ينفق البشر الغالي والنفيس كي يكون لهم أبناء يمثلون نسلهم ويحملون جيناتهم، وحتى حين تغلق أمامهم جميع السبل فإن ثمة وسائل مختلفة للتوفر على أشخاص ينادونهم "بابا وماما". ولإشباع الرغبة الحارقة للآباء اللذين يعانون العقم في أن يكون لهم أبناء ابتكر الطب طرقا عديدة منها أطفال الأنابيب واستئجار الأرحام، لكن أغربها كان عن طريق التبرع بالحيوانات المنوية، فحين يكون الرجل عقيما عاجزا بشكل تام، أمكن إيجاد حيوانات منوية من مجهولين يتم تلقيح الزوجة بها، وتحمل وتضع مولودا لأم بيولوجية وأبوان، واحد بيولوجي مجهول والثاني "اجتماعي" هو من سيعيش معه المولود ويناديه "بابا". والتبرع بالحيوانات المنوية واجه في البداية معارضة أخلاقية شرسة، ثم خفتت تلك المعارضة مع انتشار التقنية واعتماد قوانين تفرض حماية هوية المتبرعين المجهولين، لتستعيد اليوم حضورها بشكل أقوى مع انتشار أساليب الكشف الجيني عن الأصول، وتصاعد مطالبة أبناء هؤلاء المتبرعين المجهولين بحقهم في التعرف على آبائهم البيولوجيين، وعلى أشقائهم وعائلاتهم البيولوجية، تلبية لحاجة نفسية وفطرية وتفاديا لمشاكل أخلاقية خطيرة مثل خطر زواج الإخوة. واليوم أصبحت في العالم "عائلات ضخمة" يعد أفرادها بالمئات لأب مجهول، وملايين من أبناء هؤلاء الآباء المجهولين، في ما يمكن اعتباره أكبر خلط للأنساب في تاريخ البشر. فكيف بدأ التبرع بالحيوانات المنوية؟ وما هو حجم الظاهرة؟ وما هي وضعية اختلاط الأنساب في العالم وتوجهاتها المستقبلية؟ أول "تبرع" كان خداعا كانت أول حالة موثقة من "المتبرعين" بحيواناتهم المنوية تعود لسنة 1884، لطالب أختاره أستاذه الطبيب من بين طلبة الصف الدراسي لوسامته في سياق قصة مثيرة بطلاها زوجان من الأثرياء. وحسب "وثائقية دي دبليو" (DW عربية) الألمانية، سجلت أول حالة للتبرع بالحيوانات المنوية في مدينة فلاديلفيا الأمريكية سنة 1884، حين لم يتمكن زوجان ثريان من الانجاب مما دفع بالزوج إلى الذهاب إلى أستاذ في الطب من أجل الاستشارة، وبعد أن فحصه الأستاذ الطبيب اكتشف أنه مصاب بالعقم بسبب مرض السيلان، فطلب الأستاذ منه الإتيان بزوجته إليه. وحسب الفيلم الوثائقي "أكبر عائلة في العالم – التبرع بالحيوانات المنوية وعواقبه"، لنفس المصدر السابق، قام الأستاذ الطبيب، ودون علم الزوجين، بتخدير الزوجة، وطلب من أوسم طالب في الفصل أن يستمني، وأن يأتيه بحيواناته المنوية، وقام الأستاذ بحقن الزوجة بتلك الحيوانات المنوية دون علمها وأمام طلاب الفصل. وأسفرت العملية عن حمل المرأة. وحسب نفس المصدر، اعترف الطبيب بعد ذلك للزوج بفعلته، لكن المرأة وطفلها لم يعرفا قط بما حصل. ويضيف الفيلم الوثائقي، أنه مند تلك الواقعة ارتبط تاريخ هذه الممارسة بالأسرار والأكاذيب والممارسات المجهولة. وأكد أنه بيننا اليوم ملايين الأشخاص الذين ننعتهم بالمُنجبين من متبرعين بحيوانات منوية. والفيلم الوثائقي المثير يحكي قصة المخرج الكندي باري ستيفنز الذي كان نتيجة تبرع بحيوان منوي، وتبرع هو الآخر بحيواناته المنوية لينجب عبر التبرع مئات الأشخاص. ويحكي باري ستيفنز في الفيلم، أن قصة ولادته تمت في لندن في خمسينيات القرن الماضي، لينجبه الأبوان هو وأخته عن طريق متبرعين مجهولين بحيواناتهم المنوية، وبقي ذلك سرا إلى أن كشفت لهما أمهما عن ذلك السر بعد أن توفي أبوه. ويضيف ستيفنز أنه حاول التعرف عن أبيه البيولوجي، لكن لم يتمكن لأن الأرشيفات تم تدميرها، وما كان عليه سوى إجراء تحليل للحمض النووي. وبعد تحريات كثيرة، اكتشف ستيفنز أخا له، ثم توصل إلى أن والده البيولوجي ليس سوى العالم والفيزيولوجي البريطاني (Bertold Paul Wiesner). ويقول المخرج إنه أصيب بإحباط كبير نتيجة ما اكتشفه. 