في ظل التحولات المتسارعة لحركية ودينامية المجتمعات، وتصدع الذات الجماعية والأبنية المجتمعية ككل وتشظيها تارة بفعل الحروب، ونتيجة الفاقة والفقر والعطالة تارة أخرى، وفي ظروف اللا ستقرار التي أضحت تعرفها المجتمعات العربية والإفريقية خاصة، تَمّ تحويل وجهة البوصلة واستدراج الأحلام قسرا، صوب الشمال، في هجرة جماعية رهيبة… كان لابد للرواية العربية، أن تتناول تيمة الظاهرة بوعي جمالي جديد، لفهمها وتحليلها وتفسيرها على ضوء معطيات الظروف الراهنة. وفي ظل هذا النزوح الجماعي باتجاه سواحل شمال إفريقيا التي ظل محطة عبور وصراط جهنمي غادر مميت للبعض وصارت مستقرا لآخرين، تناولت الرواية العربية المعاصرة موضوع الهجرة فعزفت على نتائجها الايجابية حيث الترقي في مستوى سلم العيش الاجتماعي، ووقفت تارات كثيرة على وتر الغربة وقسوتها، وعلى المآسي التراجيدية وصورت ابتلاع البحر للآلاف من المخاطرين، المغامرين بحياتهم في سبيل "الإلدورادو" الشمالي المأمول. وتناول كل ذلك في تشعبات وسياقات وتناقضات جلية للظاهرة في خلفياتها ومآلاتها. بيد أننا اليوم مع رواية قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط للروائي الكبير الداديسي نجد أنفسنا أمام رواية تغوص عميقا في الموضوع برمته وفي شموليته ، وبشكل مختلف تماما عن السائد، رواية استغورت النفس البشرية وما يعتورها من اختلال في فهم الإنسان لأخيه الإنسان، فظل الكاتب يناور بأسلوب سردي سلس بليغ وخال من التكلف يتوغل بالقارئ في صلب الظاهرة ولبّها عوض مناوشة جبل الجليد الظاهر والقشور، بل ارتقى بموضوع الهجرة ليصل بالمتلقي إلى شيء آخر أسمى وهو المشترك الإنساني بين البشر عامة، بما في الظاهرة من العلاقات الحضارية بين الشرق والغرب، والتواصل المبني على التعايش الخالي من الأحقاد والأحكام المسبقة الجاهزة والمدمرة لصورة الآخر. وإذا كانت فلسفة المشترك تسعى – فيما تسعى إليه – إلى تفادي الصدام الحضاري والانفتاح على الإنسان مهما اختلف لونه وشكله وعقيدته وإيديولوجيته فإن الرواية كجنس أدبي قادر على استيعاب باقي الأجناس الأدبية الأخرى وقول ما لا تقوله إلا الرواية، فقد كان لها نصيب أوفر في تقديم النموذج الأمثل والأنسب لتدبير تيمات وموضوعات الهجرة وإبداء التصورات دونما حاجة للإيغال في التنظير الذي ليس هو هدفها والذي يتنافى أصلا مع ما هو جمالي في الفعل الإبداعي ككل… وتأتي رواية الأديب والناقد الكبير الداديسي ( قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط) بمقاربة فنية مغايرة تنحو في سياقات ما أومأنا إليه سلفا، بحيث تناولت الموضوع لتخلص إبداعيا إلى فكرة وغاية كبرى وهي تعميق الوعي بالمشترك الإنساني وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وتعايش البعض مع الكل، والانفتاح على الآخر وتعزيز قيم التلاقح الحضاري، بما يخدم مصلحة الجميع دون تمييز وبغض النظر كليا عن اللون (بطلان من لونين مختلفين) أو الجنس (بطلان من جنسين مختلفين؛ ذكر/ أنثى) أو الأصل الاجتماعي (من بلدين مختلفين كوت ديفوار/ سوريا) والعقيدة (ديانتين مختلفتين مسيحي / مسلم)، وبعيدا عن عنصرية اختلاف اللون وخاصة بعد يأس البطلين من المغامرة وفشلهما في العبور للضفة الأخرى. هكذا تنتهي الرواية إلى تأصيل وترسيخ فكرة كبرى وهي المشترك الإنساني فينا، والدفع بكل القواسم المشتركة من تصورات ومبادئ وأفكار ومعان ومفاهيم لتنميتها واستثمارها لما فيه خدمة الفرد والجماعة، داعية (الرواية) في مضمونها إلى التعايش والتسامح وتليين الأنانية المفرطة بقبول الآخر والنظر إليه بعين