تعرف الساحة السياسية والحقوقية والإعلامية منذ أسابيع جدلا واسعا حول موضوع مدونة الأسرة، خاصة بعد دعوة الملك محمد السادس إلى تعديلها في خطاب العرش الأخير. ويطال الموضوع الكثير من "الجرأة" في الطرح و"الغموض وغياب الدقة" في المرجعية والأسس المراد الاعتماد عليها من أجل القيام بهذه المراجعات، مما أثار جملة من "التخوفات" لدى الهيئات المحافظة. وما يزيد من حدة النقاش هو الاحتدام بين تيارين؛ محافظ ينهل من المرجعية الدينية الإسلامية، حججه ومنطلقه في ذلك دين الدولة، وبين تيار حداثي يسعى عن طريق الاتفاقيات الدولية إلى تحقيق مزيد من المكتسبات للمرأة والطفل. في هذا السياق، تستضيف جريدة "العمق" ضمن فقرة "خمسة أسئلة"، الأمين العام للحزب المغربي الحر والمحامي بهيئة الرباط، إسحاق شارية، لإبراز الحاجة إلى التعديلات المرجوة وأسباب الجدل القائم، و"قصور وحيف" بعض مواد المدونة الحالية. هل نحن في الحاجة إلى تعديلات على مستوى مدونة الأسرة؟ ولماذا يطال الموضوع الكثير من الغموض والجدل في الوقت نفسه؟ أظن أن كل عمل بشري يحتاج بعد مدة من الزمن إلى تنقيحات وإلى تعديلات. وصحيح اليوم، بعد عشرين سنة من وضع مدونة الأسرة، أبانت هذه المدة على أن هناك مجموعة من الأمور التي يجب أن تراجع وأن تعدل، خصوصا مع الارتفاع المهول لقضايا الطلاق، والذي وصل حوالي 300 ألف حالة طلاق في السنة، وما يصاحب ذلك من مشاكل في النفقة والحضانة. أما بالنسبة للغموض الذي يصاحب هذا الموضوع، مرده لكون فئة في المجتمع، تلك التي تدعي الحداثة وتنادي بالابتعاد عن كل مرجعية دينية في مدونة الأسرة، فهي تريد احتكار هذا النقاش بطريقة سرية لنفسها دون إشراك باقي الفعاليات المجتمعية، والحال أن مدونة الأسرة هي مدونة كافة المجتمع، وكافة الأمة المغربية، وبالتالي فمن الواجب أن يشارك في إنجازها -كما الحال في اللجنة التي ساهمت في تعديل مدونة الأسرة بإشراف ملكي 2003- لجنة شاملة تقوم بإدخال التعديلات الواجبة والضرورية على المدونة. ما هي أهم التغييرات التي يجب النظر فيها إما تجويدا أو إضافة أو حذفا في مدونة الأسرة؟ أرى أن هناك أربعة مواضيع يجب مناقشتها في مدونة الأسرة. المسألة الأولى، تلك المتعلقة بتسهيل إجراءات الطلاق، لأن هذا الأمر يؤدي إلى كوارث مجتمعية. فتسهيل مسطرة التطليق للشقاق تعتبر من أسهل المساطر التي يلجأ إليها كافة الأزواج للهروب من تعقيدات مساطر الطلاق الأخرى، وأظن أنه من الواجب أن تكون المسطرة تخدم بالأساس الصلح والتصالح والمحافظة على الأسرة، وعلى مؤسسة الصلح أو القيمين على الصلح داخل مسطرة الشقاق القيام بأدوارهم كاملة وأن يمنحهم القانون الإجراءات الواجبة حتى تكون نتائج إيجابية في الوصول إلى الصلح بين الأزواج. لهذا أنا ضد مسألة تسريع مسطرة التطليق، بل في كافة دول العالم تعتبر أن هذه المسطرة تستوجب أن تأخذ وقتا طويلا، وداخل ذلك الوقت تكون دائما هناك الآمال للنجاح في إجراء الصلح. والمسألة الثانية تتعلق بالحضانة. عندما منح القانون للمرأة حضانة الأطفال، وهذا حقها الشرعي، يبقى الرجل حبيسا ولا يرى أبناؤه إلا مرة واحدة في الأسبوع، وأظن أن هذا الأمر فيه حيف كبير للأب، باعتباره جزء من الأسرة، وبالتالي يجب إعادة النظر في هذه المسألة وأن يعطى للأب حقه وللأبناء حقهم في والدهم، بحيث إذا كنا سنطبق مبدأ المناصفة، فمن حق الوالد أن يلتقي بأبنائه نفس المدة التي يكون فيها الأبناء عند الأم، وبالتالي يجب أن يسمح القانون له بأن يقابله ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع. وأيضا مسألة النفقة، هذه المسألة لا يجب أن تترك كسلطة تقديرية للقاضي يقدرها كيفما شاء، بل يجب أن تحدد معاييرها وشروطها بصفة مسبقة في القانون. كلنا نلاحظ ظواهر يقضى على الزوج/ الأب، فيها بأحكام قاسية في النفقة، ولا تراعى مداخيله ولا أجرته ولا وضعيته الاجتماعية. أرى أنه من الواجب وضع محددات واضحة تحدد النفقة، لأن هذا الموضوع تترتب عنه آثار وخيمة سواء على المرأة وأبنائها أو على الرجل فأحيانا يحكم بنفقة هزيلة جدا تكون غير كافية تماما لسد الحاجيات الضرورية للأبناء، وأحيانا يتم المغالاة فيها حتى تؤدي بالزوج إلى السجن في إطار مساطر إهمال الأسرة نتيجة عجزه على سدادها، وعليه يضيع مستقبله، والأنكى والأفضع في الأمر هو أنه يصبح العدو الأول للأسرة، والأبناء يصبحوا العدو الأول لهذا الأب، وإعادة النظر هذه يجب أن تهدف لحماية التماسك العائلي. أما بالنسبة للمواريث أو الإرث، طبعا أنا مع أي تعديل، فقط أن تكون هذه التعديلات داخل إطار الاجتهاد الفقهي الذي يأخذ أسسه من مؤسسة إمارة المؤمنين ومن المجلس العلمي الأعلى، فإذا أبان الزمن على أنه من الضروري طرح تعديلات على الإرث، فلا ضير في ذلك، إلا أنه من الواجب أن يتم داخل إطار واجتهاد حتى نبقى دائما متوافقين مع دستور المملكة المغربية ومع مرجعية وهوية الأمة المغربية ومؤسسة إمارة المؤمنين. تُطِّل بين الفينة والأخرى أخبار تفيد أن هناك تعديلات ستحدث في منأى عن هوية المغاربة الدينية ومرجعيتهم الدستورية.. ما هي أبرز هذه التعديلات موضوع الجدل القائم؟ وهل يمكن أن يتحقق ذلك؟ أبرز التعديلات التي يطالب بها دعاة الحداثة ومنظمات "النساءوية"، هي مسألة المناصفة في الإرث، في هذه القضية جوابي سيكون واضحا، وهو إذا كنا سنتحدث عن المناصفة في الإرث، فعلينا أن نخرج كامل المدونة عن الإطار الديني، ونتحمل مخاطر ذلك وتأثيرات ذلك على المجتمع وعلى تماسكه. وحينما نخرج عن الإطار الديني وندخل في المناصفة في الإرث، يجب أن ندخل في المناصفة في الصداق، والمناصفة في النفقة، والمناصفة في الحضانة، وفي كافة العلاقة بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، بما فيها الولاية وتربية الأبناء وكل شيء، لا أن نأخذ من المرجعية الإسلامية النصوص التي تدعم حقوق النساء، ونتغاضى عن نصوص أخرى في جوانب أخرى. كما أجد أنه يجب أن نأتي بمنظومة جديدة، وأنه آن الأوان لأن نضيف إلى مدونة الأسرة الحالية ذات المرجعية الدينية الإسلامية، مدونة أسرة أخرى لا علاقة لها بالدين الإسلامي، مدونة تمكن من تنظيم زواج داخل مقاطعات، وتشرع في إجراءات أخرى مستقلة بذاتها، وإجراءات خاصة بالطلاق والإرث وغيرهم، وأن يبقى للمواطن حرية الاختيار، هل يريد أن ينظم زواجه بمدونة ذات نظام ديني أو أن يعيش بمدونة ذات نظام لا علاقة له بالمرجعية الدينية. أما بخصوص الشق الثاني من السؤال، أقول بأنه يستحيل أن يتحقق ذلك استحالة تامة، لأن هذه الدولة يرأسها أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين في خطاب العرش الأخير كان واضحا، ووضوح خطابه أثر حتى على الحركات "النساءوية" التي سعت إلى تزوير