قال شاعر الاخلاق في زمن قل فيه الأخلاق وكثر فيه النفاق والشقاق وسوء الاخلاق، انما الأمم الاخلاق مابقيت فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا لقد ابتليت الامة في دينها وقيمها وحضارتها، فابتليت بأشد البلاء، وهو التعرية ،وهذا الامر حدث حينما عصى آدم ربه فاحس بنوع من التعرية القيمية حينها استغفر ربه واناب ،وطفق يخصفان عليهما من ورق الجنة ورمزية التغطية والمعالجة القيمية لفعل التعرية القيمية من طرف الملائكة المأمورين من عند الله . ان فعل التمرد الأخلاقي الذي جرى في بنية الحركة الإسلامية بعد تورطها في تدبير شأن ليس شانها بل هو تدبير بوكالة كان من نتائجه ان تعرى الذي تعرى ونقص الذي نقص. ان الامة في حد ذاتها رغم ان المفهوم يتعدى البنية الا انه قد يعتبر من الناحية البنيوية بنية قيمية وبشرية وحضارية، ولذلك تعرت الامة في مراحل من التاريخ الإسلامي، بعد الخلافة النبوية وامام إصرار العقل الطائفي تحول الامر الى غصب وقهر سياسي باسم الدين ،وتعرت القيم التي بنيت عليها الدولة في تلك الفترة ،وخرجت الى الوجود دول جديدة بانساق وقيم بنت الحكم على القبيلة والنسب والقوة .فابتليت بالتتار الذي اباد الأرض بأكملها من الوجود الإسلامي سرعان ماتحول هذا الجراد الدموي الى قوة بناء قيمي للامة الإسلامية حتى تأسست الخلافة العثمانية . وعلى شاكلة ما جرى في المشرق كان المغرب الإسلامي تحت امرة الحكم المغربي آنذاك بطوائفه الدينية التي جددت وحافظت على المذهب الملكي السني الاشعري آنذاك. ليبقى السؤال مطروح في ذهنية المتلقي والمتابع للتحول الحضاري الذي ستعرفه الحركة العقلية الإسلامية آنذاك حينما تجبر المعتزلة واتجهوا نحو الفساد السياسي وأشبعوه بخطابات التنويم الايحائي والمدعم بقراءات مغلوطة للأحكام والدين الإسلامي. وقدومن اللبنات الأساسية في قيام أي مجتمع بغض النظر عن دينه وعرقه ولسانه ولونه؛ منظومة القيم والمبادئ العليا الحاكمة لهذا المجتمع. حيث لا يتصوروجود مجتمع إنساني بدون وجود منظومة من القيم والمثل العليا التي تحكم وتوجه وتضبط وتقيّم التصورات والتصرفات العامة والخاصة في هذا المجتمع، فتلك المنظومة من القيم والمثل العليا هي التي تميز المجتمع البشري عن المجتمع الحيواني الذي لا تحركه إلا الغرائز، وبقدر سمو ونقاء وكمال وشمولية تلك المنظومة وسلامة مصادرها وقوة إيمان الأفراد والجماعات بها؛ اعتقاداً وتطبيقاً، يرتفع المجتمع ويعلو على غيره من المجتمعات ويحقق ميزة التفوق الحضاري والأممي ويتأهل لقيادة البشرية. وهذا ما لم يتحقق خلال التجربة البشرية الضاربة في أعماق التاريخ من لدن آدم -عليه السلام- إلا وقتنا الحالي وإلى قيام الساعة إلا في منظومة القيم والمثل الإسلامية العليا. ومهما كان المجتمع غاصاً في جاهليته، غارقاً في ضلالاته، سادراً في غيه، فإنه لا يستغني بحال عن منظومة خاصة به للقيم والمثل، والناظر إلى حال المجتمعات البشرية قبل ظهور الإسلام يجد فيها رغم جاهليتها الشديدة أثرة من الفضائل الإنسانية؛ من شجاعة وكرم، ونجدة وإغاثة الملهوف، يدل على ذلك: حلف الفضول الذي حضره محمد -صلى الله عليه وسلم- شابًّا، وأثنى عليه نبيًّا، وهو حلف عقد في الجاهلية لنجدة المظلوم. وكانت هذه الفضائل هي البقية الباقية من ميراث النبوات السابقة الأديان في المجتمعات، واستجابة لصوت الفطرة التي يولد عليها كل مولود. فلما جاء الإسلام أحسن توظيف تلك القيم الباقية وأشاد بها وأقرها ثم أدرجها داخل منظومته الخاصة بالقيم وصبغها بصبغته المميزة في تعلقها بالإيمان والمعتقد والعمل والأجر. القيم هي القواعد الكلية الحاكمة والمعايير الثابتة الراسخة والمبادئ المطلقة التي تضبط وتحكم وتقيّم تصرفات ونشاطات المجتمع السلبية والإيجابية. ونقصد بالسلبية تلك القيم المتعلقة بالتروك أو قيم التخلي عن الموبقات والشرور والمفاسد التي تقوض أمن المجتمع واستقراره، ونقصد بالإيجابية قيم التحلي بالفضائل والأخلاق