الإنسانية الواسعة… ولعل اختيار اللون الأبيض والأسود (في الغلاف والعنوان…) كان موفقا دلاليا إلى حد كبير في التعبير عن ذلك، فركبت الرواية الرمز والتلميح ولجأت إلى التصريح تارة أخرى بُغية تصحيح بعض التمثلات الخاطئة لدى الإنسان العربي عن الإفريقي الأسود ولدى هذا الأخير عن غيره من ذوي البشرة البيضاء. وبحنكة سردية استثنائية توسل الكاتب بهذه المتضادات الحيوية لاستثارة الطاقة الذهنية وزوبعة المادة الرمادية في مخ القارئ، ليكون قيام الرواية على التقابل وعلى مثل هذه المتضادات الوقع الإيجابي على فهم وتعميق وتبئير دلالته في المتخيل الجمعي والفردي، في وظائف ودلالات رمزية اللون الأسود/ الأبيض فيُمسي البحر الأبيض المتوسط اسماً، بحرا أسود فعلاً… كما جعل القهوة بالحليب ترميزاً ضمنياً للمزاوجة بين لونين من خلال زواج ميادة ذات البشرة البيضاء بممادو الأسود البشرة وإنجاب فتاة (لمياء) بلون قهوة بالحليب… ويظهر هذا التقابل من خلال عتبات الرواية لون الغلاف الموزع مناصفة بين وجه أبيض ووجه أسود، والعنوان الذي جاء مشحونا بالدلالات متضمنا لتقابل ضدي أو تحاور وتجاور الأضداد والتقابلات الثنائية وتقاطعها جماليا ، الشيء الذي يؤدي أوتوماتيكيا إلى إبراز دلالات واقعية و متخيلة تحيل، أبعد من ذلك أيضا، على التركيب المعقد لبنية مجتمع متصدع البنى ينتج فعلا أدبا ولغة مركبة تركيبا معقدا، هذا علاوة على أن العالم بأكمله، والحياة برمتها، مبنية أصلا على مثل هذا التقابل و على تضاد الظواهر الكونية التي تحرك التاريخ و تؤدي – كما هو معروف – وظيفة توازن الوجود بصفة عامة. فتتواشج العلائق المتضادة والتقابلات الضدية والمتجاورة والمتنافرة والمتداخلة منذ بداية الرواية سواء على مستوى العنوان المثير للتأمل وللفضول والذي جاء مركبا تركيبا مزجيا يستدعي التأمل مليا في هذا التناقض والتضاد الغرب ≠الشرق ، البيض ≠االاسود، والتمعن في هذه الهجرة السرية التي تحيل على التستر والاختفاء، في حين أنها عمل يقترف في واضحة النهار، وبمباركة من كل الجهات التي تعرف مبتدى ومنتهى المغامرة، ولها في ذلك مآرب ومصالح أوضح وأشهر من نار على علم، وهكذا تنطلق الرواية وتبني عالمها على تقابلات متناقضة، لتفتح شهية المتلقي وتحفّزه على فك مغاليق وتمفصلات هذا العنوان، فينغمس في سرد أدبي سلس بعيد عن التعقيد لابتعاد الكاتب في روايته عن تكثيف وتضخيم أعداد ( عدد الشخصيات محدود في شخصيتين فقط) كما هو الحال في روايات أخرى ، رغم اتساع رقعة الأمكنة ورحابة عوالمها المدهشة، والمفارقات الزمنية سواء هناك في عمق الجنوب الإفريقي والصحراء أو في أقصى الشرق المتوسط أو هناك في لجج البحر الأبيض المتوسط الغادر اللعين. ليخلص المتلقي مع الرواية وقد نجحت في شد خيوط الحبكة وأسقطت القارئ فريسة تسلسل الأحداث المثيرة من بداية الرواية حتى النهاية، ويصعب عليه إيقاف فعل القراءة إلا بعد نقطة النهاية،رغم إصرار الساردينِ على تكسير خطية السرد، بجعل السرد يتوقف في كل فصل في اللحظة الصفر (الحاضر) ويرتد القهقرى يمتح من حياة كل شخصية…. وفي اعتقادي الشخصي الذي يلزمني، فقد أفلح الكاتب في تجويد العبارات الدالة على هذا التقابل الضدي المفضي إلى التناغم والالتقاء في نهاية المطاف عكس ما يذهب إليه اعتقاد المتلقي أن الشخصيتين الرئيستين/ ممادو من العمق الإفريقي وميادة من الشرق الأقصى، ومنذ أول وهلة، خطان متوازيان لا يلتقيان، وهكذا سيكتشف القارئ خلال وبعد نهاية الرواية، كيف سيلتقي المتوازيان في الفصل الثاني عشر، عندما تنتفي الأحكام المسبقة ويصبح الحب أصلا وما عداه