كثيرة هي الكتب الرحلية التي أعجبت بالبلاد الفرنسية ولم تتردد أقلام أصحابها في وصف جمال مدن هذه البلاد بدقة متناهية. ويمكن أن نشير في هذه الأثناء إلى الأديب والشاعر واللُغوي المؤرخ أحد أبرزرواد النهضة العربية الحديثة " أحمد فارس الشدياق " الذي استطاع أن يبدع في وصف المدن الفرنسية ويمتع القارئ بالأسلوب الفريد المتميز. أثناء اطلاعنا على كتاب كشف المخبأ عن فنون أوربا أثار انتباهنا وبشدة،النظرة العميقة التي نظرها فارس إلى أوربا، فلم يكتف بسرد الوقائع والأحداث التي شهدها في أوربا بل لجأ إلى التحليل والمقارنة وإبداء الرأي في أشياء كثيرة – أسباب نهضة أوروبا- ما ينم عن رؤية جد متبصرة، هدفها انفتاح العالم العربي الإسلامي على بوادر التمدن الحديث في أوروبا ولما لا اللحاق بركب المدنية الحديثة. في وصف الشدياق لفرنسا حاول أن يذكر كل مدينة على حدة، ولم يكتف بالذكر فقط، بل تعمق في وصف التفاصيل التي لا تخفى على ملم بمجال الرحلة وما يتطلبه من معرفة دقيقة وحس عميق وبداهة وملاحظة… بدأ رحالتنا وصفه لفرنسا من خلال مدينةليونالتي اعتبرها أنيقة المنظر وجيدة الموقع على الرغم من وسخ الطرق والأزقة، فحوانيت المدينة واسعة،معاملها متخصصة في نسج الملابس الحريرية والقماش، معالمها متعددة "مدرسة ملوكية، محكمة جليلة، مكتبة مرموقة متاحف " لم يغفل رحالتنا الإشارة إلى عدد سكان هذه المدينة بحيث إن عدد أهلها يقارب 330000 ن. يقول الشدياق إن الفرنسين يستطيعون أن يصبحوا مركيزا ( الدرجة الثانية في سلم النبلاء) في إشارة منه لقوة التجار الفرنسيين، الذين قارنهم بالتجار المشرقيين الذين يجهلون الكتابة ولايعرفون أي شيء عن التجارة، ولا يجدون إلا الموزون والمكيول. كما أشرنا في البداية تمكنالرحالة من رصد كل شيء وقعت عليه عينه أثناء إقامتة، وماغادر معلما من المعالم أو تحفة من التحف إلا تناولها بالذكر،و يمكن أن نتكلم هنا عما ذكره الشدياق عن ساعةالرشيد وشارلمان الساعة المائية التي أدهشت الملك الفرنسيو كل حاشيته. لقد وصف الشدياق تقاسيم هذه الساعة وصفا دقيقاواعتمد في هذا الوصف على ما كتبهفولتير الذي اعتبر بدوره تبادل الهدايا بين الملوك عرف وبروتوكول يعزز العلاقات ويوطدها. للأخذ بالعلم فقد استمد الشدياق مجموعة من الأفكار حول الحياة الفرنسية من فولتير المفكر والفيلسوف الفرنسي أكبر كتاب عصر التنوير. في وصفه للبيوت الفرنسية يقولفارس إن سقوفها من التبن المطين وبناؤها من الخشب… ليس عندهم مواقد مثل الآن ولكن كانوا يستعملونالكانون (أحد أنواع الموقد يكون عادة في الأرض يصنع من الحجر ويوقد فيه الحطب والجمر، يستعمل للتدفئة والطهي ) الذي كانوا يضعونه في وسط البيت ويتجمعون حوله… لقد استطاع مؤلفنا أن يحيط بجوانب الحياةالفرنسية إحاطة المعاين والباحث ليقدم للقارئ المتلقي إفادة"تنويرية" عن العالم الجديد الذي يجهل عنه الكثير. في وصفه لمدينة بولون بدأ بوصف جمرك المدينة وطريقة تفتيشه للمسافرين واعتبر أن هذه المدينة موردا تجاريا مهما يربط بين فرنسا وإنجلترا. يقول إن أكثر منازلبولونللمسافرين وثلث سكان هذه المدينة انجليز.أجمل ما في هذه المدينة متحفها الذي يضم الجواهر المعدنية والآلات الموسيقية المتنوعة،أنواع الأوراق، غرائب الطير والسمك… في وصفهلمرسيليا بدأ بتاريخ تأسيسها ثم تناول بالوصف الدقيق كل ما فيها من دور وشوارع وأسواق ومنازه، وبنايات، ومصانع، ومطاعم. لما وصل الشدياق إلى باريسكان مندهشا لما رآه من تمدن فاق تصوره.الشوارع الواسعة "البلفار"المحلات المفتوحة لساعات متأخرة، الطرق، الأنوار، الفوانيس، الأسواق، الطقس الطبيعة، المدارس، المستشفيات، الملاهي، الكنائس… إن مدينة باريس جنة تتفتح فيها أكمام المعاني في رياض الأفكار، هكذا وصف الشدياق باريس وهذا ما جعلة يعقد مقارنات متعدد بينها وبين لندن "لندرة" التي زارها في نفس الرحلة وبين الإنكليز والفرنسيين من حيث الطباع والأخلاقوالعاداتوالنظم والمعارف والمخترعات. وعزز ذلك بإحصاءات دقيقة،فمثلا أثناء حديثه عن السكان الفرنسيين وما يتعلق بمجال الصحة يشير إلى أن نسبة مهمة من الفرنسيين يعانون من الأمراض العقلية، ف 300 قتلوا أنفسهم و100 ألف أصيبوا بالمرض وأخذوا إلى المستشفى 800.000 ألف يعيشون على الصدقات 100ألف في السجون بالإضافة إلى استناده إلى أرقام مهمة في عدة مجالات {10975 طالبا، خمس أكاديميات، ثمانون ألف، سبعة وعشرون جسرا،تسع أدرع ونصف، خمسون قنطرة}. لابد من الإشارة إلى ما أسفرت عنه تقارير الشدياق من ملاحظات دقيقة فيما يتعلق بسفارته إلى فرنسا ومن سبقه في هذه السفارة. أثناء الحديث عن فرنسا ذكر الشدياق رفاعة رافع الطهطاوي الإمام الذي رافق طلابه في رحلة إلى فرنسا قصد إرشادهم في الأمور الدينية، فأبدع أجمل المذكرات عن فرنسا وجمال وأناقة الفرنسيين. إلا أن الشدياق اعتبر أن الطهطاوي ما استطاع أن يقدم الصورة المناسبة والجيدة لفرنسا ولم يشر للأشياء المهمة فعاب الشدياق على الطهطاوي ذلك. من خلال ما تقدم يبدو أن رحالتنا وجد ضالته في رصد ملامح تمدن أوروبا واستطاع أن يقدم لنا وثيقة تاريخية كشفت النقاب عن الظواهر والمشاهد في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر.