التحولات التي عرفها المغرب في الشهور الأخيرة بالانتقال بملف التطبيع مع إسرائيل من شكله التقليدي المنتشر والمتنامي بين الدول العربية والإسلامية إلى مرتبة "الشريك الاستراتيجي"، تعتبر في الواقع زلزالا سياسيا غير مسبوق يُتوقع أن تخضخض هزاته الارتدادية أركان بيت إسلاميي المشاركة السياسية المؤسساتية بالخصوص (المشاركة في الانتخابات وفي تدبير الشأن العام)، خاصة بمناسبة إعداد أوراق المؤتمر التاسع القادم لحزب العدالة والتنمية، والمشاركة في انتخابات 2026. ورغم "عدم التأثر" الظاهر في خطابات الحزب حاليا، أصبح التطبيع، سواء وعى الحزب الإسلامي ذلك أم لا، "إشكالية سياسية" غير مسبوقة تواجهه. كيف ذلك؟ وما هي السيناريوهات المطروحة أمامه في هذا الباب؟ السيناريوهات التي سوف نعالجها في هذا المقال نوعان، سيناريوهات سوف نسميها "فوق حزبية"، لأن الحزب ليس هو الفاعل فيها، ولكن يمكنه أن يتكيف معها وأن يستثمرها لصالحه فيما يتعلق باستمرار مشاركته المؤسساتية والحفاظ على موقفه التقليدي من التطبيع. وسيناريوهات حزبية، يعتبر الحزب الفاعل الرئيسي فيها. ومنهجيا سوف سنقارب الموضوع من خلال محورين كبيرين، محور عام يتناول قضايا عامة مؤطرة، ومحور السيناريوهات بنوعيها، ونختم بخلاصة عامة. وقبل ذلك ننوه إلى أن بعض التعديلات التي اقتضتها التطورات سوف ندخلها على هذا المقال خلاف نسخته التي نشرت في جزئين في أسبوعية الأيام، على أن تلك التعديلات، التي سوف نشير إليها، لا تمس جوهر المقال نهائيا. المحور الأول: قضايا مؤطرة 1. تطور التطبيع المغربي من "المُتسرب" إلى الرسمي بمستوى استراتيجي * استئناف علاقات بعمر استقلال المغرب: الحقيقة التاريخية التي لا يمكن تجاهلها في موضوع التطبيع بين المغرب وإسرائيل، هو أن "العلاقات" بين البلدين ضلت تمر عبر "جسر متصل" مند تاريخ استقلال المغرب على الأقل، وأنها عرفت عدة أشكال من السرية والعلنية، وحالات من المد والجزر. ومن الخطأ تلخيص تلك العلاقات في فتح مكتب الاتصالات الإسرائيلي بالرباط سنة 1993 بصفته مستوى منخفض من العلاقات الديبلوماسية، عقب توقيع اتفاق أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإغلاقه رسميا بعد الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، وإعادة فتحه بتاريخ الأربعاء 27 يناير 2021. ذلك أن تاريخ العلاقات شبه الرسمية بين البلدين تعود إلى بدايات عهد استقلال المغرب، أي 8 سنوات تقريبا بعد تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، وتهم عقودا من "الارتباطات، والاتصالات والخدمات المتبادلة على مختلف المستويات، بدءا من النشاط اليومي الذي يخوضه اليهود المغاربة لخدمة الصهيونية، وصولا إلى لقاءات القمة، مرورا بشتى أدوار الوساطة والتحضير، ما انفك المغرب يتولى القيام بها قبل وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفد على السواء"، كما جاء في "الملف التوثيقي" بعنوان " مسلسل العلاقات المغربية الإسرائيلية وآثارها على القضية الفلسطينية .. ملف الجسور المفتوحة مع الكيان الصهيوني مند عام 1956″، لمركز ابن رشد للدراسات والتفاعل الثقافي، والذي أعده في أكتوبر 1986. والذي يميز مرحلة ما قبل التوقيع الثلاثي، وخاصة خلال عهد الملك