نشرت جريدة ليبراسيون Libération الفرنسية في عددها ليوم 2020/05/04 مقالا للسيد مروان مكوار وهو أستاذ بجامعة يورك بترونتو York de Toronto في كندا تحت عنوان: "في المغرب، الأزمة الصحية في خدمة السلطوية (Au Maroc: la crise sanitaire au service de l'autoritarisme) ويقدم الكاتب حالة الطوارئ الصحية التي دخلها المغرب، على أنها ستؤدي للمزيد من إحكام السيطرة السلطوية على البلاد لغرض الإبقاء على مواقع أصحاب الامتيازات الحالية وعلى نفس المنتفعين منها. أما الغاية من الرجوع لهذا المقال فهي محاولة لفهم أشمل، من خلال ما أثير من قضايا، لطريقة معالجة الدولة المغربية لخطر جائحة كرونا، وتبيان البواعث السياسة التي كانت وراء اللجوء لهذا النوع من المعالجة، مع استشفاف الأبعاد المحتملة لتبعاتها المستقبلية، على المشهد السياسي وخاصة في مجال الحريات والمشاركة السياسية بعد الخروج من هذه الأزمة. منطلقات أساسية: يبدأ المقال برصد ظاهرة كون المشهد المغربي، ومباشرة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية، قد سجل تغيرا في طريقة التعامل بين السلطة والنخبة. فلاحظ أن هذه الأخيرة، انطلقت من المباركة إلى التجنيد والتضامن في إطار الإجراءات التي ترتبت عن هذا الإعلان، بالرغم في نظره، من الإنزال القوي لرجال السلطة للشارع، وفرض تطبيق إجراءات الحجر الصحي، من خلال الاعتماد أساسا على اللجوء إلى تدابير أمنية صارمة. ومع تسجيله اتخاذ إجراءات سريعة لتوفير المساعدات المادية لقطاعات واسعة من المتضررين، وتجنيد إمكانيات لوجستكية كبيرة لتوفير المواكبة لتبعات الجائحة، إضافة لتذكيره ببعض المعطيات عن قيمة التبرعات ومصدرها، وحتى وضع رهن الإشارة لفنادق من خمسة نجوم، يسجل المقال أن الحملة التي باشرتها الدولة، دشنت تحولا في اتجاه تشديد القبضة الأمنية في ظل مباركة واسعة لهذه الإجراءات. واستشهد صاحب المقال، في خضم قراءته للوضع المستجد في المغرب بعد الحجر الصحي، بمفكر أمريكي يدعى مانكير أولسن Mancur Olson والذي يعتبر، حسب ذكر صاحب المقال، أن الدولة تبقى في نهاية المطاف، وبالرغم من خدماتها في مجال الصحة والتعليم، بمثابه سارق لا يتحرك غايته الزيادة في مداخله باستمرار وعلى خلاف سارق المناسبة، الذي لا يقدر عامة على إعادة فعلته أكثر من مرة واحدة. بالإحالة على هذا التصور المحدد لمفهوم الدولة عند هذا المفكر الأمريكي، يكون كاتب المقال قد دلنا أيضا على إحدى روافد الخلفية الفكرية التي ينطلق منها لمعالجة التطورات الأخيرة في المغرب. ولأن الموضوع هنا يتعلق ببلد معين هو المغرب، فلن يكون من المفيد استجلاء ما يربط التصور الذي يحيلنا عليه الكاتب، والمفهوم الفوضوي للدولة وما رافقه من تصنيف ضمني لفظاعة وعنف استغلال الفئات الشعبية في ظل النظام الرأسمالي. فالمقولة الشهيرة"الملكية هي سرقة" La propriété c'est le vol للكاتب الفرنسي "برودون" "Proudhon"، لم تأت لتختزل طبيعة النظام الرأسمالي أو موقع الدولة فيه، أو أنها أدركت قدراته على التجدد والتوسع، بقدر ما كانت شعارا موجها لمنظومة فكرية وسياسية لقيت صداها داخل فئات معارضة جذريا لهذا النظام. وعلى مستوى آخر، أبانت التحولات الذي شهدها الاقتصاد الرأسمالي والمراحل التي مر منها، على أن الأمر يتطلب تحليلا وفهما عميقين لكشف طبيعة بنية العلاقات الإنتاجية الجديدة التي أفرزها التطور التاريخي للبلدان الغربية، وقدرة النظام الرأسمالي على الزيادة في الطاقة الإنتاجية بصفة مضطردة، مع ما يرافق ذلك من تمركز متصاعد في ملكية وسائل الإنتاج، وتهميش بالنتيجة وباستمرار، لفئات اجتماعية واسعة، بدون أن تحد هذه الصيرورة من تنامي قوة هذا النظام وتوسع نفوذه العالمي. وحتى إذا كانت هذه الصيرورة تترافق مع أزمات اقتصادية دورية، ينتج عنها استقطابات اجتماعية حادة وحتى اندلاع حروب دموية مدمرة بين أقطاب الرأسمالية، فلقد تمخض عنها أيضا، في مراحل تاريخية لاحقة وضمن الخصوصية التاريخية لكل بلد من البلدان الرأسمالية الكبرى، بروز تصور جديد لدور الدولة الاقتصادي، وتجاوز مهامها الأصلية المتمثلة في الحفاظ على الأمن العام والحدود…. الخ ولأن الغاية الأساسية بالطبع من توسيع وتنويع هذا الدور، كان لحماية المعاملات واستمرارية النظام الاقتصادي والسياسي السائد، من خلال جعل الدولة تتولى مهام جديدة ومحفزة لتصبح فاعلا اقتصاديا مهما داخل هذا النظام. فتولت الدولة وبمناسبة هذا التطور، تحمل أعباء جديدة، مثل إنجاز المرافق الأساسية المرتبطة بالبنية التحتية، إضافة لمهام اجتماعية أخرى، ودور مركزي متزايد في التوجيه الاقتصادي العام، من خلال اللجوء لسياسات مالية، تتغير بحسب كل ظرفية اقتصادية. وإذا كان للتطور والتغير الذي تشهده وظيفة الدولة، في ظل النظام الاقتصادي السائد في هذه البلدان، قد جعل دراسة طبيعة الدولة وآليات عملها، يتم من خلال رصد وتحديد أدوارها الاجتماعية والاقتصادية، فالنظرة لشرعية ومشروعية السلطة السياسية القائمة على تسيير هذه الدولة، أصبحت تتمحور حول مدى استجابة هذه السلطة لمطالب الناس، ضمن توازنات تحافظ على استمرارية البنية الاجتماعية العامة لهذا النظام. وبالنتيجة تحولت السياسة في هذه البلدان، سواء تعلق الأمر باليمين أو باليسار، فأصبحت تتمحور أساسا حول الصراع على تسيير الدولة فيها، من خلال العمل على توسيع أدوار تدخلها أو تقليصها، لغاية الجواب عن المطالب والتحديات التي تواجه تطور هذه المجتمعات، وفي الحفاظ على القوة الاقتصادية لتلك البلدان في عالم يشهد منافسة قاتلة، تتغير بسببها وباستمرار، مراتب النفوذ الاقتصادي والتأهيل التكنولوجي ضمن المنظومة العامة للنظام نفسه. إلا أنه لا يمكن تعميم نموذج الدولة في البلدان الرأسمالية الغربية، على باقي البلدان الأخرى بحكم أننا نجد في الصين وروسيا، أو دول الشرق الأوسط مثلا، نماذج دول تشكلت خارج إطار التطور التاريخي للبلدان الرأسمالية الغربية. وهي بسبب هذا الاختلاف، لا تتعاطى بالضرورة مع الأوضاع الاقتصادية أو الأزمات المالية في بلدانها، على ضوء نفس الخلفية التاريخية أو السياسية وبحسب نفس الآلية أوالأولوية. كذلك لا يمكن اختزال الدولة في المجتمعات الحديثة وتصنيف أدوارها ضمن نموذج موحد، قد يحيلنا