في زمن عولمة الثقافات والأفكار والسلوكات وتعدد قنوات التربية والتواصل والإعلام، أصبح الرهان على البعد القيمي في التربية والتعليم ضرورة حضارية وتربوية. باعتبار أن المدرسة من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية. فهي تساهم في تعزيز الانتماء للوطن والحفاظ على الهوية مع الانفتاح على المبادئ الإنسانية الكونية، وترسيخ قيم المواطنة الإيجابية والفعالة التي تتجاوز معرفة القيم إلى تبنيها كسلوكات واستدماجها في مواقف واتجاهات بالمحيطين الأسري والمدرسي والفضاءات العامة. وهو ما تدعو إليه كل المرجعيات التربوية المختلفة بالمغرب ومنها: الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي رسم بشكل جلي في المرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين السمات المميزة لشخصية المواطن المرغوب تكوينه، والمتمثلة في الاستقامة والاعتدال والتسامح والتشبع بحب الوطن، المشاركة الإيجابية في الشأن العام والخاص، والوعي بالحقوق والواجبات والتفاعل مع مقومات الهوية الوطنية، مع الانفتاح على معطيات الحضارة الإنسانية العصرية. الوثيقة الإطار حول الاختيارات والتوجهات التربوية التي حددت غايات التربية على قيم المواطنة في تكريس حب الوطن، وتعزيز الرغبة في خدمته وتنمية القدرة على المشاركة الإيجابية في الشأن المحلي والوطني، والتشبع بروح الحوار والتسامح وقبول الاختلاف. الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التربية والتكوين التي تؤكد على ضرورة اعتبار التربية على قيم الديمقراطية والمواطنة الفاعلة وفضائل السلوك المدني خيارا استراتيجيا لامحيد عنه. وتعد المناهج والبرامج الدراسية إحدى المداخل الأساسية لتحقيق هذه الغايات وأجرأتها وترجمتها إلى كفايات معرفية ومنهجية، وإلى اتجاهات ومواقف ينتظر أن يكتسبها المتعلم. وإذا كان منهاج مادة التربية على المواطنة ينبني في سياقاته المجتمعية والتربوية ومرجعيته الديداكتيكية على أهمية التربية على المواطنة في تكوين الإنسان /المواطن الذي تراهن عليه البلاد للسير في مجهودهاالتحديثي والتفاعل مع المحيط الاجتماعي على اختلاف مستوياته ، والواعي والممارس لحقوقه وواجباته تجاه ذاته وتجاه الجماعة التي ينتمي إليها، فهل بإمكان المضمون المعرفي والبيداغوجي لمادة التاريخ أن يجعل من المتعلم مواطنا فاعلا ومندمجا في محيطه؟ وإلى أي حد تحضر قيم المواطنة في منهاج مادة التاريخ؟ وكيف تتجسد قيمة التسامح في المقررات الدراسية للتعليم الثانوي التأهيلي في مادة التاريخ ا بالمستويات الدراسية التالية :الجذوع المشتركة والسنتان الأولى والثانية من سلك البكالوريا الشعب الأدبية؟ – مدخل القيم على المواطنة في منهاج مادة التاريخ: تتعدد التعريفات المتعلقة بمفهوم المواطنة لتداخل الحقول الدلالية المرتبطة بها: سياسياً، اجتماعياً، قانونياً وتربوياً… فالمواطنة "لا تعني فقط الانتساب للوطن والارتباط به(… )و لا تعني مجرد حيِّز جغرافي وعلم يرفرف فوق البنايات الرسمية" وإنما هي سلوك مكتسب، وممارسة في ظل مجموعة من المبادئ والقواعد يصبح القانون فيها هو المرجع الوحيد لضمان الحقوق والواجبات، لتعبر بذلك عن الانتماء إلى وطن يكون فيه الأفراد فاعلين متمتعين بكامل العضوية والأهلية ومتساويين في كافة الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والقانونية، كما يتساوون في الواجبات القانونية والمسؤوليات الاجتماعية والولاء التام للوطن، فالمواطنة ترتكز على الوعي بالحقوق والواجبات في أفق ممارستها فتمثل بذلك رابطة اجتماعية وقانونية بين الأفراد والدولة مع ماتتضمنه تلك الرابطة من حقوق وواجبات. ولايتأتى تمتين هذه الرابطة – التي تسمو على الروابط القبلية والعشائرية – وتعزيز الانتماء للوطن وترسيخ ثقافة الحق