تُسارع الدول الأوروبية الزمن للبحث عن مصادر بديلة ووافية لتعويض النفط والغاز الروسيين استعدادا للحظر الشبه كامل لهما بحلول نهاية 2022. وقد أدت العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا إلى ارتفاع أسعار المواد النفطية وغالبية المواد الغذائية بالإضافة إلى تعطل سلاسل توريد الحبوب، الأمر الذي دفع بمؤشرات التضخم إلى مستويات قياسية لم يشهدها العالم منذ نصف قرن وأجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، وتسبب في تراجع معدلات النمو الاقتصادية لجل دول العالم. في هذا الإطار، ونظرا لمحورية النفط في هذه الحرب ومدى تأثير كمياته المعروضة في التغيرات الجيوسياسية، توجهت الدول الغربية إلى مجموعة من الدول الرائدة في الصناعات النفطية (السعودية، الإمارات، قطر، فنزويلا..) من أجل فرض واقع جديد وتغير خريطة التصديرات النفطية وتعويض النقص في المعروض النفطي العالمي (سواء بسبب العقوبات على النفط الروسية أو بسبب التراجع الكبير للإنتاج في كل من أنغولا ونيجيريا وليبيا)؛ وقد تطلب تحقيق هذا الهدف زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السعودية والاجتماع بغالبية رؤساء الدول العربية وعلى رأسهم دول الخليج؛ غير أن الجواب كان عكس المتوقع، فقد أقرت مجموعة أوبك+ -عقب هذه الزيارة- زيادة هامشية في إنتاج النفط بواقع 100 ألف برميل يوميا. وقد فسرت المنظمة هذه الخطوة بمحدودية الطاقة الإنتاجية الإضافية التي تقتضي من الدول النفطية استخدامها بحذر شديد للاستجابة لتعطّلات حادة في الإمدادات، وأن أي نقص في الاستثمار في قطاع النفط سيكون له تأثير على تلبية طلب متنام بعد 2023. يمكن قراءة رد فعل السعودية والإمارات (أكبر المؤثرين في مجموعة أوبك+ ) بكونه رفض بارد لطلب واشنطن و"إحراج سياسي" لإدارة الرئيس الأمريكي قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس على اعتبار أن هذه الزيادة ما هي إلا تحرك هامشي غير ذي معنى اقتصادي وهو يعادل 86 ثانية فقط من الطلب العالمي على النفط، في المقابل هناك فائض إنتاج يبلغ حجمه 3 ملايين برميل يمكن إضافته للإنتاج من طرف السعودية والإمارات. يرجع هذا الرفض لعدة أسباب، أولها: التزام دول الخليج الحياد في الصراع الروسي الأوكراني وتفادي السعودية المواجهة المباشرة مع روسيا كما وقع في جائحة كورونا والتي أدت إلى إشعال حرب أسعار نفطية بين موسكو والرياض وأحدثت انهيارات كبيرة في أسعار البترول؛ وقد وُصفت هذه المواجهة آنذاك بأنها "النسخة النووية من حرب الأسعار". ولتفادي مثل هذا السيناريو، اتفق الرئيس بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في 21 يوليوز الماضي في اتصال هاتفي على ضرورة استمرار تفاهمات واتفاقات "أوبك +" التي تقودها موسكو والرياض، وشددوا على تنسيق الأهداف بشأن إنتاج النفط حاليا ومستقبلا. ثانيا، بعد تبني الرئيس الأمريكي باراك أوباما سياسية خارجية تقوم على "التحول نحو آسيا" والتخلي عن حلفاءهم التقليديين في الشرق الأوسط، عملت السعودية على تعميق علاقتها مع عدة دول كبرى وعلى رأسهم روسيا. ففي 2015 تم توقيع عدد من الاتفاقيات بين البلدين شملت مجالات مختلفة مثل الطاقة النووية -خاصة بعد إعلان السعودية عن نيتها بناء 16 مفاعلا نوويّا للأغراض السلمية- ومصادر الطاقة والمياه، علاوة على تفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري والتعاون في مجال الفضاء. وفي 2017 وفي أول زيارة لملك سعودي إلى روسيا، وقع الطرفين