على تقاطعات مع التعريف الفوضوي للدولة، و طرح ولو ضمنيا، ضرورة تجاوز مفهوم الدولة الحديثة. كما لا يمكن التدليل على أننا أمام حاجة إنسانية ملحة، لتجاوز بنية الدولة، تختزل في نموذج نظري خالص، يتعاطى مع مشكلة كونية للدولة وهي مأخوذة في مفهومها العام، وبما أنها عالة على المجتمعات البشرية، تستحوذ على المقدرات والثروات من خلال عملية لا تتوقف. من خلال هذا التوضيح، الذي يعتمد المقاربة الموضوعية لمفهوم الدولة، ورصد سريع لتطور بعض من أدوارها في مجتمعات ودول معينة، مع التركيز على اختلاف وتنوع هذه الأدوار في بلدان أخرى، سنتناول الآن بالتقييم ما استخلصه المقال بخصوص تبعات التوجهات الأخيرة للسلطة السياسية في المغرب، وهي المتحكمة في أجهزة الدولة، من خلال تعاملها السياسي والأمني في تدبير حالة الطوارئ الصحية. أدوات التحكم للسلطة السياسية بالمغرب يلاحظ كاتب المقال أن السلطة في المغرب كان لها تحركا استباقيا بامتياز في التعامل مع جائحة كرونا. ولا يجادل أحد أيضا، في حقيقة التعبئة الشاملة التي شهدتها البلاد، وقدرة كبيرة للدولة على تأهيل والاعتماد بالأساس، على الموارد الذاتية في مواجهة جائحة كرونا. إلا أن هذا وحده لا يكفي في تفسير القدرة المتميزة في التعبئة وضبط الأوضاع بسرعة فائقة والتي أبانت عنها الأجهزة المحورية للدولة في هذه الظرفية الخاصة. خصوصا إذا ما تم التذكير بأن السلطة السياسية بالمغرب، أظهرت في مرات أخرى عن قدرات تعبوية كبيرة، لكنها اختلفت في نوعيتها وحجمها، أو شموليتها، مع طبيعة التعبئة الحالية. فقد لجأت سابقا على سبيل المثال إلى ما يشبه التعبئة الحالية، ولو أنها أخذت طابعا سياسيا محضا، عندما اعتمدت بالدرجة الأولى على القدرات الذاتية في تنظيم المسيرة الخضراء. وإذا كانت السلطة السياسية في المغرب، قد اعتمدت أساسا في الحالتين، على جهاز الداخلية والجيش إضافة إلى جهاز الأمن لإنجاح العمليتين، فلا بد من ملاحظة أن كل هذه الأجهزة شهدت، بعد حدث المسيرة الخضراء، تحديثا كبيرا، جددت به دماءها وانفتحت على فئات حضرية واسعة في المدن الكبيرة. ومن خلال هذه التحولات استوعبت هذه الأجهزة في مكوناتها كذلك، أطرا شابة من نفس الفئات، مكونة تكوينا عصريا ويلعب ضمنها العنصر النسوي دورا يتوسع بصفة مضطردة. ويمكن القول إن "تحديث" هذه الأجهزة، مع التخلي من الناحية الاجتماعية، تدريجيا ومنذ السبعينات، على الاعتماد على عنصر الجهوية، ثم اللجوء إلى مناطق بعينها لتكون العمود الفقري لهيكلة وتكوين الأجهزة الأمنية والعسكرية بالمغرب، أصبح يعكس أيضا داخل هذه الأجهزة، البنية السكانية الجديدة للمغرب، والتي أصبحت في أغلب مكونها من ساكنة حضرية. كذلك، تم الحرص في السنوات الأخيرة على تأهيل هذه الأجهزة وتوفير لها كل الإمكانيات المادية والمالية، ومدها بكل الوسائل التقنية الضرورية لجعل تدخلاتها تتم بفعالية ومهنية متطورة. إلا أنه لا يكفي الإحالة فقط على هذه الأجهزة، من خلال تبيان قدرتها الأدائية الكبيرة أو في اعتمادها الذرع الأقوى للدولة في أي تعبئة شاملة، لاستنتاج أن المغرب كان مؤهلا