والواجب إلا من خلال التربية على قيم المواطنة والتي تندرج ضمن وظائف المدرسة، عبر مناهجها وبرامجها الدراسية. وتعتبر مادة التاريخ من المواد الدراسية الحاملة لقيم الهوية ومبادئها الأخلاقية والثقافية وقيم المواطنة. من هنا يستمد التاريخ وظيفته المجتمعية في تكوين إنسان يفهم مجتمعه الوطني والدولي، ويتموضع ليصبح مشاركا وفاعلا فيه، بل يساهم في التكوين الشخصي للإنسان بتلقينه ذاكرة جماعية تتسع من المجموعة المحلية إلى الأمة ثم إلى الكون. بهذا كانت المنطلقات الأساسية في بناء منهاج مادة التاريخ هي استحضار مدخل الكفايات والتربية على القيم. وهو ما تمت بلورته على مستوى البرامج الدراسية لمادة التاريخ من خلال اكتساب الكفايات الثقافية المعرفية والتواصلية، والتموضع في الزمن والمجال، والمهارات المنهجية. بالإضافة إلى ذلك، الكفايات الاستراتيجية المرتبطة بترسيخ القيم والاتجاهات واتخاذ المواقف الإيجابية والواعية من القضايا التاريخية التي عرفها العالم في زمان ومجال محددين. هكذا تحضر العديد من القيم الإنسانية بشكل صريح أو ضمني في البرامج الدراسية لمادة التاريخ من قبيل: التسامح، الحرية، الكرامة، المساواة و التضامن… وإذا كان المتعلم قد تعرف على هذه القيم في مرحلة التعليم الثانوي الإعدادي في مادة التربية على المواطنة من خلال التعريف بها كمفاهيم والوقوق على أبعادها الدينية والدولية والوطنية، فقد صيغت في مقرر الثانوي التأهيلي مجموعة من القيم من بينها التسامح في الوحدات الدراسية لمادة التاريخ كأهداف تعلمية وعلى مستوى المقاطع والأنشطة والتدبير الديداكتيكي وتقويم التعلمات. كيف تحضر إذن قيمة التسامح في الكتب المدرسية للتعليم الثانوي التأهيلي؟ – قيمة التسامح في الكتاب المدرسي، كتاب "في رحاب التاريخ" نموذجا : ترتبط القيم – كمُثل عليا لها وضع اعتباري في الثقافة الإنسانية- بمجموعة من المبادئ الإنسانية النبيلة التي يجب أن يتصف بها الإنسان، ويمثل التسامح المدخل الأمثل للسلم الاجتماعي وتقوية التعايش وضمان أمن الأفراد داخل المجتمع، فهو قيمة إنسانية وتربوية تتأسس على قبول الاختلاف واحترام الآخر والسعي نحو الحوار البناء بين الأفراد والمجتمعات والانفتاح على الثقافات المختلفة. وتعتبر المناهج والبرامج الدراسية بمفهومها الشامل وبمختلف مكوناتها المضمون الرئيسي للتربية والتكوين، بل إنها تشكل فلسفة وغايات وتوجهات النظام التربوي التي يتم تجسيدها في برامج دراسية ومضامين معرفية وتعلمات وتكوينات وطرائق بيداغوجية، وفي أدوات ديداكتيكية من كتب ووسائط تعليمية، وهي بذلك تفتح إمكانات واسعة لترسيخ القيم والتربية على السلوك المدني. وسنحاول مقاربة قيمة التسامح من خلال الكتاب المدرسي " في رحاب التاريخ " في ثلاثة مستويات دراسية انطلاقا من أهمية الكتاب المدرسي كأحد الدعامات الديداكتيكية المعتمدة في العملية التعليمية التعلمية سواء بالنسبة للمدرس أو المتعلم فالكتاب أداة مساعدة للأستاذ في إعداد دروسه وتنفيذها ودعامة متكاملة ومنظمة وحاضرة مع المتمدرس في البيت والمدرسة.
ينبني الاشتغال على الكتاب المدرسي " في رحاب التاريخ" المبرمج في مستويات دراسية متباينة الجذع المشترك والسنتين الأولى والثانية من سلك البكالوريا على الترابط والتكامل والتدرج بين المستويات الدراسية خصوصا من حيث الإشكالية الناظمة للمستويات الثلاثة في مادة التاريخ والتي تنطلق من فهم واستيعاب التحولات المجتمعية في زمان ممتد من ق15 إلى مطلع ق21 م ضمن مجالات محددة : العالم – العالم المتوسطي – العالم الرأسمالي . وأهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها هي : أولا: رغم تأكيد البرامج والتوجيهات التربوية لتدريس مادة التاريخ على الكفايات المرتبطة بترسيخ القيم والاتجاهات لدى المتعلم