والأعراف المجتمعية التي لا تخالف الشرع. تعتبر منظومة القيم في المجتمع المسلم رمانة الميزان التي تحافظ على توازن المجتمع واستقراره واستمراريته في أداء وظيفته الدينية والدنيوية. وقد امتدت القيم التي وضعها الإسلام لتصبغ مجالات الحياة كافة بصبغتها وطابعها الخاص، ولتنظم سلوك الإنسان على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، بحيث ارتبط العطاء الحضاري للمجتمعات المسلمة بمنظومة القيم الحاكمة فيها ارتباطاً مباشراً دفع خصوم الأمة للإذعان والإشادة بتلك المنظومة السامقة. وفي شهادة تاريخية، قال المستشرق الدنماركي جوستاف فون جرونيباوم: "أن التأثير الحضاري للإسلام، هو في تغييرات أساسية أحدثها في مجال القيم بالنسبة لما كان سائدًا قبله بشبه جزيرة العرب في ظل الوثنية. ومحور هذه التغييرات تحديد هدف الحياة وغايتها، من خلال الإجابة على ثلاثة أسئلة: كيف تعيش حياة صحيحة؟ كيف تفكر تفكيرًا صحيحًا؟ كيف تقيم نظامًا صحيحًا؟ والإسلام قد قدَّم أجوبة لهذه المشكلات والقضايا في التربية الصحيحة للفرد، والترتيب النسبي لمناشط الإنسان (الواجب، المندوب، المباح، المكروه، الحرام)، وتحديد القصد والمجال بالنسبة لسلطة الحكم أو ممارسة القوة السياسية. وكان من ثمار هذه القيم، أن استحدث الإسلام واجبات على عاتق الفرد، أو عمد إلى تعديل واجبات قديمة، كما أنه قرر حقوقًا جديدة تتناول شتى مجالات السلوك الإنساني، الفردي أو الاجتماعي. وقد أدى ذلك إلى تقويم أية خبرات حضارية سابقة أو لاحقة في هذا الضوء، بحيث تكون متجاوبة مع معايير الإسلام ومقاصده". على مستوى الأفراد تلعب منظومة القيم والمبادئ التي يؤمن بها الفرد ويعتنقها دوراً بارزاً في ترشيد قراراته، وانتقاء اختياراته، وتحصين نفسه وقلبه من المغريات والتحديات، وتنظيم سلوكياته، إدراك العالم من حوله، وتحديد موقعه ودوره في هذا العالم، كما أنها تجيب على التساؤلات المصيرية في حياة الأفراد بسبب شموليتها للجانب الروحي والمادي دون إفراط أو تفريط، كما أنها تفجر طاقات الإبداع والخيرية في النفس، وتستحث كوامن النفوس للوقوف على مواطن قوتها وضعفها. أما على مستوى المجتمع، فمنظومة القيم تحافظ على تماسك المجتمع، فتحدد له أهدافه الكلية ومثله العليا ومبادئه الثابتة، وتساعد المجتمع على مواجهة التغيرات والمستجدات بتحديدها الاختيارات الصحيحة، كما أنها تحافظ على هوية المجتمع وبصمته الخاصة به، مما يحول دون ذوبان هذه المجتمعات في غيرها وتأثرها بموجات التغريب والتشريق والغزو الفكري والثقافي، كما أنها تعمل على إعطاء النظم الاجتماعية أساساً عقلياً يصبح عقيدة في ذهن أعضاء المجتمع المنتمين إلى هذه الثقافة، أيضا القيم تقي المجتمع من الأنانية المفرطة والنزعات الفردية والشهوات الطائشة، وتزود المجتمع بالصيغة التي يتعامل بها مع العالم وتحدد له أهداف ومبررات وجوده وبالتالي يسلك في ضوئها وتحدد للأفراد سلوكياتهم. ولبيان شمولية منظومة القيم الإسلامية قام أحد الباحثين وهو الدكتور علي خليل أبو العينين بإحصاء مبدئي للقيم الإسلامية في كتابه القيم "نسق القيم الإسلامية من القرآن والسنة"، اشتمل على ما يلي: (القيم الروحية 21 قيمة) (القيم الخلقية 33 قيمة) (القيم العلمية والمعرفية21 قيمة) (القيم الاجتماعية 97 قيمة) (القيم الوجدانية 12 قيمة) (القيم المادية 11 قيمة) (القيمة الجمالية 10 قيم). قوة منظومة القيم وفعاليتها مستمدة في الأساس من قوة وسلامة ونقاء وشمولية واتساع مصادرها لتلبي حاجات الجسد والروح، وهو ما تميزت به منظومة القيم في المجتمعات المسلمة، فبعد إغراق اليهودية في المادية العاتية، وبعد إغراق المسيحية في الروحانية والرهبانية، جاء الإسلام على فترة من الأديان، وجاء محمد -صلى الله عليه وسلم- على فترة من الرسل، ليصنع "الأمة الوسط"، وكانت منظومة القيم والمبادئ الأخلاق الإسلامية بعيدةً عن حدَّي الغلوِ: الإيغال في المادية، والإيغال في الروحانية، وكان