اتفاقيات تعاون متقدمة، أهمها اتفاقية لتصنيع بعض الأسلحة الروسية في السعودية. وفي سنة 2021 أبرمت السعودية، اتفاقا عسكريا مع روسيا يهدف إلى تطوير مجالات التعاون العسكري المشترك بين البلدين. الأكيد أن روسيا لن تحل مكان الولاياتالمتحدة في مجال بيع الأسلحة والمساعدة العسكرية للسعودية والشراكة الاستراتيجية معها، لكن سياسة تنويع الشركاء هو اختيار استراتيجي لجأت إليه دول الشرق الأوسط بعد تعاظم أدوار الصينوروسيا عالميا، وبسبب الخذلان وفي بعض الأحيان "الإهانة" التي تعرضت إليها بعض الدول العربية من طرف الإدارة الأمريكية. ثالثا، تحرص دول الخليج على حماية مصالحها الاقتصادية وعدم الدخول في معادلة الحرب الأوكرانية ودفع ثمن تداعيات العقوبات الغربية ضد روسيا، لذلك فهي تحافظ على أمنها المالي وتتفادى تراجع إيراداتها المالية والتي يمثل النفط المكون الأكبر من صادراتها السلعية، فقد بلغت نسبة الصادرات في السعودية 71% فضلا عن صادراتها من البتروكيماويات، وفي العراق 92.5% وفي الكويت 78% وفي ليبيا 95% وفي الجزائر 54%. وقد تجاوزت الإيرادات النفطية في السعودية ال 250 مليار ريال (تقريبا 66.7 مليار دولار) في الربع الثاني من 2022، إذ سجلت الأنشطة النفطية زيادة غير مسبوقة تُقدر بنسبة 23. %. وحسب هيئة الإحصاء السعودية فإن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ارتفع بنسبة 11.8% في الربع الثاني مقارنة بنفس الفترة من 2021. رابعا، أدت الطفرة الكبيرة في إنتاج النفط الصخري الأمريكي إلى تغييرات دراماتيكية في أسواق النفط العالمية، مما حتَّم على السعودية ومنظمة الدول المصدِّرة للبترول (أوبك) التعامل مع واشنطن تعامل المنافس القوي، حيث احتلت أمريكا في سنة 2021 المركز الأول عالميا في إنتاج الخام، بنصيب بلغ 16% من الإنتاج العالمي – أصبح إنتاج أمريكا من النفط يكفي 56% من احتياجات الاقتصاد الأمريكي-، وتحتل المركز الخامس دوليا في تصدير الخام بنسبة 7%، وشغلت المركز الأول في صادرات المشتقات بنصيب 19% من الصادرات الدولية، لتحتل المركز الأول دوليا في صادرات الخام والمشتقات معا بنسبة 12% من الصادرات الدولية منهما. علاوة على ذلك، تمتلك الولاياتالمتحدة أكبر طاقة تكريرية عالميا بنسبة 17.5% من طاقة التكرير الدولية، واحتلت المركز الأول في إنتاج المشتقات البترولية سنة 2021 بنصيب 21% من الإنتاج العالمي، وتحتل المركز التاسع دوليا في الاحتياطيات الدولية من الخام بنصيب 2.5% من الاحتياطيات الدولية.. الطفرة الأمريكية هاته على حساب كل من السعودية والإمارات اللتان بدأتا تخسر تدريجيا في السنوات الأخيرة حصتهما السوقية في أسواق النفط العالمية. بالإضافة للأسباب سالفة الذكر، هناك تحولات كبيرة يعرفها النظام الدولي الحالي، خصوصا بعد تداعيات جائحة كورونا، وما واكبها من تحول تدريجي لميزان القوى من الغرب نحو الشرق، وتعاظمت أدوار مجموعة من الدول الكبرى كالصينوروسيا والهند، ومعلوم أن أمريكا والاتحاد الأوروبي يسعون جاهدين لكبح جماح توسع هذه الأقطاب الصاعدة، لهذا تحاول دول الشرق الأوسط عموما ودول الخليج خصوصا تحقيق التوازن في التعامل والتعاون مع الطرفين -قدر الإمكان- والحرص على الحياد وعلى تنويع الشراكات على المستوى القريب والبعيد والقيام بأدوار أخرى تساعدها على فرض مصلحتها والتأثير في الخريطة العالمية خصوصا مع قرب توقيع الاتفاق النووي الشامل بين إيرانوأمريكا والدول الأوروبية –تحالفات جديدة في بيئة أمنية