تفاهات، ويلفي القارئ نفسه محاصرا بأسئلة فلسفية، وقيم إنسانية مطلقة أكبر وأعمق من مجرد تناول فكرة أو موضوع الهجرة الذي أضحى مستهلكا. إن البطلين وهما على ضفاف المتوسط اللعين يسترجعان شريطا طويلا من ذكريات الماضي الأليمة، ويستعيدان فترات زمنية من حياتهما هناك، وهنا على نفس الدبدبة ونفس خط التماس مع ما حدث في وطن كل واحد منهما من أبشع الصراعات السياسية والإثنية الناتجة عن الجهل والغطرسة وحب التملك والسلطة، في تذكار على طريقة الفلاش باك السينمائية تتناوب شخصية محمادو (ممادو) من ساحل العاج وميادة من حماة بسوريا في تدفق سردي تراجيدي دموي أليم يحيل على ظروف عيش قاسية انعدمت فيها الروح الإنسانية وسادت فيها سلوكات الإنسان الضاري المتوحش المجبول على سفك الدماء. فيتماهي المتلقي مع شخصيتين اقتلعا من جذورهما قسرا ويعيش معهما ما سببته وتسببه الحروب من تهجير قسري، فلم تكن هجرتهما الا خيارا آخر للتشبث بالحياة والبقاء على قيد الوجود، وتنسج الرواية أحداث روائيته من ظاهرة إنسانية كونية تنسحب على حيوات كل الأجناس والأعراق البشرية التي تروم منذ القدم التحليق بعيدا عن أرض المنبت إلى فضاءات أرحب أملا في كسب الرزق وتغيير نمط العيش إلى الأفضل أو هروبا أو هجرة اضطرارية من ويلات الحروب أو غصبا عنهم طلبا للجوء لدول ومجتمعات أكثر حرية وتحررا، وقد أتقن اللعب -كما أسلفنا- على وتر التناقضات والتقابلات الضدية في مستهل الأحداث المفضية إلى الالتقاء والتماهي والحب في أخر المطاف. تنطلق الرواية باتهامات سرية متبادلة بين الساردة وشخص ذي بشرة سوداء حيث الأحكام السلبية القاسية الجاهزة في حق بعضهما البعض. ممادو من العمق الإفريقي من جهة وميادة من الشرق، من جهة ثانية. وتنتهي بهما غريبان مقطوعا الأوصال، لاجئان في أرض غريبة طمعا في الرحيل إلى بلاد أخرى أغرب، هروبا من الحروب الأهلية المزمنة حيث التناحر والاقتتال الطائفي هناك وهناك، إلى حرب أفظع وأمرّ وأقسى من أمواج المتوسط الذي يتمدد في مد وجزر أزلي في حرب دائمة ابتلع فيها شعوبا وقبائل أشار السارد إلى العديد من الجنسيات والشعوب القديمة عند فوله: (التهم من الفراعنة، الفينيقيين، الروم، الترك، والقوط، الفرس، البربر، وغيّر وجبته اليوم بالأضاحي السمراء…). وكاد يبتلع البطلين، ليكتب لهما عمر جديد ويعيشان حياة ثانية بعدما لفظتهما الأمواج في قدر عنيد أبى إلا أن يرميَهما بين ثنايا مصائر أخرى جديدة، ليجدا نفسيهما لاجئين من جديد وقد وحدت بينهما المصائب في وطن فرض عليه موقعه الجغرافي وتاريخه العريق أن يكون حاضنة قادرة على دمج الغرباء، هويته تتأسس على تلاقح المكونات العربية الإسلامية الأمازيغية والصحراوية، بالروافد الإفريقية الأندلسية المتوسطية العبرية… في روايته المثيرة / قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط / وضع الكاتب الأصبع والقلم بقوة في النهاية على مكمن الداء، وهو صراع الساسة المتعطشين للحروب وسفك الدماء من أجل كراسي السلطة، وتفشي الغدر والخيانات التي كانت سببا في تشتيت الأوطان وتدمير الشعوب هذه كلها أشياء عملت الرواية على إثارة الأسئلة الحقيقية والصادمة حولها هدفها خلق صدمة تهز وعي القارئ وتثير قلقه بعيدا عن دغدغة عواطفه. رواية قهوة بالحليب على شاطئ الأسود، في النهاية، رواية ذات أجواء مفعمة بالألم، يغلب عليها طابع الغربة والاغتراب والإحساس بالوحدة تارة والدونية تارة أخرى فجاءت مكتظة بالآلام والمآسي تجرعت فيها الشخصيات- بل حتى المتلقي نفسه- آلام التاريخ والجغرافيا، والمصير المأساوي المشترك. * عبد الواحد كفيح