الراحل الحسن الثاني، أمران أساسيان: الأمر الأول يتعلق بكون العلاقات المغربية الإسرائيلية كانت في معظمها علاقات سرية وغير رسمية، وتتم بعيدا عن أنظار وسائل الاعلام. وأن ما هو رسمي فيها لم يتجاوز المستوى الأدنى للعلاقات الدبلوماسية والمتعلقة بفتح مكتب للاتصال بالرباط، وفتح نظير له في تل أبيب. وباقي التبادلات، سواء على مستوى التجارة أو الخدمات، او ما يتعلق بالسياحة وسياحة الأعمال، فكان يتم ب"أشكال متسربة" لا يُعرف منها إلا ما أدركته أعين وسائل الاعلام ومناهضي التطبيع. الأمر الثاني، يتعلق بكون العمود الفقري للمغرب في علاقات التطبيع في تلك المرحلة يكمن في الأدوار التي لعبها في مبادرات السلام، والتي تعلم بها جميع الدول العربية والإسلامية، ويباركها معظمها. ودوره الحيوي في ذلك راجع بالأساس إلى توفره على شبكة واسعة من العلاقات مع قادة إسرائيل من أصول مغربية في مختلف المستويات (شبكة مُحاوَرين). ولعل ذلك هو أهم ما توفره" أكبر جالية يهودية" في إسرائيل للمغرب من الناحية السياسية في بعدها الإقليمي، والتي أعطت حينها للمغرب موقعا مؤثرا في الساحة العربية والإسلامية، ذات الصلة بالشرق الأوسط. * "التطبيع ببعد استراتيجي" كما تتبع الجميع فالمغرب انتقل بعلاقاته الرسمية مع إسرائيل من شكل أدنى كان يتعلق بفتح مكاتب اتصالات وغض الطرف عن مرور بعض المنتجات ومشاركة بعض الإسرائيليين في أنشطة ذات بعد دولي، إلى مستوى لا يقل عن وضع "الشريك الاستراتيجي". افتتح بتوقيع اتفاق ثلاثي تحت الإشراف الفعلي للملك وتحت أضواء الاعلام. وبعد ذلك تم توقيع 12 اتفاقية تغطي مختلف المجالات في ظرف سنة واحدة، وتمت "مَأسَسة التعاون بين البلدين" من خلال تشكيل خمس مجموعات عمل قطاعية لتسهيل التوقيع على اتفاقيات تنسيق في عدة مجالات، وحجم التعاون بين البلدين، حسب تصريحات لوزير الخارجية المغربي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لتوقيع الاتفاق الثلاثي في 22 دجنبر 2020، بلغ 500 مليون دولار، وتوجت العلاقة بين البلدين في سنتها الأولى بزيارة استثنائية لوزير الدفاع الإسرائيلي للمغرب في نونبر الماضي، وتدشين تعاون أمني وعسكري غير مسبوق في الأشكال التقليدية المعروفة للتطبيع … والأكثر من هذا فالتطبيع بين المغرب وإسرائيل، الذي شمل المجالات الرياضية والثقافية، اقتحم أيضا المجال الديني، إذ تباحث الطرفان يوم 9 فبراير الماضي، التعاون بين الأئمة المسلمين والحاخامات اليهود في البلدين، خلال لقاء عقده رئيس البعثة الإسرائيلية في المغرب "دافيد غوفرين" مع الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أحمد عبادي، وقال "غوفرين" في حسابه في تويتر إن "التعاون يهدف إلى تعزيز أسس التعايش والتسامح وقبول الآخر وتجاوز الاختلافات العقائدية للنهوض بمجتمعاتنا نحو مستقبل أفضل". وعموما يمكن إجمال ما يجعل للعلاقة بين البلدين طابعها الاستراتيجي، في أربعة أمور: الأول، كون ملف العلاقة مع إسرائيل يدبره الملك بصفته رئيس الدولة، وما يتخذ فيه من قرارات تعتبر قرارات دولة لا دخل فيها للحكومة وبرامجها إلا على مستوى التنفيذ. الثاني، لأن تلك العلاقات تشمل جميع المجالات بما فيها المجال الأمني والعسكري، فضلا عن مجالات حساسة مثل المجال