هل اصبح دستور 2011 عبئا يثقل كاهل من يدبر البلاد ويسير شؤون العباد اليوم، لأن الواقع الملموس يدل على أن هناك سعي حثيث لإغلاق قوس محاولة المغرب تحقيق الانتقال الديمقراطي، تجاوزت المستوى السياسي المتعلق أساسا بالانتخابات من خلال تغيير جذري في قواعد اللعبة الانتخابية عبر الالية التشريعية، وما أفرزته بالنتيجة من مؤسسات منتخبة تمارس الامة من خلالها "السيادة" وهي مؤسسات تدل مؤشرات عديدة على وجود حالة جمود على مستوى الفعل العمومي المباشر أو إبداع حلول تعطي للناس "امل" في إمكانية تجاوز الوضع القائم ، والمستوى التدبيري المتعلق بمركزة القرار بيد السلطة المركزية وطنيا وبيد رجال السلطة المحلية ترابيا، وهي مركزة وإن كانت تؤدي نتائج مقدرة انية فإنها في العمق تضرب ركيزة مهمة في الدولة الحديثة الذي هو توزيع السلطة، فالمبدأ البديهي الذي هو نتيجة كسب بشري لقرون طويلة هو ان " السلطة المطلقة مفسدة مطلقة". قد يُتفهم ان وضع الدولة في تدبير التحولات الإقليمية والدولية المعقدة، تدفعها الى صياغة سياسات اتخاذ قرارات الهدف منها ضبط مسارات اتخاذ القرار، بما لا يشوش على ما تعتبره الدولة خيارات استراتيجية كبرى مرتبطة بالوحدة الترابية أو بموقع المغرب كدولة في تحالفات دولية لها مكاسب انية وبعدية، وهو خيار في مجال السياسة تكون له نتائج عرضية هي من صميم تدبير شؤون الدولة وتسيير الشأن العام، لكن هذه النتائج العرضية في حالة عدم ضبطها قد تتحول الى مقدمات مهددة للاجتماع السياسي وبالتالي مهددة للدولة في استمراريتها واستقرارها. الملاحظ اليوم أن هناك تطاول واستهداف لأسس الشرعية التي ترتكز عليها الجماعة السياسية حكاما ومحكومين، وتنطلق منها في تدبير اختلافاتها، وهو استهداف أساسا للوثيقة التعاقدية والمرجعية لعلاقة المؤسسات فيما بينها وفي علاقة الدولة بالمجتمع وفي العلاقة بين الدولة ومؤسساتها والمواطن محور الاجتماع السياسي في الدولة الحديثة. منذ 2012 ومحاولات تحجيم وظيفة الدستور وحضوره الرمزي والقانوني في التدبير والتسيير، لم تتوقف، وأخذت في السنوات الأخيرة مستوى لم يسبق له مثيل في بلادنا منذ حالة الاستثناء 1965-1970، حالة استثناء نعيشها في العلاقة مع الدستور بشكل ضمنيي، قد تكون هذه الخلاصة التقديمية مبالغ فيها لكن هناك ما يشفع لها في الواقع، كيف ذلك؟ لقد انتقل المغرب من الحديث والتداول العمومي حول التأويل الديمقراطي للدستور الى إعمال مقاربة استبدادية في تأويل الدستور، والانزياح عن منطق الدستور وروحه القائمة على احترام الشرعية والمشروعية، واللجوء المكثف الى التشريع من خلال اليات هي في الأصل استثنائية(المراسيم المتخذة في للإعفاء المؤقت من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة مثالا ) ، وتحويل مراكز قانونية لمؤسسات هي في الأصل مستقلة الى مؤسسات تابعة من حيث التعيين ومن المهام والاختصاص(المجلس الوطني للصحافة مثالا)، ثم العمل الحثيث على تفكيك بنيات الرقابة المختلفة المؤسساتية منها أو المدنية أو المجتمعية لصالح أصحاب المصالح(مجلس المنافسة نموذجا). بما يؤكد فكرة الاستبداد الانتخابي المفضي لأغلبية عددية لا تعكس حقيقة موازين القوى داخل الدولة والمجتمع، إن هذا النزوع التحكمي والالغائي للدستور يدفع الى البحث في الأسباب العميقة لذلك، وهي أسباب متعددة قد تظهر أهمية سبب على اخر بحسب زاويا النظر ومنطلقات الاعتبار، لكن في هذا المقام يمكن الحديث عن سببين رئيسيين: أولا الدولة ما بعد كورونا قوة أم تغول؟ ظهرت الدولة في مرحلة كورونا كفاعل أساسي وفعال في تدبير مرحلة الجائحة، واتضح أن جهاز الدولة الحديثة المعتمدة على بيروقراطية صلبة وأجهزة تحتكر العنف المشروع قادرة على الضبط وفرض حالة طوارئ تحد من حريات وحقوق الناس، لكنها أيضا انعشت نزوعات تحكمية للدولة وظهرت دعوات في الأوساط الاكاديمية والسياسية الغربية الليبرالية أساسا تعبر بوجه مكشوف عن اعجابها بالدولة السلطوية أو الاستبدادية في طريقة تدبير الجائحة أساسا النموذج الصيني والروسي، ومن المؤكد أن هذا النزوع التحكمي يتدخل القانون لينظمه ويحد من غلوائه، وأساسا القانون الأساسي الذي هو الدستور، فالنقاش الدستوري الحديث يتعلق أساسا في مقاربتين هما المنهج القاطع الذي يمنع المساس بالحقوق والحريات الواردة في الدستور بأي شكل من الاشكال وإن كانت هناك حالة ضرورة أو طوارئ أو استثناء، وبين منهج الموازنة الذي يمنح الامكانية لتقييد مؤقت وجزئي لهذه الحقوق والحريات، لكن ظهر مع تدبير الجائحة أن الدولة القادرة حدت مطلقا من حريات الناس الأساسية بدعوى الحفاظ على "النظام العام"، وفكرة النظام العام لا أحد يعلم من أين تبدأ وأين تنتهي وتمنح للسلطة التنفيذية سلطة تقديرية واسعة في تدبير الوقائع على الأرض. لكن النتيجة هي تلك الصور التي وصلت وتصل من الهجوم على المؤسسات المنتخبة والسيادية، مثلا " الكابيتول" في الولاياتالمتحدةالامريكية وما يعنيه في رمزية تاريخية ومحضن مؤسساتي للديمقراطية الامريكية، أيضا اقتحام القصر الجمهوري والبرلمان في العراق والمجلس الدستوري الفرنسي حيث ترابط أجهزة الامن لحماية بنايته، بما يشبه عملية نزع "القداسة" والهيبة عن هذه المؤسسات، لكن فقدان هذه الهيبة تم أولا من داخل مؤسسات الدولة نفسها، وهي أزمة ثقة عميقة تضرب في الجوهر ما تراكم لقرون لتطوير أسس التعاقد الاجتماعي المفضي الى التعايش السلمي والتدبير السلمي لانتقال السلطة و إعمال فكرة الإرادة العامة لاتخاذ القرار بتفويض من الامة صاحبة السيادة. في المغرب بقدر ما عكس تدبير الجائحة قوة الدولة بقدر ما استبطن الناس فكرة ان السلطة التنفيذية قادرة على حل المشاكل دون الحاجة الى مؤسسات الوساطة، وان القدرة التوزيعية للدولة من حيث إيصال الخيرات الى المواطنات والمواطنين هي افضل حالا عندما تتدخل الاليات الديمقراطية في اعتماد الميزانية السنوية التي تعكس رغبات الكبار وأصحاب المصالح وتتحول معه الى وثيقة رقمية بلا روح اجتماعية ولا أهداف اقتصادية، تؤدي في المحصلة الى النتيجة التالية: لسنا في حاجة لمؤسسات الوساطة او المؤسسات المنتخبة ما دام ان الدولة قادرة على الفعل، وأن المتتبع يسهل عليه ان يستنتج كيف تتحول مناصب الولاية العامة عن الامة الى آلية للاغتناء السريع والفاحش، ونقل المال من الحيز العام الى الحيز الخاص، وتبديد مقدرات البلاد المادية بشكل لا يخلو من إسفاف وقلة تبصر، والإمعان( كأنه انتقام) في القضاء على ما تراكم في البلاد من ممارسات تقاليد ديمقراطية ومن مؤسسات شكلت الى عهد قريب حد أدنى من احترام احد الثوابت الجامعة للأمة الذي هو الاختيار الديمقراطي . الخلاصة الأساسية على هذا المستوى أن الدولة في المغرب آن لها ان تخرج من سكرة ولذة حالة الطوارئ وأن تعيد السلطة والقرار لأهله بمنطق الدستور والسياسة معا، وإلا فلوثة نزع " القداسة" والهيبة عن المؤسسات لن تستثني أحدا. (اش غادي يوقع كاع) ماذا سيقع في نهاية المطاف؟ يشير فوكو في كتابه "السياسة الحيوية " الى ان رجل السياسة غالبا ما يلجأ الى الفساد النيابي للحفاظ براغماتيا على الاستقرار، وهو ما يعني أن معطى الحفاظ على الاستقرار قد يتحول الى مبرر كل التجاوزات التي تمس حكم القانون واستقرار المعاملات بين المؤسسات والافراد، في السنوات الأخيرة ظهر ان اليات الرقابة وإنفاذ القانون إما أصبحت معطلة أو هناك انتقائية في إعمالها، صار معه الفاعل العمومي لا يكترث بمالات القرارات التي يتخذها، طريقة تدبير مباراة ولوج مهنة المحاماة والصلف في التعبير عن تحيزات طبقية أقل ما يقال عنها انها تفتقر للباقة الاجتماعية والدارج في تعامل المغاربة الاصلاء فيما بينهم، ظهرت معه الاليات العقلانية والبيروقراطية في الانتقاء لولوج الوظائف العامة والمهن الخاصة مجرد واجهة لتحقيق رغبات علية القوم ومن يتحكم في مسار هذه الاليات وكأننا امام جيوب خارج سيطرة الدولة تمكنت من وضع قواعد غير عقلانية وغير قانونية في الولوج لهذه الوظائف، وهي جيوب تظهر معه الدولة كاللوفيثان العاجز. لقد جعل الدستور المغربي(الفصل الأول) من ربط المسؤولية بالمحاسبة مبدأ دستوريا، وهو ما يعني وبناء على مبدأ تراتبية القوانين، ضرورة الحضور العضوي والجوهري في التشريع العادي والفرعي لهذا المبدأ، لكن الملاحظ أن هناك إصرار على افراغ هذا المبدأ من جوهره بدءا من سحب قانون الاثراء غير المشروع من البرلمان، وعدم إخراج قانون يعاقب تضارب المصالح، باعتباره مخالفة(الفصل 36) وليس قدرا مقدرا على تدبير مؤسسات الدولة، هو مخالفة بمنطوق الدستور، وبالتالي وجب التعامل معه كذلك. استمرار تضارب المصالح هو تجلي لخطر المزج بين المال والسلطة، هو مزج يستحيل منعه والقضاء عليه بالمطلق، لكن تعلمنا التجارب الديمقراطية أنه يمكن تنظيمه وتقنينه بما لا يضر بالمصالح العليا والاستراتيجية للدولة، وإلا فإن استمراره في بلادنا بهذه الطريقة الفجة تعزز حالة الاستياء لدى المواطن واللاثقة لدى المقاولة في ظل وضعيات احتكارية وغير تنافسية في مجالات اقتصادية محددة، يجري معه في نفس الوقت تعطيل اليات الرقابة المؤسساتية والإدارية الداخلية، تتحول معه الدولة الى خادمة لمصالح هذه الفئات وليس العكس. هل الدولة تُنصح؟ الجواب نعم ولا، نعم لان الانتماء للدولة يفرض ذلك، ولا لأن الدولة في حالة العنفوان وسكرة القوة لا تلقي بالا ولا تلفت لما يمكن ان يسمى نصائح، بل تعتمد على اليات كثيرة منها القانون استعمال العنف المشروع وغير المشروع لاستمرار حالة الضبط المجتمعي. لكن ثمة حاجة ملحة في بلادنا الى إيقاف تبديد الرصيد الموطِّد للجماعة السياسية، وهي ثوابت في كل الدولة تركن اليها في حالات النزاع والخطر، أو في حالات البحث على الاجماع لتحصين الجبهة الداخلية، ومن هذه الثوابت التي تحرص الدول على عدم المساس به أو الحد من نفاذ مقتضياته هناك الدستور، هذا الأخير ليس وثيقة مكتوبة وفقط ، يتم التباهي بها أنها تنتمي الى الجيل الجديد من الدساتير، الدستور هو روح تسري في أوصال الامة والدولة، ويتم الالتزام بمضامينه مهما تغيرت الظروف، أما إن اصبح لي عنق النص الدستوري وليس تأويله، لتحقيق رغبات فئوية وربما فردية، فهذا سلوك غير مواطن ومغامر ويبدد ما تراكم في بلادنا على علاته، وكأننا أمام سلوكات وتصرفات حثيثة لتوهين الصلة بين الدولة والأمة. * عبد الحفيظ اليونسي أستاذ القانون الدستوري، كلية الحقوق جامعة الحسن الأول سطات