جديدة-. ويظل النفط الورقة الرابحة في يد الدول العربية الذي يقوي موقعها التفاوضي ويحفظ مكانتها في النظام الدولي الحالي والمستقبلي. لقد أثبت الأزمات المتتالية وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية الوخيمة ثلاث حقائق رئيسية: أولا، أن النفط والاقتصاد العالمي مرتبطان ولا يمكن الفصل بينهما، وأن سعر النفط هو أحد المقومات الرئيسية لبناء واستشراف المستقبل وأن فقدان التوازن في العرض والطلب في المواد البترولية واضطراب الإمدادات النفطية يؤدي إلى انهيار الدول وعدم استقرار الأوضاع الجيوسياسية في النظام الدولي -أزمة الطاقة في الاتحاد الأوروبي خير دليل-. ثانيا، أن النفط والغاز الطبيعي سيظلان أساس النشاط الاقتصادي لفترة طويلة، وأن التحول القريب في مجال الطاقة العالمية من هاذين المادتين إلى مصادر الطاقات المتجددة سيمتد لأعوام، ولا توجد مادة وسلعة بديلة ومتعددة الاستخدامات كالبترول يمكن أن تحل محله؛ وأنه من يمتلك هاذين الموردين فهو يمتلك جزء من مستقبل الأمم وسيظل مؤثرا في الساحة العالمية وفي موازين القوى طوال القرن الحادي والعشرين وما بعده. ربما هناك انخفاض للطاقة المطلوبة لإنتاج دولار واحد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بفضل الانجازات التكنولوجية الجديدة واستخدامات الكهرباء وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتطور كفاءة مصادر الطاقة وسبل تخزينها والمحافظة عليها، غير أن فك الارتباط بين صناعة النفط والاحتياجات الطاقية وبين تطور الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي أمر شبه مستحيل. ثالثا، ضرورة إقامة الدول العربية لتحالفات استراتيجية من أجل تأمين احتياجات المنطقة من النفط والغاز ولتعزيز أمن الطاقة الوطنية في المنطقة العربية، وإيجاد خطط واستراتيجيات عاجلة لتنويع مصادر الاستيراد والتصدير وتحقيق الأمن الغذائي والمائي والمالي؛ علاوة على إطلاق استثمارات وشراكات جديدة في مجال الطاقات المتجددة على غرار مذكرة التفاهم التي تجمع السعودية والمغرب باعتبار هذا الأخير رائدا عالميا في مجال الانتقال الطاقي، ولتوفره على تكنولوجية متقدمة لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية ولدخوله نادي صناعة الإلكترونيات المتخصصة –الشرائح الالكترونية-. وفي ظل تغير ميزان القوى العالمي، فإن الفرصة سانحة لكي تقود الدول العربية القوية في منظمة "أوبك" -من خلال استفادتها من أرباح ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي- مشروع عربي لزراعة الحبوب في الدول العربية المؤهلة للزراعة وتفك ارتهان المنطقة العربية للدول الأجنبية. ما زالت الحرب الروسية الأوكرانية مستمرة، وما زالت أسعار النفط مرتفعة ومؤثرة في التغيرات الجيوسياسية العالمية، ومازال الغرب يطرق أبواب الدول النفطية من أجل البحث عن بديل للنفط والغاز الروسيين وإنهاء اعتماد أوروبا على واردات موسكو، لهذا تعمل الدول الأوروبية على تسريع إتمام الإتفاق النووي مع إيران من أجل ضمان مواصلة تدفق النفط والغاز، باعتباره يمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم، وأحد البلدان التي لديها قدرة إنتاجية كبيرة من احتياطي النفط. فهل يستطيع هذا الاتفاق النووي الإيراني امتصاص الاضطرابات التي يعرفها سوق الطاقة العالمي وفرض توازنات جيو-استراتيجية جديدة؟ هذا ما سنحاول الجواب عليه في مقال مقبل إن شاء الله. * د. نوفل الناصري/ كاتب وخبير اقتصادي ومالي، برلماني سابق.