ومسبقا، للتجاوب وبسرعة مع سياسة استباقية لحصر انتشار وباء فتاك، أبان على قدرة تدميرية في بلدان لها من المقدرات والإمكانيات ما يتجاوز بكثير الإمكانيات الذاتية للمغرب. ذلك أن القرار السياسي الذي اتخذ من طرف السلطة الفعلية ومن أعلى مراكزها، يؤكد على مركزية القرار السياسي على هذا المستوى. كما أكد نفس التوجه على قدرة هذه السلطة للتحرك وبسرعة كبيرة من خلال التجنيد الفوري لكل أدواتها وعلى رأسها أجهزتها الأمنية. وهي نفس الأجهزة التي وفرت لها كل مقومات الفاعلية من خلال هيكلة جديدة، والتجهيز الحديث على امتداد سنوا طويلة. كما اتخذت نفس السلطة السياسية، قرارها الاستباقي هذا، بغض النظر عن خطورة تبعاته الاقتصادية. علما أن المغرب بلد مفتوح ويعتمد في جزء كبير من حركته التجارية والاقتصادية وموارده المالية بالعملة الصعبة، على السياحة وتصدير مواد معدنية و صناعة تصديرية إضافة، لتحويلات العمال المهاجرين. كما أن انتشار جائحة كرونا في دول لها روابط متداخلة، اقتصادية وغيرها مع المغرب، قد يوحي بأن هذه السلطة كانت أمام خيار وحيد هو التحرك السريع لتجنب مواجهة خطر فقدان إمكانية السيطرة والعجز الذي سيواجه أجهزتها الأمنية في ضبط الأوضاع. إلا أن هذا التحرك يفترض أيضا توفر هذه السلطة على وسائل تنفيذ هذا الخيار، في وضع يفتقد فيه المغرب لبنية صحية واستشفائية مواتية، يمكنه بها التجاوب مع انتشار واسع لجائحة كرونا. في ظل هذه الطارئة وتحدياتها، كان الرهان الوحيد أيضا أمام هذه السلطة، هو الوصول وبطريقة ما، إلى التحكم في انتشار الوباء في حدود ما يمكن تحمله، على أن تتوفر للدولة، وفي ظرف قياسي، القدرة والوسائل، من خلال الإمكانيات الذاتية، التي تقوى على حشدها وبسرعة، للتجاوب ومحاصرة هذا الوباء، حتى لا تهدد نفس الدولة في مقوماتها الأساسية. وفي هذا السياق لعبت الأذرع الأمنية للدولة، بالتحديد، الدور المحوري في تدبير هذا الوضع وتنفيذ هذه السياسة. السياسة والسلطة بالمغرب لقد تم بسرعة فائقة تفعيل القرارات التي اتخذت لمواجهة جائحة كرونا. وكانت هذه القرارات جريئة وشاملة، كما طالت مجموع مرافق الحياة العامة بالبلاد وحتى التواصل مع العالم الخارجي. واعتمادا على أن القرارات المتخذة تمت بشكل غير مسبوق ولم يشهد مثلها المغرب في تاريخه الحديث، فلا يمكننا بالمرة، الإحالة، في عملية المقارنة، على بلدان تتوفر على مؤسسات دستورية متوازنة، وإلا اعتمدنا تعميما غير منتج سيطال مستويات لا تتقاطع في مكوناتها ولا طريقة عملها. فالقرارات السياسية الكبرى، التي سيكون لها تأثير مباشر على وتيرة عجلة الاقتصاد والوضعية المعيشية لفئات واسعة من السكان، تتم عادة في هذه البلدان، من خلال عملية تفاوضية تكون فيها المؤسسات الدستورية والهيئات التمثيلية أو المهنية وغيرها، طرفا محوريا في اتخاذ القرار ومراقبة تنفيذه. ةوبالتالي لا يمكن تصور اتخاذ قرارات حاسمة في هذه البلدان، خارج المراقبة التشريعية والتي تتمثل في مؤسسات دستورية متوازنة، وحتى إذا كان الأمر يتعلق بأوضاع استثنائية. ومن البديهي أن هذا النموذج لا يلتقي مع طابع