نعم الذي فاز في الحقيقة هي جمهورية تركيا كلها، لأن من الطبيعي أن يتنافس الأفراد فيما بينهم، وذلك من أجل تسير بلدية أو ولاية أو الفوز بمنصب رئيس الدولة، كما أن الأفراد يتغيرون فهناك من يرحل ومن يبقى، بينما الدولة تستمر إلى ما شاء الله، لكن الأهم من ذلك كله هو كيف يصل المرشح لهذه الأهداف المشروعة. في الحقيقة هناك ثلاث طرق تمكن الأفراد من السيطرة على الدولة وأجهزتها، الأول هو الانقلاب العسكري إنه الطريق السيار نحو الحكم، كما كان يحدث في تركيا القرن الماضي ولازال واقعا في البلدان العربية، وهذا أسرع طريق حيث لا حملة ولا صناديق ولا فرز ولا صداع الرأس، حيث يقوم بضعة عساكر باعتقال رئيس الدولة وقد يعدم، ثم تتوجه مجموعة أخرى إلى مقر الإذاعة الرسمية، وتعلن من هناك أن فخامة الجنرال هو رئيس الجمهورية الجديد، والطريق الثاني فيه مشقة نسبيا أكبر من الأول، حيث يسمح للمرشحين بحملة انتخابية صورية مزيفة، فهناك ( برامج – مهرجانات -ثم صناديق مع فرز أصوات.. ). لكن يكمن سر اللعبة في وصول الأفراد إلى التسيير أو الحكم، وذلك عبر تزوير نتائج الانتخاب بكل بساطة، والتزوير نوعان تزوير فاضح وأخر احترافي يمحي بصمات المزور، لكن تركيا اختارت الخيار الديموقراطي وهو الطريق الأصعب، ولقد نجحت فيه بشكل أبهر العالم، وأعطى درسا بليغا لأصحاب الانقلاب العسكري ونهج التزوير. لهذا قلت في البداية أن الفائز الأول هي دولة تركيا، لقد تابع العالم بالأمس أهم حدث سياسي في هذا القرن، فبعد تنافس انتخابي شرس في الدور الأول، تم المرور إلى الدور الثاني ولم تحسم النتيجة بين الطرفين إلا "بضربات الترجيح"، لقد حققت بذلك تركيا العلامة الكاملة تنافس شريف نزاهة شفافية، باختصار عرس ديمقراطي حقيقي نقل تركيا إلى مصاف الدول المتقدمة، حيث لم يتعرض أي مرشح معارض للتهديد ولم يحرق مقر أي حزب معارض، لقد مرت الحملة بسلام كل طرف يعرض برامجه والشعب له حرية الاختيار. إن أعداء الأمة كانوا ينتظرون عنف وفوضى عارمة، لتقول أمريكا والغرب أن الديموقراطية لا تصلح للعرب والمسلمين، عندها يفرح أنصار الانقلاب وأصحاب نهج التزوير، لكن خيب الله ظنهم وفازت تركيا بالرهان. إن مسرور المراكشي يعتبر هذه الانتخابات أكبر من مجرد تنافس حزبي على كراسي، حيث يعرض فيه كل طرف برامجه للوصول إلى البرلمان أو رئاسة الجمهورية، الأمر أكبر من ذلك بكثير فهو يتعدى حتى حدود دولة تركيا الجغرافية، إنه صراع حضاري كبير يتنافس فيه المشروع العلماني والطرح الإسلامي، فالرئيس رجب طيب أردوغان يمثل المشروع الإسلامي الحديث، والمعارض ( كليشدار أوغلو ) يمثل الطرح اليساري العلماني. لهذا كان كل الإسلاميين من "جاكرطا" شرقا إلى طنجة غربا، يتابعون نتائج فرز الأصوات بين المرشحين وبكل اهتمام، وهو نفس الأمر عند القوميين وكذا اليسار المعتدل والجذري، كما كان التمايز عالميا بين من يدعم هذا المرشح أو ذاك، حيث اختارت أوروبا بقيادة أمريكا دعم (كليشدار اوغلو)، في مواجهة الرئيس رجب طيب أردوغان، وهذا يفسر هجوم الإعلام الغربي بكل قوة على هذا الأخير، حيث طالبوا برحيله وقالوا بأنه الخليفة القادم والديكتاتور الإسلامي وغير ذلك. لقد عزف أردوغان بذكاء على وتر الاستقلال والوطنية والتاريخ والمستقبل، في حين ركن خصمه إلى وعود الغرب بتقديم أموال وقروض لتنمية تركيا، كما تبنى هذا الأخير أجندة الغرب بالعودة إلى علمانية " أتاتورك" المتطرفة، لكن الشعب انحاز إلى مشروع تركيا المسلمة القوية، وهكذا تحطمت أحلام (كليشدار) والغرب على صخرة الشعب التركي، ليفوز أردوغان ويعلن طي صفحة تركيا القرن الماضي، وانطلاق تركيا القوية والحديثة إلى مئة سنة القادمة. بعد هذا النصر تأكد أن إرادة الشعب أقوى من أمريكا والغرب، وليس كل ما يريده أعداء الأمة يتحقق لهم، لقد قال الشاعر الشابي : ( إذا الشعب يوما أراد الحياة..) والكل يحفظ بقية القصيدة، المهم أن الشعب التركي أراد الحياة الكريمة والعزة والكرامة فكان له ما أراد. لقد هزم العثمانيون بالأمس أوروبا الصليبية بالسيف والرماح، واليوم يهزم الأتراك أوروبا بأوراق التصويت في موقعة الصناديق، والفرق بين المعركة الثانية والأولى هي أننا سمعنا عن هذه الأخيرة، لكن المعركة الثانية شاهدها العالم صوت وصورة وعلى المباشر، ومن الطرائف التي حدثت بعد فوز الرئيس أردوغان بولاية أخرى، هي تهنئة الرئيس المصري الذي قتل في عهده مرسي أول رئيس مدني منتخب، وكذلك تهنئة دولة خليجية صغيرة لأردوغان بالفوز، لكن هذه الدويلة سخرت كل ما تملك دعما للثورة المضادة. فعلا أمر المنافقين عجيب يقومون بذبح حرية الاختيار في بلدانهم، ويمدحون حرية الاختيار في جمهورية تركيا، إن فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية أخرى، وهذا ينعش أمل الإسلاميين في العودة للحكم والتسير، لأنهم يشبهون العدالة والتنمية التركي في نقطتين، الأولى هي نظافة اليد حيث لا يسرقون المال العام، الثانية اتخاذ الإسلام كمرجعية لهم، لكن العدالة والتنمية التركي يتفوق عليهم في مراكمة الخبرة والتجربة في التسير، وذلك في الشأن المحلي والدولة معا، ثم في حسن إدارته معركة الإعلام بشكل حديث مع خصوم الداخل والخارج. خلاصة: إن من ( كمال اتاتورك) إلى أردوغان فهذا تاريخ مرحلة مضى وولى، ومن أردوغان إلى ما شاء الله هذه مرحلة جديدة تبدأ، في الأخير نرجو من الله أن يوفق أردوغان لما فيه خير الشعب التركي وأمة الإسلام، ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)