الديني، وترتكز على استثمارات كبيرة بعيدة المدى. الثالث، أن الدولة تعتبر ورقة التطبيع لها دور حيوي، من جهة، في ملف الصحراء المغربية في مختلف جوانبه السياسية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية وهي قضية استراتيجية. ومن جهة أخرى، في "ضمان" مواصلة الولاياتالمتحدةالأمريكية دعم مغربية الصحراء، وتوسيع دائرة الدول الداعمة لذلك. الرابع، لأن "الوضع المتقدم" للعلاقات مع الدولة العبرية، نتيجة لما سبق، قد يُعمر طويلا. إن الفرق الأساسي بين التطبيع في مراحله السابقة والتطبيع بعد التوقيع الثلاثي، هو أن دوافعه في المرحلة الأولى تتعلق بأجندات "السلام العربي الإسرائيلي" والسعي نحو التموقع في الساحة العربية من خلال الأدوار السياسية ذات البعد الإقليمي، والعلاقات الرسمية كانت تتراوح بين التمثيل الديبلوماسي الأدنى، والقطيعة الشكلية مع استمرار التبادلات وراء الستار. وكانت بذلك علاقات يطبعها التعامل مع "دولة عدو" في بيئة إقليمية مشحونة. أما في المرحلة الحالية، فالتطبيع تقوده الدولة بشكل رسمي ومن مستوى استراتيجي، ودوافعه الأكثر تأثيرا لها بعد وطني محظ، تتعلق من جهة، بالقضية الوطنية والرهان على الدعم الأمريكي المشروط بالتطبيع. ومن جهة ثانية، باعتبار تلك العلاقات "متحررة" من اعتبارات الصراع "العربي الإسرائيلي" مع التأكيد على استمرار موقف المغرب من القضية الفلسطينية، لتخضع تلك العلاقات، لمنطق "تبادل المصالح" من موقع "شريك استراتيجي"، مع "دولة شريكة" لها مركزها المتقدم في مختلف المجالات. 1. "نموذج الحزب الحكومي المطلوب في ظل التطبيع" "منطق" وضع "الشريك الاستراتيجي"، كما أوضحناه سابقا، يفرض على الأحزاب المغربية التي تشارك في الانتخابات بالخصوص، وعلى قادتها ومنتخبيها وممثليها في أجهزة الدولة والمؤسسات المنتخبة، ليس فقط قبول التعامل مع ممثلي دولة إسرائيل واللقاء بهم واستقبالهم والسفر إليهم، بل "العمل الجاد" على إنجاح ما يتعلق بذلك الوضع من منطلق تنفيذ التزامات وتعاقدات الدولة. والوضع الاستراتيجي الذي للتطبيع المغربي، أضاف للمشاركة الحزبية في الانتخابات بعدا جديدا من الراجح أنه يجعل، عمليا، قبول التطبيع شرطا سياسيا محددا لفرص اقتحام عتبة "الحق" في اقتسام حصيلة النتائج الانتخابية. وهذا ما قد يفسر ما كان غامضا في عملية "شبه استئصال" حزب العدالة والتنمية من المشهد السياسي المؤسساتي عبر نتائج الانتخابات الأخيرة، تمهيدا لذلك الوضع التطبيعي غير المسبوق. وهي رسالة واضحة تعني أن الدولة، وعلى المدى الذي سيتطلبه ذلك، "متشددة" في رفض أي "تشويش" على "مشروع التطبيع" من داخل المؤسسات بعد أن أصبح من خياراتها الاستراتيجية، وأنه أصبح عاملا محددا لحجم وشكل المشاركة السياسية المؤسساتية لأي حزب مستقبلا، وأن هذا المنطق يتوقع أن يستمر مادامت دواعيه مستمرة. لقد أثبتت الصيغة الجديدة للتطبيع المغربي أن المشهد الحزبي لديه قابلية كبيرة ليس فقط لتيسير ذلك، بل لتعزيزه واستدامته والاصطفاف في نهجه. والأحزاب المشكلة اليوم للتحالف الحكومي تقدم "النموذج العملي" للحزب الحكومي الذي أصبحت "متطلبات" "التطبيع ببعد استراتيجي" تفرضه. فتلك الأحزاب لم تسجل في صفوفها استقالات ولا اعتراضات أو انتقادات أو