عندما استمعت للسيد ناصر بوريطة الوزير المنتدب في الشؤون الخارجية والتعاون متحدثا بلغة عربية (شبه سليمة) في ندوته الصحفية يوم الجمعة الماضية انتابني شعور بالقلق المفعم بالإهانة من تأمل السؤال البسيط: لم تحدث السيد الوزير الآن بالعربية في المغرب في حين أصر على الحديث بحضور وزير الشؤون الخارجية الروسي سيرغي لافروف بلغة موليير التي تعد أبعد اللغات عن الاستعمال والتداول في روسيا؟ ولم يصر سادة القرار دوما على تشويه صورة المغرب وجعله ولاية ملحقة بالسيد الفرنسي وتقديمه على أنه خادم بالوكالة لسادة الإيليزيه؟ في زيارة سابقة إلى ألمانيا الاتحادية كنا في نقاش مع مدير مركز تركي في البلاد، وخلال النقاش اقترح أحد الأساتذة إنشاء مركز ثقافي مغربي يقدم الثقافة المغربية الأصيلة للشعب الألماني، لكن المفاجأة هو الرفض المضمن في كلام المسؤول التركي: إن أردتم فتح هذا المركز فمكانه هو فرنسا؟ آنئذ أحسست بالحقيقة المرة التي يتناوب سادة القرار على ترسيخها: المغرب ولاية فرنسية. وما حدث في موسكو يذكرنا بموقف سابق بالرباط حين أحرج السفير الروسي بالمغرب، وزير التربية الوطنية حين أخبر الحاضرين، بأن الوزارة طلبت منه التحدث باللغة الفرنسية، مبديا استغرابه الشديد من الأمر، خاصة وأن الدستور المغربي ينص على أن العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان بالبلاد ومصرا على الحديث باللغة العربية باللغة العربية متجاهلا طلب الوزارة. أليس عيبا أن يذكر مسؤول أجنبي مسؤولا محسوبا على المغاربة بدستور بلده ومقتضياته اللغوية؟ كيف لا وأصحاب القرار عندنا يتفننون في ضرب رسمية العربية تارة بادعاء الحمى وأخرى بفرنسة المدرسة والأكثر بالحديث بلغة المحتل في تمثيل الوطن. ما لا يعرفه هؤلاء أن روسيا التي جعلت من لغتها عنوانا للسيادة الوطنية بحيث لا يمكن الحديث الرسمي إلا باللغة الروسية، هي نفسها التي آلت العربية اهتماما خاصا نظرا لطبيعة العلاقات التي جمعتها بالفضاء الثقافي العربي منذ قرون طويلة، لدرجة أنه لم يعد مفاجئا أن يصادفك في شوارع روسيا الاتحادية روس يتحدثون بالعربية بطلاقة ، مما جعل جل الدبلوماسيين يتقنون لغة الضاد. وهؤلاء الذين ينتحلون نحلة فرنسا لم لا يقرأون تاريخها القريب في الاعتزاز بلغتها؟. لكن المسؤولين عندنا يتفننون في احتقار ذواتهم والانقلاب على دستور بلدهم والارتماء في أحضان خالتهم فرنسا. فبالله عليكم كيف يمكن لمسؤول يرفض الاعتزاز بذاته الوطنية لغويا وهوياتيا أن يدافع عن تراب بلاده؟ الهزيمة تكون نفسية قبل أن تغدو سياسية وعسكرية. يبدو أننا نحتاج في كل حين أن نكرر بأن سيادة الدولة لا تتوقف عند حدود الاستقلال السياسي والاقتصادي، ومفردات القانون والحدود، بل إن المدخل الثقافي اللغوي هو التعبير الرمزي والفكري عن هذا الاستقلال. فمدخل السيادة هو الاعتزاز بالذات. لذا فدرجة أي مسؤول العلمية أو الأكاديمية، أو حتى أميته بأبجديات اللغة، قد لا تؤثر كثيرا في درجة وعيه بالمطلوب منه حضاريا واستراتيجيا. لأن المطلوب أن يستوعب المسؤول بأن استعمال اللغة الرسمية ليس اختيارا تواصليا أو قرارا ذاتيا وإنما جزء من سيادة الدولة التي يمثلها، وأي تهاون في الأمر أو استهانة بقدرتها على تأمين التميز الوظيفي والسياسي يعني ضربا في استقلاليتها ومنعتها خارجيا، وهدما لمقومات الانتماء داخليا. فلا يعقل أن تسند وظيفة تدبير الشأن المعرفي لمن يحتاج للوعي بدور اللغة في النهوض المرجو والإصلاح المأمول. وهل نحن في حاجة إلى التذكير بقول فيلبسون بأنّ الدول الأكثر فقراً هي الدول التي تتخلّى عن لغاتها الرسمية وتعتمد «الإنجليزيةَ» (هذا بالنسبة للغة عالمية) وسيلة للتعليم، فضلاً عمّا يسببه هذا التخلي من عرقلة اللغة في بلوغ أهدافها في إنجاز الانسجام والتآلف بين قواها الاجتماعية. وبعبارة واحدة نقول لهؤلاء المسؤولين : لقد شوهتم هذا الوطن.