المركزية المطلقة للسلطة السياسية بالمغرب، وطريقة تسير جهاز الدولة فيها، أو أن القرارات السياسية في البلاد تخضع لمراقبة تشريعية فاعلة. وإذا كان القرار الذي أطلق هذه العملية الاستباقية، بغض النظر عن آلية اتخاذه، كان هو الحل المتاح والمتوفر لهذه السلطة السياسية لتفادي الانزلاق إلى المجهول في خضم أزمة اقتصادية حادة زاد من تفاقمها الجفاف الذي ضرب البلاد هذه السنة، فالنجاح في تدبيره كان أيضا مرهونا بالقدرة التي تتوفر عليها هذه السلطة للتحكم في هذه العملية، وحشد وسائل النجاح لهذا المخطط. ولا يتعلق الأمر بتقلص إمكانية الحصول على موارد مالية من جهات كان يعتمد عليها سابقا في ذلك، أو حتى مع فرضية قدرة المغرب على حشد دعم مالي أجنبي مهم في ظرفية الأزمة الاقتصادية العامة، فذلك كله لم يكن ليعفيه من الاعتماد على خيار التعبئة الداخلية بحكم أن تواضع القدرات الاستشفائية والطبية الذاتية للمغرب، ستكون هي الحاسمة في النهاية لمنع الانزلاق، وبسرعة إلى خلل عام ينتشر على جميع مستويات المجتمع. كذلك أظهرت الأحداث، التي ترافقت مع تفعيل الإجراءات التي تلت إعلان حالة الطوارئ الصحية، أن نفس الأدوات والتي اعتمدت في السابق وفي حالات وظرفيات سياسية مختلفة، تؤكد، مع القيمة المضافة للتحديث الذي شهدته الأجهزة الأمنية والإمكانيات التي وفرت لها، أن جهاز الدولة بالمغرب يعتمد أساسا وحتى في مجال التعبئة الميدانية، على الوسائل التي توفرها له هذه الأجهزة وشبكة من الروابط والعلاقات الأخرى خارج نطاق أي تمثيلية محلية أو جهوية. وتؤكد هذه الحقيقة من جديد، وفي هذه الظرفية الخاصة بالذات وحتى مع كون الأمر يتعلق بحالة استثنائية مرتبطة بكارثة طبيعة تتعلق بوباء تحول إلى جائحة، عجز الوسائط السياسية بالمغرب في التأثير على القرار السياسي المركزي بأي درجة كانت، لعدم توفر هذه الوسائط على امتدادات القوة والنفوذ السياسي الفاعل يؤهلها لذلك. وحتى نضع هذه الظاهرة في إطارها التاريخي يجب ربطها أساسا بتبعات وبنتيجة الصراع على السلطة الذي استمر من 1956 حتى سنة 1975. وهي السنة التي دشنت بداية مرحلة الإجماع الوطني حول قضية الصحراء في مقابل ما أطلق عليه اسم المسلسل الديمقراطي. مع أن السلطة السياسية القائمة كانت وقبل هذا التاريخ، قد حسمت الصراع على السلطة الذي اتخذ في بعض الأحيان طابعا دمويا، لفائدتها بعد أن تمكنت من إعادة بناء أدواتها الأمنية من الأجهزة، التي ورثت عن فترة الاستعمار والمكونة على أسس جهوية، وفي علاقة مباشرة مع رأس هذه السلطة. كما لم يفرز الوضع في مجمله وحتى بعد سنة 1975، بداية أي نوع من المشاركة السياسية الفعلية في فترة ما بعد المسيرة الخضراء، ولا في فترة التناوب. ولم يحدث بعد دستور 2011، أي خرق أو مؤشر على تقاسم فعلي للسلطة، تكون فيه مكونات سياسية بعينها لها امتدادات تمثيله قوية تجعلها، من خلال المؤسسات الدستورية القائمة، أطرافا فاعلة في عملية اتخاذ القرار السياسي ومراقبة تنفيذه. وبمعنى آخر، لا يمكن وفي علاقة بالموضوع الذي نحن بصدده، وواقع إحكام القبضة المطلقة لهذه السلطة على القرار