ذلك الخطاب وتضليل المواطن المغربي من ذلك الخطاب، وتحويره وإعطائه تفسيرات لم يأت بها. جلالة الملك محمد السادس في خطابه المذكور، قال صراحة بأنه من الواجب النظر إلى مدونة أسرة وليس مدونة خاصة بالنساء، وأن هناك تطبيقات داخل المحاكم أبانت على أن بعض موظفي العدالة ينظرون إليها على أنها خاصة بالنساء، وهذا ما يخل بالتوازن البشري لذلك طالب الملك بإجراء تعديلات تعيد التوازن للأسرة. وفي الوقت المناسب سيتدخل جلالة الملك لإعادة الأمور إلى نصابها وتشكيل لجنة مستقلة تضم كافة أطياف المجتمع، لإدخال التعديلات المناسبة التي لن تتجاوز المرجعية الدينية للمغاربة وأنه كأمير المؤمنين لن يحلل حراما ولن يحرم حلالا. أظن أن هذا الخطاب يعطي جرعة كبيرة من الطمأنة للمجتمع المغربية. أين تكمن خطورة هذه التعديلات وهل سيكون لها تأثيرات جسيمة على استقرار الأسرة والمجتمع؟ أم أن الواقفين ضد هذه التعديلات يحجرون على تطور قوانين المجتمع؟ خطورة هذه التعديلات التي يطالب بها التيار "النساءوي" تسعى بالأساس إلى محاولة تجريد المجتمع من هويته الدينية، وخطورة هذا الأمر هو أنه إذا تم سلخ المجتمع من هذه المرجعية التي تشكل أساس تكوينه وقيام دولته، فإن الأمر قد يشكل خطرا على المجتمع ككل، ومن تم على الدولة وعلى البنيان القامة عليه الدولة المغربية الذي هو الدين الإسلامي ومؤسسة إمارة المؤمنين. من الواجب دائما إدخال التعديلات على أي عمل بشري، لأن كل عمل بشري هو عمل منقوص وناقص ويمكن تعديله بعد تجريبه وظهور نقائصه، بالتالي لا يجب أن يكون هنالك خوف من التعديلات، فقط أن يكون النقاش مفتوحا بكل أريحية وحرية بين كافة أطياف المجتمع، وأن لا تحجر فئة على أخرى، وأظن أن عمل توسيع النقاش بين أطياف المجتمع يجب أن يتولاه جلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين وأن يشرف عليه كما كان الأمر في التعديلات الأولى لسنة 2003. كحزب سياسي مغربي.. ما هو موقفكم في هذا الموضوع؟ وكيف تدفعون للاحتكام للمرجعية الدينية في التعديلات رغم خلفيتكم الليبرالية؟ نحن في الحزب المغربي الحر نعتبر على أن مناقشة مدونة الأسرة يجب أن تكون بكل حرية، وكمدافعين على الحرية نعتبر على أنه ليس من حق أي جهة أن تحتكر النقاش على جهة أخرى، وما دام الفكر الليبرالي والفكر الحر يؤمن بحرية الاختيار، فإنه يتوجب علينا أن نحترم حرية اختيار الشعب المغربي. اليوم كافة التقارير والاحصائيات تقول على أن المجتمع المغربي متمسك حتى النخاع بالمرجعية الدينية لمدونة الأسرة، وبالتالي ليس من حقنا كنخب وأحزاب سياسية أن نتجاوز هذه الرغبة، وأن نفرض على المجتمع توجها معينا. لذلك، يجب إشراك جميع التيارات ومناقشة الموضوع بكل حرية وأن يناقش المجتمع بكل أطيافه مسألة التعديلات، وهذه هي الطريقة التي ستخرجنا بهذا النقاش إلى قانون أكثر شمولية وقانون يجيبنا على تساؤلات كافة الأطراف. نملك كمغاربة تجربة في هذه المسألة، فالتعديلات التي نقلتنا من قانون الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، ذهبت في هذا الإطار؛ إطار حرية النقاش ومشاركة كافة الأطياف والمزاوجة بين المرجعية الدينية والقوانين الحديثة والاتفاقيات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، وكل ذلك في قالب حداقي عصري يتلاءم مع الشريعه الاسلامية ولا يتصادم معها.