600 أخ وأخت غير أشقاء كان الفيلم الوثائقي فرصة لجمع بعض أعضاء "عائلة" المخرج الكندي باري ستيفنز، المنتشرين في العالم، لم يكن أفراد تلك العائلة سوى أبناؤه من حيواناته المنوية التي تبرع بها، وتمكن معدوا الفيلم الوثائقي من جمع 45 من أعضاء تلك العائلة لأول مرة. وحسب الفيلم، 600 أخ غير شقيق وأخت غير شقيقة منتشرون في جميع أنحاء العالم، هذا هو عدد أطفال المخرج الكندي الذي كان متبرعاً مجهولاً بالحيوانات المنوية، وقد يفوق عددهم في الواقع هذا الرقم. وفي سياق الفيلم يلتقي المخرج ببعض أفراد عائلته الجدد، لقاء يمكن وصفه بالصدمة السارة للبعض، صدمة غيّرت كل شيء، حسب تقديم (DW عربية) الفيلم الوثائقي، مضيفة أن قصة المخرج الكندي ليست حالة فردية. وتساءلت (DW عربية) هل سيصبح التبرع المجهول بالحيوانات المنوية في عداد الماضي؟ فالأطفال، يضيف الموقع الألماني، الذين تم إنجابهم من خلال التبرع المجهول بالحيوانات المنوية يطالبون اليوم بحقوقهم وأصبح عددهم يتزايد، وهم يريدون معرفة والدهم البيولوجي وعدد إخوتهم غير الأشقاء. فبعد التطور في عمليات تحليل الحمض النووي وإمكانية الوصول إلى البيانات الشخصية، حسب نفس المصدر، يكتشف المزيد من الأشخاص الذين تم إنجابهم بوساطة حيوانات منوية مجهولة الهوية أن والدهم الحقيقي هو شخص غريب ويريدون معرفة هويته. والدوافع لذلك مختلفة فالبعض يقوم بذلك بدافع الفضول، والبعض الآخر يريد معرفة ما إذا كان آباؤهم الحقيقيون لديهم أمراض وراثية، وهناك من يخاف أن تكون شريكة حياته أخته غير الشقيقة. كان حق المتبرع في عدم الكشف عن هويته هو الأولوية القصوى حتى الآن، ولكن الأحكام القضائية بدأت تتغير تدريجيا وتريد العمل على مبدأ: يجب أن يكون لكل فرد الحق في معرفة من هو والده البيولوجي. "انتهى زمن التكتم على الهوية" حسب الفيلم الوثائقي ل"دابليو دي"، فإن ظهور شركات الحمض النووي قليلة الكلفة قد أثار اهتمام الناس إلى أن يحددوا أصولهم العرقية والمخاطر الصحية المعرضين لها فبدأوا بإرسال عيناتهم من الأحماض النووية التي تسببت نتائج بعضها أصحابها بالصدمة حيث اكتشف هؤلاء أن لديهم العديد من الإخوة والأخوات غير الأشقاء. حسب بي بي سي، يتعين على المتبرعين بالبويضات والحيوانات المنوية التخلي عن فكرة التكتم على هويتهم، لأن ذلك لم يعد مضمونا، بحسب الهيئة المنظمة للخصوبة في المملكة المتحدة. وفي تقرير لها (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، أكدت بي بي سي أنه قبل عام 2005 كان يمكن للمتبرعين التكتم على هويتهم، لكن الأطفال الناتجين عن التبرع باتوا قادرين أكثر من ذي قبل على التعرف على آبائهم الطبيعيين عبر مواقع إلكترونية متخصصة في تعقب الأنساب. وحسب نفس المصدر، آندي ووترز، متبرع بالحيوانات المنوية وأب لنحو 110 من الأطفال استطاع العديد منهم تعقّبه عبر قواعد البيانات باستخدام أدوات اختبار الحمص النووي. وقال ووترز: "انتهى زمن التكتم على الهوية". وقد كان المتبرعون يحافظون على هويتهم طي الكتمان قبل أن يتغير القانون عام 2005 ويصبح مسموحا للأطفال الوصول إلى حقائق تفصيلية عن أنفسهم بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشرة. وعليه، فحتى