والمبادرة السياسية في البلاد، اعتبار أن التدابير الاستثنائية المرتبطة بجائحة كرونا، تشكل مؤشرا على بداية تحول في اتجاه تقوية الجانب السلطوي لنفس السلطة في اتجاه الحد من الحريات، أو ما يدل على بداية خلل في التوازنات السياسية القائمة في البلاد لصالح طرف متشدد من داخل هذه السلطة. خصوصا أن تسلسل الأحداث وبعد انتخابات 2016 يبين إلى أي مدى كان رد فعل هذه السلطة قويا في مواجهة التطورات الجهوية أو القطاعية بالمغرب. لقد استطاعت السلطة السياسية فعليا ومن خلال التدابير والتعبئة الشاملة التي نفذتها، التأكيد ومن جديد على تحكمها وتفعيلها على نطاق واسع، لنقاط القوة في هيمنتها السياسية. أما وظيفة (الوسائط) في مفهومها فلم يعمل عموما إلا على تأطيرها قصد تمرير والدفاع عن قراراتها في أوساط تلك (الوسائط) أو كواجهة سياسية لها على المستوى الخارجي، غير أنها، أي وظيفة (الوسائط) لم تتحول إلى بديل للسياسة العامة المتبعة في البلاد، أو إلى أداة مراقبة فعالة في إطار المؤسسات الدستورية القائمة. أما الأزمة الاقتصادية التي ستلي مرحلة ما بعد الخروج من أزمة كرونا، فستكون بالتأكيد أزمة قاسية وشاملة، وستمتد لعدة سنوات. لكن إذا كانت تداعيات هذه الأزمة ستصيب في الصميم وبالتأكيد، مصالح فئات شعبية واسعة، إلا أنها ستنعكس بقوة كبيرة أيضا على الآلية الاقتصادية والمالية التي يقوم عليها الاقتصاد المغربي. المستقبل يستنتج مما ورد في المقال المنشور بجريدة ليبراسيون الفرنسية Libération ، أن المغرب دخل مع الإجراءات المرتبطة بجائحة كرونا، فترة جديدة تتميز بتشديد القبضة السلطوية فيه. إلا أن هذا الاستنتاج وعلى أهميته، لم ينبثق من توصيف نوع التفاعلات المؤثرة حاليا في علاقات القوة داخل هذه السلطة، حتى نستطيع التأكد من الاتجاه العام الاتجاه الذي سوف تسير فيه الأوضاع بعد جائحة كورونا. وهذا ما دفعنا، في محاولة لاستشراف آفاق مستقبل الوضع السياسي بالمغرب في هذه الظرفية بالذات حاولنا، تقديم تحليل تاريخي مقتضب، قصد إعطاء نظرة عامة عن طبيعة الأدوات الفاعلة للسلطة السياسية القائمة في المغرب، من خلال الإحالة على نقاط القوة فيها، وفي علاقة بمواقع الأجهزة الأمنية داخل هذه السلطة، وكذلك تبيان الإمكانية الواسعة التي توفرها لها هذه الأجهزة، للتحكم والسيطرة في الوضع عامة مع قدرة متميزة، لتفعيل أي مبادرة أو أي قرار سياسي تتخذه. وبناء على هذا يمكن القول إن وزارة الداخلية، وهي من ضمن الأدوات الأساسية وذراع أساسي كذلك لهذه السلطة، سيكون لها التأثير الفعال والدور الوازن في ضبط الساحة السياسية بحكم توفرها على شبكة واسعة من أدوات السيطرة على دواليب المجتمع. وهو الأمر الذي يتأكد من التوسع الترابي لبنية هذه الوزارة، وحضورها تاريخيا وبقوة، في جميع المحطات والصراعات السياسية التي عرفتها البلاد في العقود الأخيرة .