الجزائر هي من الدول التي سعت منذ بداية استقلالها الى بناء دولة وطنية حديثة وفق ما كانت تطمح اليه رموز الحركة الوطنية من بداية عشرينيات القرن الماضي، مما يدل ان استمرار طرح هذه المشكلة لمدة تفوق قرنا كاملا و دون جدوى يعني من جملة ما يعنيه عدم استكمال المؤسسات الشرعية، او الدخول في عصر الديموقراطية واحترام الحقوق السياسية بالرغم مما تتوفر عليه هذه الدولة من موارد استثنائية. منذ التأسيس الاول لسلطة ما بعد الاستعمار كانت كل محاولات التأسيس الديموقراطي لنظام الدولة الجزائرية قد ضاعت على الانسان الجزائري ولا يعرف من تجارب الجزائر الحديثة الا نظام العسكرة و الامننة، ولقد لفت الكاتب الجزائري هواري عدي الى ان الحركة الوطنية وقادتها السياسيين لم ينتجوا ثقافة سياسية تعالج موضوع الدولة والامة او ثقافة سياسية تعبر عن شرعية الدولة ومؤسساتها، ولعل هذا الفراغ السياسي والايديولوجي خلال محاولات بناء الدولة هو الذي كان السبب في اخفاق كل المحاولات اللاحقة لإقامة دولة حديثة وشرعية، وفي نظر نفس الكاتب فان الجزائر ضيعت فرصة بناء الدولة الحديثة لتستمر السلطة الحاكمة في تداول خطاب دعائي شعبوي – لا ايديولوجي- مناهض للاستعمار الفرنسي دأبت في ترديده المؤسسة العسكرية الحاكمة الى ان دخل(المجتمع في مرحلة هي بحق مرحلة التنمية المعكوسة، بحيث تراجعت كل مؤشرات التطور لتسجل نكوصا في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفراغا فكريا وسياسيا خطيرا اكدت ان الانسان الجزائري وصل فعلا الى الحرج مع المجتمع والسلطة.. انها ازمة جاثمة لا فكاك منها وكأنها عصية عن الحل) ثنيو نورالدين – باحث جزائري. نفس الكاتب لاحظ ان النظام الجزائري لا يتعامل مع المجتمع بوصفه متكونا من مواطنين، ولا يسمح لمختلف فعالياته وتعبيراته بولوج قنوات المجتمع السياسي الا اذا قدمت الولاء والطاعة للقيادة الحاكمة والعسكرية المسيطرة على مقدرات الشعب الجزائري. ولقد شهدت الجزائر في العقود الخمسة الاخيرة عدة عثرات في محاولة لإرساء دعائم الدولة الحديثة املا في تذويب الصراع الدموي بين السلطة والمجتمع وتسيير المؤسسات وفق تمثيل شرعي يمارسه المواطن بوعي منه. والدليل القوي على ( فساد مشروع البناء لمؤسسات ديموقراطية، عندما منح المجتمع الجزائري ولأول مرة في تاريخه لكي يعرب صراحة عن رايه في انتخابات تشريعية متعددة لعام 1992 لكن سرعان ما وئدت التجربة في مهدها لتفصح بأكثر من تعبير عن خلو التاريخ السياسي من الرصيد الديموقراطي، وان نظام الدولة الجزائرية ليست في التحليل الاخير اكثر من دوائر تقع داخل السلطة وخارجها). ثنيو نور الدين انه منذ الغاء المسار الديموقراطي في يناير1992 شهدت الجزائر عدة استفتاءات وانتخابات راسية وتشريعية، وفي كل الاقتراعات الراسية يقوم العسكر بفرض مرشحهم لتتحول كل هذه الانتخابات التي مرت الى وسيلة في مسار تغيير الاشخاص لا الى وسيلة في مسار تغيير طبيعة النظام، وكل شخص يتم اختياره يحظى بثقة المتحكمين في سلطة التعيين و يفرض من طرف لوبيات وشبكات السلطة والجيش، وتصنع له نتائج الانتخابات ويكون المرشح الذي يتم الاجماع حوله من قبل لوبيات وشبكات السلطة والجيش. وحتى بعد ان استطاع الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الاستحواذ على السلطة على مدى عشرين عاما، وكون لنفسه اجهزة وشبكات ونخب وادرع سياسية واعلامية وامنية لخدمة حكمه وحكامه ليبقى دائما( مرشح الاستمرارية)، الا ان الحراك الشعبي وضغط الشارع دفعت هذه الاجهزة والشبكات والادرع الى التضحية بالرئيس، وكشفت استقالته عن الجهة الفعلية الممسكة بزمام الحكم وهي المؤسسة العسكرية، لأنه بعد الاستقالة القسرية للرئيس بوتفليقة وفي ظل غياب اي خطة خلافة مستدامة اجبرت المؤسسة العسكرية بالاضطلاع بدور واضح وفاضح في السياسة وفي القضاء، والخطوة التي اتخذت على المكشوف واكدت على تحكم القيادة العسكرية بمفاصل العملية السياسية في الجزائر جاءت من رئيس اركان الجيش آنذاك الفريق احمد قايد صالح الذي اعلن ان الانتخابات الرئاسية ستجرى في 12 دجنبر في خطاب من داخل تكنة عسكرية. ان كل المرشحين للراسة عليهم ان يكونوا راضين عن منظومة السلطة والنظام القائم في قصر الرئاسة، وهي المنظومة التي يقول عنها مولود حمروش رئيس ما يسمى بحكومة الاصلاحات في بداية التسعينات من القرن الماضي بانها لا زالت قائمة