حتى مجرد نقاشات، كما أنها لم تبد أي موقف أو رأي أو إشارة يمكن أن توحي بوجود أدنى اعتراض أو تحفظ رسمي لديها على "النموذج التطبيعي المغربي" أو حتى أدنى تحرج منه. بل إن وزراءها ومنتخبيها نشطوا بشكل فوق عادي في أجرأة التطبيع وتسريع وتيرته. وهذا وفر جميع شروط تسريع عمليات رفع التطبيع المغربي مع الدولة العبرية إلى مستويات غير مسبوقة وفي ظرف وجيز، عكس ما قد يُتَوقع في ظل قيادة ثالثة لحزب المصباح للحكومة. ومن منطلق هذا المنظور، يمكن القول إن حزب المصباح قد "فشل" في "امتحان التطبيع" في الفترة التي كان يقود فيها الحكومة، إذ أثار توقيع أمينه العام صخبا سياسيا داخل الحزب، كما أحجم جميع وزراؤه في الفترة المتبقية لهم في ظل التطبيع عن القيام بما هو "مطلوب". والنتيجة هي أننا أمام تجربتين، تجربة حزب يناهض التطبيع "يعاقب" بالدفع به إلى هامش المشهد السياسي، وأحزاب راضية بالتطبيع "تكافأ" بتصدر المشهد السياسي. لقد أصبح ضمن مسؤولية تدبير الشأن العام في ظل التطبيع، بالوضع الذي بلغه اليوم، تنفيذ متطلباته ببعد استراتيجي. أي أن الانخراط في التطبيع، طوعا أو كرها، أصبح ملازما لتدبير الشأن العام من أي موقع كان. وبالتالي أصبح الموقف من التطبيع في الحقل السياسي المغربي فجأة أذاة فرز سياسي صارم دشنت أول منجزاتها بتقزيم رقعة حضور الحزب الإسلامي في المشهد السياسي من خلال الانتخابات الأخيرة، وهذا هو الدرس المستفاد. 1. حقيقة ثبات موقف حزب المصباح من التطبيع * الموقف الرسمي للحزب: سنقارب الموضوع بتركيز من خلال أربعة جوانب كبرى، تتعلق الأولى بالوثائق المرجعية للحزب، والثانية بأدبياته السياسية الرسمية، والثالثة بمبادراته الرقابية والتشريعية، والرابعة بمشاركاته في الديناميكية المناهضة للتطبيع. على مستوى الوثائق المرجعية للحزب: لم يرد شيء في أطروحتي المؤتمر السادس والسابع، وكذا في ورقة "توجهات المرحلة القادمة" للمؤتمر الثامن حول الموقف من التطبيع. غير أن الورقة المذهبية (2008) خصصت له فقرة في محورها الثاني الخاص ب"الاختيارات الكبرى" تحت عنوان "تعزيز سيادة المغرب واسترجاع إشعاعه الحضاري"، تؤكد على: "اعتبار قضية فلسطين أم القضايا العربية والإسلامية وتفعيل دور الشعوب في مساندة الشعب الفلسطيني حتى ينال حريته ويسترجع كافة حقوقه، والعمل على إيقاف كل أشكال التطبيع السري والعلني والسعي لاستجلاب دعم دولي لفرض عقوبات على الكيان الصهيوني لإجباره على احترام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية". على مستوى الأدبيات السياسية الرسمية: في البلاغات والبيانات السياسية، سواء الصادرة عن الأمانة العامة، أو عن المجلس الوطني، أو حتى البيانات الختامية للمؤتمرات، تعتبر القضية الفلسطينية أحد ثوابت أدبيات الحزب السياسية، كما يحضر الموقف من التطبيع بشكل قوي كلما ظهرت مستجدات في علاقات التطبيع خاصة من طرف الدول العربية. ويركز الموقف الثابت من التطبيع على رفض كل أشكاله انتهاء بالتنبيه إلى خطره الشامل. وسنكتفي بنماذج من ذلك: نص البيان الختامي للمؤتمر الوطني الخامس (11 أبريل 2004) على: "تجديد موقف الحزب الداعم لمقاومة الشعب الفلسطيني المشروعة للاحتلال الصهيوني ورفضه كل أشكال التطبيع مع هذا الكيان