ولأن هذه الوزارة استمرت كوزارة سيادة حتى بعد دستور 2011، فهي بالتالي جهاز فعال في يد السلطة السياسية لتنفيذ خياراتها لما بعد مرحلة الحجر الصحي. وسيكون من المؤكد أن تلعب هذه الوزارة والإدارة الترابية التابعة لها، وبما راكمته من تجربة ميدانية مهمة، دورا محوريا على المستوى الاجتماعي والسياسي، في تدبير تفاعلات وتأثير الأزمة الاقتصادية الحادة الناتجة عن جائحة كرونا أو ما بعدها. وبالإضافة لدورها الكبير في ضبط المشهد السياسي الداخلي في المغرب، تبقى هذه الوزارة أيضا أداة من أدوات السلطة السياسية في مراقبة والتأثير على الفاعلين الاقتصاديين وذلك من خلال تسهيل نشاطهم أو عرقلته. فصلاحيات هذه الوزارة تمتد إلى مراقبة معظم الأنشطة الاقتصادية والتجارية من خلال الترخيصات المخول لها منحها. كما تمتد صلاحيات والي الجهة، وهو رجل السلطة المحوري على مستوى الجهة، إلى الإشراف على مراكز الاستثمار الجهوية التي تفعل وتراقب المشاريع الاستثمارية الخاصة التي تسعى للحصول على التشجيعات التحفيزية التي تسمح بها قوانين الاستثمار. كما تعتبر هذه الوزارة أيضا الإدارة الوصية على أراضي الجماعات السلالية التي تقدر مساحتها بخمسة عشر مليون هكتار يعيش فوقها ثلث سكان المغرب. ومن المعروف أن وزارة الداخلية كانت قد باشرت في الأشهر الأخير عدة تعديلات على القوانين التي تنظم التصرف في هذه الأراضي في هدف معلن لجعلها أكثر تداولا بالتفويت لغاية تسهيل استقطاب استثمارات دائمة ومهمة فيها. فيكون لنا في هذا، وفي حدود ما تمت الإشارة إليه فقط ، ما يؤكد أن وزارة الداخلية في المغرب، لا يقتصر دورها على الجانب الأمني الصرف، بل لها أيضا من الإمكانيات والوسائل ما يؤهلها للتأثير المباشر في توجيه الفاعلين الاقتصاديين، وتفعيل القرارات الاجتماعية التي لها علاقة باحتواء تأثيرات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن جائحة كرونا. كذلك انتهج المغرب في السنوات الأخيرة توجها مهما لتنمية بنيته التحتية وانطلاق مشروعات محورية وكبيرة في مجال الطاقة المتجددة واستقبال صناعات تركبية ذات قدرة تصديرية هائلة مع الاستمرار في جعل المغرب محطة سياحية استقطبت ما مجموعه تقريبا ثلاث عشرة مليونا من السواح سنة 2019. كما يلاحظ أن مجمل المبادرات في إطلاق المشاريع الكبرى أو الإشراف على استكمالها يتم من خلال تدخل مباشر من رأس السلطة، ومع ذلك استشعرت نفس السلطة، وقبل شهور من تفشي جائحة كرونا، محدودية النموذج التنموي للمغرب وضرورة إصلاحه. وهذا يعني أن السلطة السياسية في المغرب، والتي تتحكم كذلك في تحديد التوجه الاقتصادي العام للبلاد، استشعرت وقبل انتشار الجائحة، أن النموذج الاقتصادي القائم يستدعي إحداث إصلاحات جوهرية عليه وبسرعة. إلا أن الاقتصاد المغربي يوجد أيضا في حالة تداخل كبير مع اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي. مما يجعله لا يقوى على تجنب الانعكاس المؤلم والمباشر، للانكماش الاقتصادي المرتقب في دول الاتحاد الأوروبي الناتج عن التوقف شبه الكلي لاقتصادها بسبب الانغلاق الذي تسببت فيه جائحة كرونا. وبذلك تبقى الرغبة المعبر عنها لإصلاح النموذج الاقتصادي القائم، وهي رغبة لم تكتمل تصوراتها بعد، مؤجلة إلى حين تجاوز التبعات الاقتصادية المباشرة لجائحة كرونا من ناحية، وانكشاف نوع التحولات