هؤلاء الذين تبرعوا بالبويضات والحيوانات المنوية قبل ذلك التغيير بات في الإمكان تعقبهم والوصول إليهم، بحسب هيئة الخصوبة البشرية وعلم الأجنة. وبدأ آندي ووترز، 54 عاما، في التبرع بالحيوانات المنوية وهو لم يزل طالبا في التاسعة عشرة من عمره. وتعرف عليه اثنان من أطفاله في العام ا2018 فقط، كما التقى مؤخرا بطفل له استطاع الوصول إليه عبر تعقب البيانات على موقع تعقُّب الأنساب في المملكة المتحدة Ancestry.co.uk يقول ووترز: "فقط عندما صار لي أطفال، عرفتُ مبلغ اهتمام أطفالي بالتواصل معي". ويضيف: "وفي ظل هذه المواقع الإلكترونية، لم يعد الأمر يتوقف على رغبتك كفرد في التواصل، فإذا رغب الأطفال في ذلك، فإن البيانات الوراثية كفيلة بوصولهم." وقدّم آندي ووترز ولده إلى الطفلين الآخرين، واصفا التجربة بأنها "مثرية للحياة" و"إيجابية للغاية". هيئة الخصوبة البشرية وعلم الأجنة غيرت نصيحتها للعيادات وهي الآن تطالبها بالتنويه عن شعبية المواقع الإلكترونية الخاصة بالحمض النووي. وكان عليه أن يقدم تفاصيل عنه في سِجِلّ المتبرعين، بحيث يتسنى لأطفاله الآخرين الوصول إليه. يقول ووترز: "آن الأوان لكي نخبر أطفالنا من أين جاءوا، قبل أن يعرفوا ذلك بأنفسهم ويكرهوننا، فكلما تأخر موعد الإفصاح لهم عن الأمر زاد ضيقهم وغضبهم". 100 مليون باحث عن أبيه المجهول بحلول 2021 من يكون أبي؟ سؤال يتجاوز مجرد التعرف على الأب البيولوجي، ليصبح سؤال يلخص القلق الذي يعتيري أبناء المتبرعين المجهولين بحيواناتهم المنوية، فهؤلاء يريدون أن يعرفوا بكل بساطة ماذا ورثوا؟ ويصبح هذا السؤال أكثر إزعاجا عند الذين يريدون معرفة الأمراض الوراثية التي كانت لدى أبيهم البيولوجي؟ ومن هم إخوانه وأخواته غير الأشقاء، والذين قد تجمعه بهم علاقات حميمية تنتهي بالزواج؟ وحسب بي بي سي، قالت هيئة الخصوبة البشرية وعلم الأجنة إنها رصدت زيادة بنسبة 200 في المئة في أعداد الباحثين عن معلومات عن آبائهم الطبيعيين منذ عام 2010. وأتاحت الهيئة للمتبرعين إمكانية الكشف عن هويتهم في سِجِلّاتها، كما عمدت إلى تغيير النصح الذي كانت توجهه إلى العيادات، مطالبة بإلقاء الضوء على شعبية المواقع الإلكترونية الخاصة بتعقب الأنساب. وقالت سالي شيشر، رئيسة الهيئة، إن "ارتفاع أعداد الباحثين عبر المواقع الإلكترونية مستخدمين اختبار الحمض النووي لتعقب أنسابهم إنما يعني أن مزيدا من الناس قد يكتشفون مصادفة أن آباءهم الطبيعيين متبرعون". وأضافت: "نحن نتحدث إلى تلك الشركات للتأكد من عرضها معلومات واضحة على مواقعها الإلكترونية وعن المخاطر التي تحفّ الخدمة التي تقدمها حول الحمض النووي". وبحلول عام 2016 كان نحو ثلاثة ملايين شخص قد أقدموا على تعقب أنسابهم باستخدام أدوات اختبار الحمض النووي، وقد زاد عدد هؤلاء المتعقبين لأنسابهم على الإنترنت ليصل الآن إلى نحو 30 مليون شخص. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى نحو 100 مليون شخص بحلول عام 2021، بحسب مؤسسة بروغريس إديوكيشنال تراست الخيرية المعنية بالخصوبة، والتي دعت إلى إنشاء أنظمة دعم لمساعدة المتضررين من عملية تعقب الأنساب على الإنترنت باستخدام فحص الحمض النووي. وقالت مديرة المؤسسة الخيرية، سارة نوركروس: "هي دعوة للانتباه موجّهة إلى كل المعنيين بقضايا التبرع؛ لم تعد هناك أسرار تحوط المتبرعين. والمطلوب الآن هو تقديم عون مناسب وكاف لكل المتضررين".