الغاصب". البيان الختامي للمؤتمر الوطني الثامن ( 9و10 دجنبر 2017 م) تطرق للقضية الفلسطينية دون الحديث عن التطبيع. وفي البيان الختامي للدورة العادية للمجلس الوطني المنعقدة بتاريخ 13 يناير 2019: "جدد المجلس إدانته ورفضه المطلق لإجراءات وسياسات الإدارة الأمريكية تجاه القدس الشريف والقضية الفلسطينية في سياق ما يتردد عن شيء اسمه "صفقة القرن" ورفضه لكل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، والذي أخذ يشكل خطرا مباشرا بعد التصاعد الأخير في مظاهره". وفي البيان الختامي للدورة الاستثنائية للمجلس الوطني المنعقدة بتاريخ 21 مارس 2021، بعد التوقيع الثلاثي: "يؤكد المجلس على مواقف الحزب الثابتة والداعمة للحقوق المشروعة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني ولكفاحه من أجل نيل حقوقه كاملة غير منقوصة وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وينوه بهذه المناسبة بقرار الحزب إحداث وتشكيل لجنة مركزية دائمة لدعم القضية الفلسطينية واليقظة اللازمة من مخاطر الاختراق التطبيعي، مجددا تحذيره من مخاطر الاختراق التطبيعي على النسيج السياسي والثقافي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي ببلادنا". والذي استجد في هذا السياق هو أن بلاغي الأمانة العامة للحزب ( بلاغ 31 مارس 2022 وبلاغ يوم 16 أبريل 2022) تضمنا عبارات رفض التطبيع، مما يعتبر خطوة في اتجاه استعادة خطاب الحزب هويته التقليدية، لكنها خطوة غير كافية، كما سنرى لاحقا. على مستوى المبادرات الرقابية والتشريعية المجرمة للتطبيع: يعتبر حزب المصباح أكثر الأحزاب إثارة للتنبيه حول مختلف مظاهر التطبيع التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى قبل توقيع الاتفاق الثلاثي. سواء على مستوى الأسئلة الكتابية أو الأسئلة الشفوية. وفي المبادرة التشريعية ضد التطبيع، كان الفريق البرلماني للحزب بمجلس النواب قد تقدم بمقترح قانون يجرم التطبيع مند دخوله البرلمان (1997). وجاء في بلاغ للفريق في 30 نونبر 2012، أن "مجلس النواب مُطالب اليوم بالتعجيل بإخراج مقترح القانون الذي سبق لفريقنا أن تقدم به منذ خمسة عشر سنة، والمتعلق بتجريم التطبيع بكافة أنواعه مع الكيان الصهيوني، وهو ما من شأنه أن يُعزّز دعم المغرب للشعب الفلسطيني، ويكون المجلس بذلك قد قام بجزء مهم من دوره اتجاه القضية الفلسطينية". كما كان الحزب ضمن الموقعين على المبادرة التشريعية الثانية التي أعدها "المرصد المغربي لمناهضة التطبيع" إلى جانب عدد من الأحزاب السياسية (الاستقلال، التقدم والاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي، وقد كان حزب الأصالة والمعاصرة أيضا ضمن الموقعين قبل أن ينسحب منه لاحقا) وتقديمها كمقترح قانون إلى مكتب مجلس النواب بتاريخ 30 يوليوز 2013. وترافع عن المبادرة بقوة. على مستوى الحضور الفعال في الديناميكية المناهضة للتطبيع: بالإضافة إلى عضويته في هيئات مدنية لمناهضة التطبيع، يواظب الحزب على المشاركة الفعالة في جميع الفعاليات السياسية والمدنية المناهضة للتطبيع، سواء تعلق الأمر بالمسيرات الشعبية، او بالوقفات التنديدية والتضامنية. كما أن إعلام الحزب يسجل متابعة دائمة وفعالة لظاهرة التطبيع، والتنديد