتبار تنقل الموارد البشرية وإعادة التفكير في تخطيط المدن والمناطق الجغرافية الصناعية بما يتلاءم أيضا مع حاجياتهم الصحية والاجتماعية .