المنطق والمنطلق هو قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]. وهذه هي المثالية الواقعية القابلة للتطبيق والتنزيل في واقع المجتمعات البشرية. في حين أن الغرب يعيش أزمة قيم على المستوى النظري والتطبيقي، فعلى المستوى النظري فالافتقار واضح من خلال المرجعية الناظمة لتفعيل القيم، وأنها صادرة من فلسفة قاصرة في مصادرها ومراجعها، وهذا ما يشهد به عقلاؤهم، أما على التفعيل فالواقع يشهد بذلك، حيث إن المتتبع لا يحتاج إلى مزيد بيان من الأدلة على هذا الانحدار في القيم، والانهيار في الالتزام بها، وتغير النظرة تجاه من يحمل هذه القيم ويدعو إليها، وذلك في ضوء إعلاء قيم المادية والمنفعة، وسيطرة أفكار فرويد وداروين ودوركايم التي سببت فوضى مجتمعية وأخلاقية وسلوكية عارمة في الحضارة الغربية. والتعرف على مصادر منظومة القيم الإسلامية يزيد من التعرف على طبيعتها ومدى قوتها وأهميتها وحتمية المحافظة عليها، ومن أهم هذه المصادر: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وما يرسخان من قيم اعتقادية تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقيم خلقية تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل وأن يتخلى عن الرذائل، وقيم عملية تتعلق بما يصدر عن المكلف من أعمال وأقوال وتصرفات وهي على نوعين: العبادات والمعاملات. وكون أن القرآن والسنة هما المصدران الرئيسيان للقيم في الإسلام قد أضفى نوعاً الربانية والقدسية على هذه المنظومة، بحيث تلقتها الأمة بالقبول والتسليم والعمل، فلمنظومة القيم صفة الهيمنة التشريعية بمعنى أن كل حكم من أحكام الشريعة له طابعه الأخلاقي، ووراءه الدافع الإنساني، فإن مصادر التشريع تعتبر مصادر القيم، لأن كل ما يحقق أهداف الشريعة الإسلامية من رفع الحرج وتيسير حياة الناس، ودفع المفاسد عنها يعتبر مصدراً من مصادر القيم الإسلامية. أيضا من مصادر القيم، العرف الموافق للشرع المطهر غير المتصادم معه، تحليلاً أو تحريماً، فلابد أن تستند الأعراف إلى نص أو إجماع أو قياس أو استحسان ومن ثم تعتبر قيمة للمجتمع الإسلامي. كثير من الآفات المعاصرة والنوازل التي تكاد تعصف بالعديد من المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة يرجع في الأساس لتغييب منظومة القيم من واقع وحياة هذه المجتمعات، وتحويلها لمواعظ وكلمات باردة تقال في المناسبات العامة والأعياد السنوية، دون تأثير أو تفعيل، وكثير من الأمراض المجتمعية والأفكار المستوردة التي تضاد الدين والهوية لم تجد لها موطأ قدم في مجتمعاتنا إلا بعد غياب منظومة القيم أو تغييبها عمداً، وإنما ضغت الثعالب عندما غاب الأسد!! الحفاظ على القيم وتربية النشء عليها وتبني خطابها الراشد أولوية قصوى للخطباء والدعاء وأصحاب المنابر لمواجهة عاصفة التغريب والذوبان المتعمد للمجتمعات الإسلامية وطمس هويتها ومحاربة دينها. الحفاظ على القيم ضمانة لاستقرار المجتمعات والحفاظ على أمنها، وتقوية مناعتها تجاه المستجدات والنوازل، والأمم من حولنا تنهار أو على شفا الانهيار بسبب ضعف منظومة القيم فيها واختلالها في إيثار الجسد على الروح أو العكس.. الحفاظ على القيم يجعل المجتمعات تصمد وتتجاوز الكثير من مشاكلها المعاصرة مثل مشكلة الفقر التي أصابت العديد من المجتمعات الإسلامية وما استتبع ذلك من انتشار المفاسد مثل السرقة والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، فالقيم تدفع المسلم إلى إغاثة الملهوف وإطعام الجائع ومواساة الفقراء ورعاية اليتامى والأرامل، كما أنها تردعه عن الرشوة والسرقة، ذلك أن الإيمان هو النبع الفيّاض الذي يرسخ القيم وتُبنى به المجتمعات ويوفِّر لها الصلاح والفلاح والأمن والتنمية. وأخيراً الحفاظ على القيم ليس دور الحكومات والأنظمة والحكام فحسب –وإن كان دورهم هو الأهم والأكبر– ولكنه دور الجميع خاصة المؤسسات التربوية والدعوية، دور البيت والأسرة والمدرسة والإعلام والنوادي.