بها من خلال نشر مختلف الأجناس الصحافية ذات الصلة بالموضوع. إن الهدف مما سبق ليس رصد موقف الحزب الرسمي من التطبيع في تفاصيله، بل مقاربة ذلك الموقف بالشكل الذي يناسب طبيعة المقال. وذلك الموقف زاوج بين الموقف الموثق في وثائقه المرجعية وأدبياته السياسية، وبين مشاركته الفعالة في الديناميكية المناهضة للتطبيع من مختلف مستوياتها. وأنه يدور حول رفض كل أشكال التطبيع، والدعوة إلى تجريمه القانوني، والتنبيه إلى مخاطره الشاملة. * مستجدات الموقف بعد التوقيع الثلاثي: في مقالنا السابق والمعنون ب "موقف حزب المصباح من التطبيع .. ثابت أم متحول؟"، خلصنا إلى أن الموقف النظري المدون في وثائق الحزب من التطبيع (أي ما في الكتب) هو الذي "لم يتغير بعد"، لكن بعد أن أصبح أمر التطبيع يتعلق مباشرة بقرار الدولة، فالموقف السياسي للحزب من التطبيع أصبح حبيس دائرة "صمت المُكره". والتحول الذي عرفه الموقف على المستوى العملي يتعلق بالانتقال من مرحلة التنديد القوي والواضح، والمقاومة الشرسة والشاملة، ضد القطاعات والهيئات المطبعة، إلى ما أسميناه مرحلة "المهادنة" كأقل تقدير في ظل موقف "تفهم ظروف الدولة"، حسب تعبير الأستاذ عبد الاله بن كيران. وفي نفس المقال استعرضنا مختلف أشكال مقاومة التطبيع التي كان الحزب حاضرا فيها بشكل قوي حين كان التطبيع فقط في شكله "المتسرِّب"، ليسجل الحزب تحولا تراجعيا ملحوظا على مستوى ممارسة مقاومته طيلة السنة الأولى التي عمرها ما أصبح تطبيعا رسميا شاملا، بالاكتفاء بترديد تأكيد ثبات الموقف المبدئي ضده، و"الكَفّ" على مستوى الممارسة المقاومة له، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى المشاركة الميدانية في فعاليات مناهضة التطبيع. وخلصنا إلى أن الحديث عن أن موقف الحزب من التطبيع لم يتغير حديث غير دقيق، وأن هذا الثبات يهم "ما في الكتب" فقط وليس ما في الممارسة. غير أن بلاغي الأمانة العامة الأخيرين والمشار إليهما سابقا، سجلا تمايزا عما سبقهما بإعلان رفض الحزب للتطبيع. وكما أشرنا إلى ذلك فتلك الخطوة غير كافية، لأنها لم تأت في سياق وطني يوجه بشكل واضح ومباشر للدولة المغربية يطالبها بوقف التطبيع، بل جاء في سياق عام فرضته التطورات الأخيرة في فلسطينالمحتلة، ولا يعطيه أية حمولة سياسية اتجاه التطبيع الرسمي للدولة، بل يجعله أمرا متفهما. وجاء في بلاغ 31 مارس: (تؤكد الأمانة العامة على موقف الحزب الواضح والثابت الرافض للتطبيع والهرولة نحو الكيان الصهيوني). وجاء في بلاغ يوم 16 أبريل: و"تؤكد (الأمانة العامة للحزب) أن سياسة العدو الصهيوني وممارساته العنصرية والاستيطانية تتطلب وقفة حقيقية للمنتظم الدولي والأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم في وجه الاحتلال من خلال مراجعة سياساته اتجاه الكيان الصهيوني ووقف كافة أشكال التطبيع معه بما هو كيان محتل ومغتصب". إن عبارة رفض التطبيع تناسب مرحلة ما قبل التطبيع الرسمي، أما والتطبيع قائم وشامل، فالموقف السياسي المنطقي المتوقع هو إدانة الإقدام عليه والمطالبة بوقفه الفوري. والخلاصة هي أنه، في التقدير، ما يزال موقف الحزب من التطبيع لم يخرج عما أسميناه سابقا بالموقف المهادن حتى على مستوى الخطاب. ويمكن تلخيص الأسس