عادة ما يكون صباح الحسيمة خلال الصيف هادئا، ثم تبدأ في ملامسة ضجيج المصطافين كلما اقترب الزوال. لكن صبيحة العشرين من يوليوز 2017 لم تكن كباقي أيام السنة المشرقة. شعور لا يمكن أن يُغفل حتى وإن كان المرء قادما إلى المدينة للمرة الأولى. كانت الأجواء مشحونة للغاية. فقد جاءت الدعوة إلى تنظيم هذه المظاهرة بعد اعتقال الصف الأول من قيادة حراك الريف، وتعهد الجميع آنذاك داخل الوطن وخارجه بأن تكون مظاهرة مليونية دفاعا عن الحق في الاحتجاج ورفضا للاعتقال. ورغم قرار المنع، فقد أصر الجميع على الحضور إلى الساحة الشهيرة. أخبرني صديق كان قادما من الناظور، وتبدو عليه علامات التعب واضحة، أنه اضطر إلى اختراق غابة مشيا على الأقدام ليصل إلى الحسيمة بعد منعه من عبور حاجز للدرك المكلي. بحلول منتصف اليوم كانت الاحتجاجات قد اندلعت في كل مكان، واتخذت طابعا عنيفا في الغالب. واقع العنف لمسناه حتى ونحن معتقلين داخل كوميسارية الحسيمة، حيث مخلفات قنابل الغاز كانت ظاهرة وملموسة. الآن وبعد خمس سنوات، ما هي مآلات حراك الريف؟ السؤال مفروض على الجميع.. لكنه مفروض أولا على أبناء الريف، لأنه في نهاية المطاف كان الريف وأبناءه المتضرر الأكبر مما وقع! بعد خفوت الفعل الاحتجاجي الذي تصوره البعض خالدا، ما هي البدائل التي فكرنا فيها، آنذاك واليوم، للاستمرار في دينامية العمل السياسي للريفيين خدمة للمواطن والمنطقة؟ بعيدا عن التحليلات الانفعالية والحسابات السياسوية الضيقة وأحيانا الشخصية، وبعيدا أيضا عن كل توظيف سياسوي بئيس لحراك أردناه كمجتمع ريفي أن يكون مدخلا للتنمية، وأراده آخرون حطبا لجهنم. ألم تكن المراهنة حصرا على ضغط الشارع وتوهم خلوده خطأ؟ ألم يكن ممكنا التعاطي مع الموضوع ببراغماتية أكبر خدمة لمصالح العباد والبلاد؟ لا أحد شكك أو يشكك داخل الريف ولا خارجه في كون حراك الريف، وخصوصا قبل أن ينزلق إلى اتجاه رفضه الريفيون قبل أن ترفضه الدولة، شكل فعلا التعبير الراقي لوعي المواطن الريفي وهو يجسد قناعاته في المطالبة بالتنمية والإصلاح، لكن في المقابل ومن باب "الحق أولى" ألم نخطئ في عدم اغتنام الفرص التي أتيحت لنا وللمنطقة في عز الحراك؟ ألم نُدفَع بفعل الحماسة النضالية ربما أو بسبب "محترفي النضال" إلى الباب المسدود. أنا هنا لا أبرئ "السلطة".. للسلطة مسؤولية كبيرة فيما وقع وخاصة ما يتعلق بتهييء ظروف انفجار الحراك، وقد كانت خلاصات لجنة تقصي الحقائق، التي تسببت في إعفاء مسؤولين كبار بقرار ملكي، خير دليل. قلنا وسنقول في السلطة ما لم يقله مالك في الخمر.. وانتقاد السلطة جزء لا يتجزأ من الممارسة السياسية هنا وفي كل مكان، لكن، أيضا، لا يستقيم التفكير الموضوعي فيما حدث وفي مصلحة المنطقة ومصلحة الوطن عموما دون نقد ذاتي. أنا أعلم جيدا أن هذا الكلام لن يعجب البعض.. أعلم أيضا أن البعض الآخر سيرد عليه بانفعال، وهو أمر أتفهمه جيدا. في نهاية المطاف التقدير السياسي مسألة نسبية. لكن لا أحد يمكن أن يزايد علينا بالنضال ولا بحبنا للريف ومصلحة الريفيين. على الريفيين أن يفكروا فيما حدث بموضوعية، وبعيدا عن التأثير الذي مارسته جهات أخرى كانت دائما تستثمر في استمرارالأزمة، بل ونراها اليوم تراهن على تقعيد الشعور بوجود تناقض تناحري بين الريف والمركز. هذا كلام موجه للريفيين أساسا.. للذين خرجوا بحثا عن مستشفى ومدرسة وفرصة شغل وحرية اجتماعية. أما الذين جرفهم وهم الثورة سواء داخل الريف أو خارج الوطن، بل وحتى "ثوار اللجنة الوطنية" في الرباط وكازا، الذين نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين باسمها، فهذا أمر لا يهمهم ومسؤوليتهم في خلط الأوراق تبقى للتاريخ. أتمنى من كل قلبي أن يفرج قريبا عن ناصر ونبيل وجلول وباقي المعتقلين.. أتمنى أن يقفل هذا الملف اليوم قبل الغد لصالح الريف والوطن. الحقيقة لا ترتفع. الحقيقة هي الثورة.