يتميز العصر الراهن بتمجيد العلم والتقنية، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن الخطاب العلمي والتقني صار "موضة" العصر، وأصبح هو الخطاب المفضل سماعه من طرف عامة الناس وخاصتهم. لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا: هل يستطيع العقل العلمي التفكير خارج الإطار الفلسفي؟ لعل الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر سبق لهذا الطرح حينما قال عبارته الشهيرة التي أحدثت نوعا من الضجيج في صفوف العلماء، "إن العلم لا يفكر". وكان يقصد بذلك أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه بشكل أو بآخر، بوعي أو بغير وعي ينشد إلى ذلك الإطار. والفلسفة كما يؤكذ ذلك الفيلسوف الفرنسي أندري كونت-سبونفيل ممارسة نظرية (خطابية، عقلية، مفهومية) ولكن ليست علمية.. وتهدف أقل إلى معرفة مما إلى التفكير أو التساؤل، وأقل إلى زيادة علمنا من النظر فيما نعرف أو نجهل، موضوعاتها المفضلة هي الكلي والإنسان. هدفها الذي يختلف حسب الأزمنة والأفراد هو في الغالب السعادة والحرية والحقيقة، والتقاء الثلاثة هو "الحكمة"1. والحكمة كما يشير إلى ذلك محمد عابد الجابري "ليس ما نفهمه منها في لغتنا العادية، من حسن التدبير وسداد الرأي، بل المقصود منها قبل كل شيء: التعمق في التفكير والتأمل"2. وهو ما يبدو خافتا اليوم، بفعل الابتعاد بشكل أو بآخر عن الفلسفة، وعدم اتخاذها إلا كمجموعة من الأفكار الغامضة التي نادى بها البعض ممن يسمون فلاسفة، أو تحضر فقط من أجل الاستئناس أو الاستمتاع بقراءتها... يظهر جليا أن الابتعاد عن الفلسفة بما هي بحث في الكلي والشمولي، والغوص في التخصص أدى إلى تشظي المعارف وتشتتها وهو ما أحدث أزمة في المعرفة الإنسانية كما يؤكد ذلك الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، فالفخ الذي وقع فيه الفكر الغربي ومعه الفكرالإنساني بشكل عام منذ ديكارت حسب إدغار موران هو "تفضيله الجزئي على الكلي والعمل المخبري المعزول على النظرة الموسوعية والاحتراف على الهواية والذي يظهر بالخصوص في اعتقاده أن الجزء يمكن أن يفصل عن المجموع بينما هو مجرد عنصر منه، في حين أنه يصعب علينا إدماج ما كنا قد قطعناه ضمن المجموع سابقا عندما نعزل الجزء عن المجموع... ولعل مرض الحضارة المعاصرة إذن ناتج عن أخطاء العزل والتبسيط والاختزال"3 إنها الحالة المرضية للمعرفة الإنسانية كما يسميها موران، أو الذكاء الأعمى.. بناء على ما سبق تبدو الحاجة إلى الفلسفة اليوم أكثر إلحاحا من أجل تجاوز هذا الشتات، وهذا التشظي الذي وقعت فيه المعارف، ما دامت الفلسفة كما يقول الأوكراني أنجيلو سولومون رابوبرت "ليست شيئا بعيدا عن الحياة الحقيقية، بل إنها شيء مرتبط بمسائل الحياة اليومية، مدرستها العالم وموضوعها ظواهر الكون، وكتبها العقل الإنساني، هي الفكر موجّهاً إلى العالم الذي حولنا وإلى مظاهره، وإلى حياة العالم الفسيح الذي كل منا جزء منه، وإلى نفسنا التي بين جبيننا، وبالإجمال إلى العالم الكبير والعالم الصغير (الإنسان)"4. إن ما نحبه في الفلسفة ليس اليقين ولا الشك، بل الفكر نفسه (سبونفيل)، والتفلسف هو التفكير أكثر من التعرف، التساؤل أكثر من التفسير. إن غاية الفلسفة هي الحكمة، أما الفلسفة ما هي إلا وسيلة لبلوغها، إنها الطريق المؤدية إليها. إن الفلسفة بتعبير سبونفيل عمل، والحكمة تصبح استراحة. الفلسفة نوع من الخطاب، بينما الحكمة نوع من الصمت. الفلسفة ضرب من التفكير، أما الحكمة فنوع من الحياة. وبفعل فاعل أصبحت الفلسفة تتعرض لنوع من الاحتقار، والسخرية، وذلك لا يضرها في شيء ما دام باسكال قد طمأننا من قبل وقال "إن السخرية من الفلسفة هي فلسفة حقا". فما أحوجنا إلى الفلسفة اليوم..! هوامش: 1- أندري كونت-سبونفيل، "الفلسفة"، ترجمة علي بو ملحم، مجد، بيروت، الطبعة الأولى 2008، ص 22. 2– محمد عابد الجابري، "من دروس الفلسفة والفكر الإسلامي"، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، الطبعة الأولى 2010، ص 13. 3– زهير الخويلدي، "معان فلسفية"، دار الفرقد، دمشق، الطبعة الأولى 2009، ص44-45. 4– أنجيلو سولومون رابوبرت، "مبادئ الفلسفة: دراسة لأهم الاتجاهات والمذاهب الفلسفية"، ترجمة أحمد أمين، منشورات البندقية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2017، ص185. ———————————— عبد اللطيف الوزيري: طالب بجامعة القاضي عياض-مراكش.