في الجزء الأول من هذه الدراسة حول موضوع العلاقات الرضائية، الذي نشرناه تحت عنوان "العلاقات الرضائية…كيف نشأت في المجتمعات الغربية؟"، تطرقنا لتاريخ نشأت هذا النموذج من العلاقات التي تجمع بن الرجل والمرأة. وتناولنا تطور هذا المفهوم المجتمعي في سياقه التاريخي المرتبط بظهور فكر النهضة في أوروبا، ومحاولة هذا الفكر معالجة الاختلالات التي أعقبت سيطرة الكنيسة في حقبة القرون الوسطى التي عرفتها القارة العجوز. تطرقنا كذلك إلى دور بعض المفكرين من دعاة الحرية الجنسية في ترسيخ هذا النموذج القائم على العلاقات الرضائية بين الرجل والمرأة بعيدا عن نموذج الزواج. وختمنا المقال ببعض الأسئلة من قبيل: هل يمكن اعتبار هذا النموذج الحل الأمثل لبناء علاقات حميمية متوازنة بين الرجل والمرأة؟ وهل هو نموذج مناسب للجنسين أم أن المرأة هي الحلقة الأضعف في هذه العلاقات بالتراضي؟ في هذا الجزء الثاني من دراستنا لهذا الموضوع المجتمعي بامتياز، سنتطرق لواقع نموذج العلاقات الرضائية في البيت الداخلي للمجتمعات التي تبنت هذا النموذج. وسنعرض كذلك لتداعيات هذه العلاقات على المجتمع المغربي وهل تشكل الحل الأمثل لبناء مجتمع متوازن في العلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة. سبق وأن قلنا إن العلاقات الرضائية هي جواب على إشكالية محددة سببها الفكر الكنسي الذي ساد أوروبا في العصر الوسيط، وتخص مجتمعا معينا هو المجتمع الغربي. ودعاة العلاقات الرضائية في المغرب يعتبرونها الحل الأمثل للمعضلات المجتمعية التي تعرفها العلاقة بين الرجل والمرأة، ويضعونها في إطار التقدم والحداثة ومواكبة العصر. فهل هو جواب صائب لإشكالية مجتمعية يعرفها المجتمع المغربي تتمثل في تأخر سن الزواج وكثرة حالات الطلاق والخلافات الزوجية السائدة في المجتمع؟ سوف لن نُفصل كثيرا في الإجابة عن هذا التساؤل، وإنما سنكتفي بالقول إن المرأة هي الحلقة الأضعف في إحلال العلاقات الرضائية محل مؤسسة الزواج. وما دام دعاة العلاقات الرضائية في المغرب يَتَّبِعون في ذلك تجربة المجتمعات الغربية وبالخصوص المجتمع الفرنسي، فكان عليهم، قبل ذلك معرفة موقع المرأة الغربية في هذا النموذج المجتمعي حول العلاقة بين الجنسين، وهل وَضْعُها في هذا النموذج أفضل حال من وضعها في نموذج مؤسسة الزواج؟. الإحصائيات الرسمية في فرنسا (تطرقت لها القناة الفرنسية الثانية) تقول إن كل ثلاثة أيام يتم قتل امرأة في فرنسا إما من قِبَل شريكها السابق أو من قِبَل رفيقها الحالي. فالعلاقات الرضائية تجعل الرجل، مهما بلغ المجتمع الذي ينتمي إليه من رقي وتقدم وحداثة، ينظر إلى المرأة كشيء يمكنه تملكه، وإنهاء العلاقة الرضائية يأتي من الرجل ولا حق للمرأة في أن تبادر في قطع هذه العلاقة. لذلك ينتشر العنف ضد المرأة في المجتمعات المتقدمة رغم الترسانة القانونية الكبيرة التي تحمي المرأة وتحمي حقوقها في إطار المساوات، وهي ترسانة عاجزة عن تعويض الدور الذي تلعبه الأسرة لتقوية موقع المرأة في علاقتها مع شريك حياتها. كما أن الإعلام الغربي وخاصة الفرنسي الذي يؤثر بشكل مباشر في الداخل المغربي، لا يتحدث عن الشكايات الهائلة التي تتلقاها الشرطة بخصوص عنف الشريك ضد شريكته في العلاقات الرضائية، والتي تتجاوز العنف اللفظي والنفسي لتصل إلى العنف الجسدي. والغريب أن أغلب هذه الشكايات، حسب تقارير الشرطة التي تتدخل في مثل هذه الخلافات، تضل بدون متابعة لرفض المرأة تقديم تبليغ رسمي ضد تعنيف شريكها لمتابعته قضائيا. والسبب في ذلك هو تأرجح المرأة بين تقديم شكاية رسمية