الكبرى التي ترهن الممارسة السياسية للحزب في تدبير ملف التطبيع في وضعه الاستراتيجي الحالي، في ثلاثة أمور أساسية: الأمر الأول: يتعلق بعلاقة الحزب بالدولة، إذ أن انتقال التطبيع من حالته "المتسربة" إلى حالته الرسمية جعل مقاومته في الواقع تنتقل من مواجهة وزراء وقطاعات وهيئات كانت تتغاضى عن "التطبيع المتسرب" إلى مواجهة الدولة ورئيسها، وهو الأمر الذي لا يمكن للحزب الدخول فيه. وهو ما يفسر ما أسميناه ب "موقف التفهم غير المُقاوِم"، حيث أن الحزب تفهم ظروف الدولة وما يزال يتفهمها في موضوع التطبيع، كما أعلن ذلك الأمين العام للحزب، الأستاذ عبد الاله ابن كيران. وهذا الموقف ترجمه الحزب على مستوى الممارسة بما أسميناه "المهادنة". الأمر الثاني: يتعلق بجعل التنديد بالدولة في موضوع التطبيع خطا أحمرا، لما تمت الإشارة إليه سابقا، وأوضحنا كيف أن عدم التنديد امتد ليشمل عدم انتقادها أيضا. مما يعني أن الحزب عمليا "سلم بالتطبيع"، ولا نجد توصيفا آخر مناسبا غير هذا لموقفه منه. وكما تمت الإشارة إلى ذلك فبلاغي الحزب الأخيرين المشار إليهما، رغم تضمنهما عبارات رفض التطبيع، لم يخرجا موقف الحزب من المنطقة الرمادية. الأمر الثالث: يتعلق بكون "ظروف الدولة" تدور حول التشابك الحاصل بين التطبيع والقضية الوطنية ذات الطبيعة الاستراتيجية والتي يقرر بشأنها الملك وحده. ولإدراك أبعاد الموقف في علاقته مع الدولة من جهة ومع القضية الوطنية من جهة أخرى، يمكن الرجوع إلى تصريح الأستاذ ابن كيران في فيديو نشره على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي، وتناقلته مختلف وسائل الاعلام، تفاعلا مع الجدل الكبير الذي أثاره توقيع الدكتور سعد الدين العثماني، الأمين العام للحزب، بصفته رئيس الحكومة، الاتفاق الثلاثي. وذلك التصريح واضح في بيان الاعتبارات التي تحكم "التفهم المهادن" لقرار الدولة، فالأمر يتعلق أولا بالقضية الوطنية، وهي قضية استراتيجية ومصيرية الملك وحده من يقرر بشأنها. ويتعلق ثانيا، بمعركة خارجية تفرض "الوقوف مع الملك" و"عدم التخلي عن الدولة"، حسب تعبير الأستاذ ابن كيران. ومن الناحية المنهجية أشرنا في نفس المقال إلى أن منطق رفض إدانة تطبيع الدولة والتسليم العملي به، ينتج عنه بالتَّبع التسليم ورفض إدانة اتفاقات التطبيع التي وقعتها الدولة مع إسرائيل والتي ستوقع مستقبلا باسمها، ورفض إدانة ما يترتب عنها من برامج وسياسات تطبيعية، ورفض إدانة انخراط مؤسسات الدولة فيما تقتضيه تلك الاتفاقيات، ورفض إدانة قيام المسؤولين بما يلزمهم من إجراءات وقرارات وأنشطة تطبيعية. وهو ما يجعل هامش مقاومة التطبيع بالنسبة للحزب هامشا ضيقا جدا ومحفوفا ب"مخاطر" الانزلاق إلى التنديد بالدولة. إن المتغير الذي أطر التحول في الممارسة السياسية الرافضة للتطبيع في سلوك العدالة والتنمية هو انتقال التطبيع من شكله "المتسرب" والذي لا تبرز فيه الدولة في الواجهة، وكان يهم قطاعات حكومية محددة، إلى شكل رسمي وشامل تقوده الدولة. وبما أن الحزب يجعل من ركائز منهجه السياسي عدم مواجهة الدولة، فهو لا يملك إلا أن "يهادن" على أقل تقدير في موضوع التطبيع. ولنا أن نقارن التحول في لغة موقف الحزب من تطورات التطبيع بين دولة الإماراتالمتحدة وإسرائيل، من