وهي تجعل الانتخابات اجراء شكليا لان السلطة الفعلية هي التي تقرر من يكون رئيسا وتهيئ له الظروف التي تجعل يوم الاقتراع عملية اجرائية ولا يطرح اي من المرشحين مسالة تغيير طبيعة النظام فلم يعلن اي منهم عن القطيعة الأبستمولوجية مع منظومة العسكرة بل جلهم يتسابقون نحو شخصنة الجيش عوض الحديث عن ابعاد الجيش عن العمل السياسي وكل تصريحاتهم تتراوح بين مدح وشكر وتثمين خطابات وقرارات شخص قائد الجيش. (ثنيو نور الدين) هكذا وصل المواطن الجزائري الى مستوى الحرج مع السلطة والمؤسسة العسكرية لكونهما الجهة المسؤولة على فساد المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وان كل الرؤساء الذين تناوبوا على الحكم لم تفرزهم ثقافتهم السياسية ولا دورهم في المجتمع والمؤسسات، كل ما في الامر انهم عينوا وفق منطق دوائر النفود في السلطة وترك للشعب امر تزكيتهم كحكام عليه وهوما اشر على وجود مسافة ساحقة بين السلطة والمجتمع الجزائري، سلطة عسكرية نصبت من نفسها مصدرا للشرعية مما يطرح اشكالية كبرى وهي: الى اي مدى يستمر الانسان الجزائري في ان يعتبر نفسه مواطنا في ظل غياب دولة("دولة" تسرف في الاخلال بالتزاماتها بعيدا عن ارادة الشعب). ان كل الخطابات السائدة الحزبية منها و الفكرية والاعلامية تؤكد على الاخفاقات المتلاحقة للتجارب الانتخابية لان بناءها ونظامها وشكلها لم يكن لصالح فكرة الاستيعاب للمؤسسات الوطنية كتعبير سيادي عن المجتمع المدني، كما ان دولة الحق والقانون لا يمكنها ان تتحقق مادام نظام المسؤولية لا يطال المسؤولين عن المؤسسة العسكرية الجاثمة على كل دواليب المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والقضائية. الاقلام الصحفية الجزائرية وغير الجزائرية تصف الوضع الذي تجتازه الجزائر بانه ازمة متعددة الاوجه وبانه خطير جدا خصوصا في غياب امكانية تصور استراتيجية الحل، غيران الباحث الجزائري ثنيو نورالدين يشير الى ان اعقد مشكلة عطلت امكانية تصور مشروع دولة حداثية ديموقراطية في الجزائر هي ازمة الهوية، معتقدا انه لا يمكن للوضع السياسي ان يستعيد عافيته الا بالاستقرار على هوية تمنح الشرعية التمثيلية للسلطة، اي ضرورة توفر الشرعية الثقافية (مقومات الهوية) في التمثيل السياسي والنيابي التشريعي ليطمئن الشعب الى سلامة ارادته في الاختيار. ويمكن تلمس هذا المشكل المعقد في العديد من الاحزاب السياسية العاملة في المجال السياسي وهي التي تأسست واستندت الى مقوم من مقومات الهوية: الجبهة الاسلامية للإنقاذ-حركة مجتمع السلم (حماس)-حزب التجمع الثقافي الديموقراطي( الثقافة الامازيغية)- جبهة التحرير(قومي- عروبي)- الجبهة الاشتراكية لايت احمد (علماني)-حزب العمال (مهني)وفي فترة من الفترات حاولت السلطة الحاكمة تأليب التيار الاسلامي ضد التيار العلماني الاستئصالي والعكس دون ان تقدم اي مشروع ثقافي هوياتي بديل. واليوم يشعر المجتمع المدني بضرورة تحرير عناصر الهوية من الخطاب الشعبوي وادغامه ضمن فضاء جديد يساعد على تحديد ملامح المجتمع والدولة لان الصراع الذي اخد شكل العنف المدمر يعزى في جزء كبير منه الى محاولة تصفية احتكار السلطة لمقومات الهوية الوطنية، كما ان الوضع اللغوي السائد اليوم كله ناجم عن المنطق الذي كرسته النخبة الفرنكوفونية عندما اعتبرت اللغة الفرنسية في الجزائر "غنيمة حرب" كما قال كاتب ياسين فتصرف ورثة الادارة الفرنسية مع اللغة الفرنسية كنفع مادي يجب عدم التفريط فيه. وهكذا يمكن القول ان مصادرة مقومات الهوية الوطنية ونبذها كمعيار للشرعية السياسية افضى الى النتيجة المعروفة بمقولة تحصيل حاصل الذي لا يجدي معه اتهام اللغة العربية بالقصور ولا المعربين بالتقصير لغياب الثقافة كسلطة. وفي التحليل النهائي يمكن القول ان صلب الازمة الجزائرية يتمثل في غياب التمثيل الشرعي للسلطة، وغياب الوجه القانوني لمفهوم الدولة، لكن الكاتب الجزائري ومعه ثلة من المفكرين والمثقفين والاعلاميين يرون ان تخلف المجتمع ذاته هو الذي سمح بإمكانية وجود مثل هذه السلطة المستبدة طوال عهود الاستقلال، لا تنظر الى الشعب الا كمجرد ارقام انتخابية، ولا ترى فيه مواطنا محملا بحقوق وحريات عامة سياسية واجتماعية واقتصادية، ولا تسمح له بان يستغل كل الفضاءات التي يتيحها المجتمع المدني كسلطة موازية للسلطة السياسية. لذا فأزمة الجار الشقيق.. هي ازمة البحث عن الدولة ؟