غالبا ما يقرأ المراقبون المواقف الدولية في سياق الحذر الذي تتبناه دبلوماسية كل بلد في سياستها الخارجية، على اعتبار أن المواقف السياسية للدول لا تقف على الحقائق الموضوعية حتى تراجع مؤسساتها الرسمية المنوط بها الرد مواقفها، تبعا لما يخدم مصالحها المشتركة في علاقتها الخارجية. وفي الغالب، يعتبر صمت الدبلوماسية المغربية تجاه العديد من التصريحات "المزعومة" والإرتكان إلى عدم الرد أو التعليق، برهان مقنع عن دبلوماسية ملكية حريصة وراقية، تتنحى عن التراشق وتبادل الإتهامات؛ دبلوماسية لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى وتحترم سيادتها. مثل كثيرين من المهتمين، "شد إنتباهي" الرسالة التي وجهها رئيس جمهورية ألمانيا فخامة السيد فرانك فالتر شتاينماير إلى جلالة الملك محمد السادس، والتي مهدت الطريق إلى علاقة جديدة بين البلدين، حيث أكد رئيس جمهورية ألمانيا أن المغرب قام بإصلاحات واسعة تحت قيادة جلالة الملك؛ وأثمن على مبادرة المغرب في مكافحة التغيير المناخي ومجال التحول الطاقي مما سيساعد المقاولات الألمانية بالإستثمار في هذا المجال، وكذا محاربة الإرهاب الدولي وإنخراط المغرب من أجل مسلسل السلام في ليبيا، وبخصوص الصحراء المغربية إعتبرت ألمانيا الحكم الذاتي هو الحل الأنسب والموضوعي لحل النزاع الإقليمي بمنطقة شمال إفريقيا. ومن أجل إرساء شراكة جديدة بين البلدين وجه رئيس جمهورية ألمانيا دعوة إلى جلالة الملك للقيام بزيارة جمهورية ألمانيا الإتحادية. يعتبر المغرب شريكا قويا في قلب أوروبا؛ فرنساوألمانيا، ومن بعدهما إسبانيا وبلجيكا ودول أوروبية أخرى. ولهذه الشراكة حجج قاطعة ودلالات؛ فما يتكون من إنطباعات وتوجهات في البلدين الكبيرين، سرعان ما ينسحب على أوروبا كلها. فمن باريس وبرلين، تتقرر خيارات الأوروبيين حيال العلاقة مع المملكة المغربية وباقي الدول، وعلى وقع المصالح المشتركة والحيوية المستندة على مبدأ رابح رابح، ترسم خطوط هذه العلاقات؛ وتتضح سبل ممارستها وتنفيدها، فكيف تنشأ وتترتب من قبل؟ تراقب المراكز والمؤسسات الثقافية والسياسية في كل أوروبا ما يجري في بلدان العالم من متغيرات، وتصوغ النخب من داخلها مذكرات وتقارير في الأمر، تأخذ الحكومات والبرلمانات بعين الإعتبار بها. فكما هو الحال مثلا للمملكة المغربية حيث عملت بإحكام ودبرت بعقل في مواجهة الوباء على أراضيها وصُنفت من بين الدول العشر الأوائل في الحرب ضد كوفيد 19، والإلتزام المتفرد للمغرب في محاربة الإرهاب الدولي، وتشييد الإصلاحات الكبيرة التي تم إطلاقها في المغرب بقيادة جلالة الملك. كل هذا ليس ببعيد عن تبني ألمانيا أسلوب جديد في علاقتها مع المغرب، وخاصة أنها إختبرت الخيار المناهض لفترة قصيرة في مؤتمر ميونخ، وأدركت نتائجه على مصالحها بمنطقة شمال إفريقيا. كما كان متوقعا، خلال فترة المرأة الحديدية المحترمة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مهندسة سياسة الهجرة واللجوء، حيث لقيت نفسها في مواجهة مع اليمين العنصري على سياستها، ولم تصمد سياستها للأبواب المفتوحة لألمانيا، وإضطرت لمراجعة وتغيير أفكارها بشأن إستقبال اللاجئين وإعادة النظر في قوانين الهجرة واللجوء. كان متوقعا كذلك بعد فوز حزب الديمقراطي الإجتماعيSPD بقيادة المستشار الألماني الجديد أولاف شولتس خلال الإنتخابات الأخيرة، بإعادة النظر في ملف العلاقة الألمانية المغربية، وهو ما توج بالرسالة الموجهة من رئيس دولة ألمانيا إلى جلالة الملك محمد السادس يوم 5 يناير 2022. الإختلاف في المواقف السياسية بين الحكومات ليس سببا وجيها لقطع العلاقات، ومنظومة المصالح الثنائية يمكن لها أن تعمل في ظل هذه التباينات. حالة الإستنفار الأمني وردات فعل المجتمعات الأوروبية على ما حل بها من مصائب من حرب ضد كوفيد 19، أصبح همهم الأول؛ صعود التيارات اليمينية أكبر تحد يواجه السياسيون وخاصة في فرنسا، حيث يتعين عليهم التفكير في تطوير خطاب يستجيب لحالة الخوف والهلع التي تجتاح الرأي العام الأوروبي من جهة وسياسة تصد خطاب اليمين المتطرف من جهة أخرى. لهذا على فرنسا أن تتبنى الخيار الألماني في علاقتها مع المملكة المغربية، ومثل هذا التحول والموقف سيكون فرصة كبيرة لقوى التيارات اليسارية والديمقراطية لكسب أوساط شعبية واسعة إلى صفوفها من أبناء الجالية المغربية ومن يتعاطفون معهم من الفرنسيين؛ وأكثر من ذلك، الأمر ينطبق على الجارة الإسبانية، لأنه لم يعد سهلا الوقوف في وجه مكانة المملكة المغربية في شمال إفريقيا ومصالها المشتركة والمتميزة داخل إفريقيا ومع الإتحاد الأوروبي. فالإتحاد الأوروبي كله سيدخل قريبا مرحلة جديدة بعد القضاء على الوباء المتفشي في العالم. لن يبقى عاجز، لاحيلة له وهو يتلقى الضربات من روسيا شمالا وتدفق السلع من شرق آسيا وهجرة الأشخاص من الجنوب. وعليه خلال الفترة القادمة، تطوير مقاربات جديدة حيال شمال إفريقيا كما شكلها مع المملكة المتحدة بعد خروجها من الإتحاد، وهذا سيلقي الضوء على عودة العلاقات المغربية الألمانية و سيكون له إنطباع أيجابي عن الصمت الذي يلقي بمسؤوليته على كل من فرنسا وإسبانيا قبالة الوحدة الترابية للمملكة المغربية ، ويدفع بالجزائر على تغيير سياستها تجاه الصحراء المغربية، ويجعلها تستند إلى حسن الجوار والمسؤولية التاريخية بينها وبين كل دول المنطقة؛ وإن لم تفعل، فستبقى مصدر للمتاعب، ومورد للإرهابيين بمنطقة الساحل والصحراء.