الجارية على الصعيد العالمي، وبالخصوص في العلاقة مع الشريك الاقتصادي الأكبر للمغرب وهي دول الاتحاد الأوروب من ناحية ثانية. من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية لما بعد جائحة كرونا، ستستمر لمدة طويلة وستكون قاسية على الفئات الشعبية بالمغرب، كما ستضرب أيضا، وفي الصميم كل الاقتصاد المرتبط بالتصدير وقطاع السياحة وكذا تحويلات المغاربة بالخارج. فهل ستتمكن السلطة السياسية بالنظر إلى الأدوات والوسائل المتاحة التي تتحكم فيها، إلى جانب ظروف معقدة ومحيط خارجي صعب، من تجاوز هذه الأزمة وبأقل ضرر ممكن؟ للجواب على هذا السؤال في رأينا، لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار القدرات التي أبانت عنها السلطة السياسية مؤخرا في التعبئة وحشد الإمكانيات الذاتية. ومن هذا المنظور ستبقى الأجهزة الفاعلة للدولة مؤثرة في الوضع الداخلي وحتى بعد مرحلة الجائحة. كما سيمتد هذا الحشد إلى تفعيل الأدوات التي تؤثر بها على دور الفاعلين الاقتصاديين للحفاظ على الحد الأدنى من السلم الاجتماعي والتعامل مع الحاجيات الملحة ضمن إجراءات وقتية قصد التخفيف من وطأة الأزمة. وفي مقابل هذا وبالنظر للدور الذي لعبته الأجهزة والأدوات الفاعلة لممارسة السلطة السياسية تاريخيا في المغرب، وتمركزها المطلق في يد هذه السلطة، مع ما تتوفر عليه من إمكانيات وكذلك تداخلها مع مصالح الفاعلين الاقتصاديين ومحدودية تأثير العملية السياسية القائمة في التأثير على هذه التوازنات، ستسعى تلك السلطة بالضرورة، كما حدث سنة 2011 ولو أن الظرفية الحالية مختلفة اختلافا جذريا، لتدبير الوضعية في المستقبل المنظور قصد الخروج من الأزمة اعتمادا على خبرتها التقليدية ورصيدها التاريخي في التعامل مع الأزمات والهزات التي واجهتها تاريخيا. وسيكون في حكم المؤكد، لكي لا تصبح شرعية هذه السلطة على المحك، ضرورة اللجوء لخيار المشاورة، وحتى إلى توسيع التمثيلية السياسية داخل الحكومة، وقد يكون ذلك بهدف واضح يرمي إلى عزل أية معارضة تهدد التوافق السياسي القائم والى حين أن تخف حدة الأزمة والتي ستنطلق مع بداية انتعاش جديد للاقتصاد العالمي خلال فيما سيأتي من الأيام. لكن، هل دخل المغرب في مرحلة تشديد القبضة السلطوية بعد اتخاذ إجراءات مواجهة جائحة كرونا؟ وهل يمكن اعتبار مشروع قانون 20-22 الذي أثير في الساحة في أثناء الجائحة دالا على حقيقة هذا الاتجاه كما ورد في المقال موضوع هذه المناقشة؟ لقد أجبنا على هذه الفرضية من خلال البحث في طبيعة السلطة السياسية بالمغرب والعلاقات المتشابكة التي تجمعها والفاعلين الاقتصاديين، وكذا تحكمها في المشهد السياسي عبر الاحتواء وعزل المعارضين لمشروعها السياسي في ظل توازنات محكمة لم يطرأ عليها أي تغيير جوهري في العقدين الأخيرين. أما مشروع قانون 20-22 فلقد تم ترحيله، مؤقتا، إلى أجل غير مسمى … الأمر الذي قد يدل على أن قدرة السلطة السياسية المتنفذة على التناور تتفوق بكثير على عبث بعض الفاعلين السياسيين. * محامي بهيئة القنيطرة، ورئيس "مؤسسة إدريس بنزكري لحقوق الإنسان والديموقراطية"