والعودة للعيش في عزلة ووحدانية قاتلة في مجتمع تسوده النزعة الفردية، وبين الخوف من انتقام شريكها إن هي تقدمت بشكاية العنف ضده. فالكثير من النساء في المجتمعات الغربية يجدن صعوبة كبيرة في إيقاف تلك العلاقات الرضائية إذا كان الشريك غير راغب في ذلك. فرغم الترسانة القانونية التي تحمي المرأة في المجتمعات الغربية، فإن تطبيقها يبقى معلقا بسبب كون المرأة هي الحلقة الأضعف في العلاقات الرضائية بل هي الضحية الأولى نتيجة إبعاد أسرتها في علاقتها مع شريك حياتها. الإحصائيات التي تنشرها المؤسسات المعنية حول العنف ضد المرأة في أوروبا، تشير إلى أن هذا العنف لا يقتصر على ما هو لفظي وجسدي، بل يتعداه إلى القتل. هذه التصفية الجسدية للمرأة في حال إنهائها للعلاقة الرضائية مع شريكها، هي نتيجة لانتشار النزعة الفردية في المجتمع وغياب الوازع الاجتماعي الذي تخضع له العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات التي تتبنى نموذج مؤسسة الزواج، وهو الوازع الذي يحمي المرأة من هذا العنف المتطرف إضافة إلى دور الأسرتين، أسرة المرأة وأسرة الرجل. لذلك نجد أن مؤسسة الزواج تطرح حل الطلاق الذي تتدخل فيه الأسرتان إذا تعذر الاستمرار في العلاقة الزوجية، ولا يمكن أن يصل الخلاف إلى القتل كما هو الحال في نموذج العلاقات الرضائية. لهذه الأسباب ولأسباب أخرى كثيرة نخلص إلى أن العلاقات الرضائية في المجتمعات الغربية ليست هي الجواب الأمثل لمشكلات هذه المجتمعات التي تَقلَّص فيها دور الأسرة، كما أنها ليست الطريقة المثلى كبديل عن مؤسسة الزواج ، وأخيرا إنه جواب تكون ضحيته الأولى هي المرأة عكس الزواج الذي إن تم في ظروف جيدة يكون أفضل طريقة لصيانة حقوقها. إن دعاة "العلاقات الرضائية" في مجتمعنا المغربي لا يطرحون جوابا عمليا على الإشكاليات الفعلية التي تؤثر سلبا على العلاقة الحميمية سواء لدى الشاب أو لدى الشابة. فهم يتحدثون عن علاقات رضائية كما ارتآها منظرون غربيون في محاولة للإجابة عن أسئلة تخص مجتمعهم الغربي. ولم يحاول هؤلاء حتى تكييف هذه الأجوبة لموائمتها مع الإشكاليات التي يعيشها المجتمع المغربي. إذا كانت العلاقات الرضائية ليست هي الجواب المثالي لمعضلات المجتمعات الغربية، فكيف يمكنها أن تجيب عن أسئلة العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا المغربي؟ لذلك نقول إن دعاة العلاقات الرضائية عليهم أن لا يغتروا بمصطلحات الحداثة والتقدم والرقي وصورة المجتمع الحر التي تروجها المجتمعات الغربية عن نفسها. وعليهم أن ينظروا لحقيقة نموذج العلاقات الرضائية في هذه المجتمعات حيث إن المرأة ليست في أفضل حال، وموضعها في هذا النموذج الرضائي هو الأضعف رغم الترسانة القانونية التي تحميها. فبعد القتل، بماذا ستنفع تلك الترسانة القانونية جثتها الجامدة؟ إن نموذج العلاقات الرضائية لا يشكل الجواب الأصوب عن الاشكاليات المجتمعية التي تحدد العلاقة بين الرجل والمرأة، وذلك نظرا لما سبق أن قلناه حول المجتمعات الغربية من كون المرأة هي الحلقة الأضعف في هذه العلاقات والضحية الأولى لها، ناهيك عن خطر تحول هذه العلاقات الرضائية إلى حرية جنسية بدائية. وهي أيضا علاقات تلبي نزوات جنسية عابرة ولا تبني المجتمعات والأوطان. وحتى المجتمعات الغربية أصبحت تأخذ هذا المعطى محمل الجد بعد أن تطرقت الدراسات السكانية إلى خطر انقراض شعوب بكاملها بفعل انتشار سلوك عدم الرغبة في الإنجاب كنتيجة مباشرة للعلاقات الرضائية. وهي ظاهرة لا تؤثر اجتماعيا فقط وإنما لها تداعيات اقتصادية وحتى حضارية ووجودية… يتبع