تطبيع سري إلى تطبيع علني سنة 2019، في سياق ما سمي "صفقة القرن". وتفاعل معه الحزب في بيان مجلسه الوطني المشار إليه سابقا بتأكيد رفض كل أشكال التطبيع " والذي أخذ يشكل خطرا مباشرا بعد التصاعد الأخير في مظاهره". وبين موقف نفس المؤسسة بعد انخراط المغرب في التطبيع بتوقيع الاتفاق الثلاثي، واكتفى بيان المجلس الوطني بالتنبيه إلى "اليقظة اللازمة من مخاطر الاختراق التطبيعي، مجددا تحذيره من مخاطر الاختراق التطبيعي على النسيج السياسي والثقافي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي ببلادنا"، دون الحديث عن "رفض التطبيع" فكيف بإدانته أو المطالبة بوقفه. ومن المفيد التذكير بكون الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني المنعقدة بتاريخ 21 مارس 2021، بعد التوقيع الثلاثي، قررت عدم اعتماد عبارة رفض التطبيع أو إدانته. وإذا استحضرنا أن التطبيع، كما أوضحنا سابقا، له وضع استراتيجي قد يعمر لعدة عقود، فإن السؤال الحيوي هو: هل سيتخذ موقف "التفهم المهادن" طابعا استراتيجيا أيضا في تدبير الحزب لإشكالية التطبيع؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تسريع التحولات على مستوى الممارسة بما يقربه من "الحزب النموذجي المطلوب في ظل التطبيع"؟ وهل ستشمل تلك التحولات ما هو مسطر في وثائق الحزب في الموضوع؟ 1. حزب المصباح ومواجهة عقبة التحول إلى "نموذج الحزب الحكومي المطلوب" في ظل التطبيع الذي يفرض إثارة هذه القضية أمران، الأول أننا أمام حزب قاد تدبير الشأن العام من موقع قيادة الحكومة لولايتين كاملتين، ومن موقع ترؤس الجماعات الترابية لأكثر من ذلك، وهو يراهن على استعادة موقعه من جديد في المشهد السياسي بعد الانتكاسة الانتخابية الأخيرة. الثاني، أننا أمام حزب معروف بمواقفه التقليدية المبدئية والراديكالية الرافضة للتطبيع في كل أشكاله حين كان في "شكله المتسرب"، قبل أن يدخل التطبيع مرحلة الترسيم والشمول حيث تقوده الدولة. الأمران السابقان يؤكدان أن حزب العدالة والتنمية، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، أصبح في وضعية سياسية استثنائية فرضها المستوى المتقدم وغير المسبوق للتطبيع المغربي وموقفه المبدئي منه. وضعية لا يمكن فيها الجمع بين الاستمرار في الرفض الراديكالي للتطبيع، خاصة على مستوى الممارسة السياسية، وبين المراهنة على قيادة تدبير الشأن العام أو حتى المشاركة فيه، للاعتبارات المشار إليها سابقا، والمتعلقة باختيارات الدولة ذات الطبيعة الاستراتيجية. وهي وضعية تجعل الحزب أمام خيارات بتناقض مُميت. والخلاصة في هذا المحور الأول هي أن التطبيع أصبح "إشكالية سياسية" معقدة وشديدة الحساسية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، أصبح معها في وضع يتجاذبه فيه محوران: محور الالتحاق بشكل من الأشكال ب"نموذج الحزب الحكومي المطلوب في ظل التطبيع" كعتبة سياسية جديدة أمام استمراره في المشاركة المؤسساتية واقتسام حصيلة نتائج الانتخابات. ومحور البقاء الفعال في حقل مناهضي التطبيع، كعربون على الوفاء للقضية الفلسطينية ولمواقفه المبدئية. فما هي السيناريوهات الممكنة في تدبير حزب المصباح لوضعيته السياسية الجديدة في مواجهة "إشكالية التطبيع"؟ (يتبع)