واتخاذ مواقف إيجابية من القيم الإنسانية العليا والتطورات والقضايا التاريخية المختلفة، فإن الأهداف الوجدانية والاتجاهات المواقفية تظهر بشكل محتشم مقابل أهمية واضحة للأهداف المعرفية . ففي البرنامج الدراسي للجذع المشترك الآداب والعلوم الإنسانية من مجموع سبعة عشر درسا لاتحضر الأهداف الوجدانية عموما و في علاقة مع ترسيخ قيم التسامح خصوصا إلا في درسين هما: "الإصلاح الديني " و" المد الإسلامي ( امتداد النفوذ العثماني ) وبداية التدخل الأوربي" علما أن هناك وحدات دراسية يمكن أن يتم فيها الاشتغال على هذه القيمة الإنسانية انطلاقا من مرجعية فلسفة الأنوار في الوحدة الدراسية المتعلقة" بعصر الأنوار الفكر الإنجليزي والفكر الفرنسي" وكيف نظّر كل من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك والفيلسوف الفرنسي فولتير لقيمة التسامح. في حين لم يتم تحديد أهداف التعلم الوجدانية في الوحدات الدراسية لبرنامج السنة الأولى من سلك البكالوريامسلك الآداب والعلوم الإنسانية رغم تأكيد التوجيهات التربوية للمادة على تنمية قيم المواطنة وحقوق الإنسان في علاقة مع الفترة التاريخية المدروسة. و تبرز قيمة التسامح كهدف تعلمي بالنسبة للسنة الثانية من سلك البكالوريا مسلك الآداب والعلوم الإنسانية في درس واحد "نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة " من مجموع ستة عشر درسا. ثانيا : تم الاعتماد في البرنامج الدراسي للجذع المشترك على وضعيات مختلفة في تناول قيمة التسامح في الوحدات الدراسية المحددة سابقا، وذلك في إطار الاشتغال على الدعامات الديداكتيكية: النصوص التاريخية بالاعتماد على النهج التاريخي: التعريف، التفسير، التركيب من خلال مقاربة التسامح في مرحلة تاريخية معينة منها : الإصلاح الديني في أوربا وسياسة التسامح الديني في ظل الإمبراطورية العثمانية، وفي وضعية أخرى تتجاوز بناء المعارف إلى تطوير المهارات واتخاذ المواقف من خلال تقويم التعلمات وذلك بمناقشة التسامح الديني وأهميته في تعايش الأديان والحضارات داخل الفصل الدراسي بين جماعة القسم و كتابة التقارير أو إنجاز عروض. أما بالنسبة للسنة الثانية من سلك البكالوريا فقد حضرت قيمة التسامح من خلال أنشطة تعلمية مرتبطة بالاشتغال على مجموعة من الوثائق : نصوص تاريخية وجدول يبين من خلالها المتعلم أهمية التسامح باعتباره قيمة إنسانية في تجاوز الخلافات وتعزيز العلاقات الدولية. ثالثا: يرتكز المنهاج في البرنامج الدراسي لمادة التاريخ من خلال الكتاب المدرسي "في رحاب التاريخ" في المستويات الدراسية الثلاثة على الأهداف المعرفية والمنهجية والمواقفية، لكن الكم المعرفي يبقى حاضرا بقوة. كما لا تتجاوز العمليات الفكرية والمنهجية المرتبطة بأسئلة الدعامات استخراج الأفكار والمعلومات والمعارف بدل اتخاذ المواقف وتنمية الاتجاهات. فترسيخ القيم لدى المتعلم بما فيها قيمة التسامح، يستلزم اعتماد أساليب وطرائق للتعلم في وضعيات وأنشطة تربوية مختلفة، تنقل تمثلات التلميذ حول التسامح من خلالها إلى سلوكات فعلية تمارس على أرض الواقع وتبني مواقف إيجابية. من هنا ضرورة تعويد التلميذ على التساؤل والمناقشة، لكون تبادل الرأي والإنصات إلى الآخر يعتبر جسرا لترسيخ قيم الديمقراطية في حياة المتعلم وسلوكه من حيث كونه مواطنا للمستقبل. فالمواطنة ليست وضعية جاهزة، مادة تستورد، وإنما هي تعلم في أفق الممارسة. رابعا : تجعل كل الأدبيات التربوية التسامح والاعتزاز بالهوية والانفتاح على الآخر وفهم واحترام الاختلاف… من أهم خصائص المواطن الصالح المراد تكوينه وإعداده، لذلك يستدعي تعزيز القيم والتسامح من خلال البرنامج الدراسي لمادة التاريخ تجاوز "… دراسة التاريخ ككتلة من المعلومات بل استغلال المعلومات في خلق صورة حية وبناءة لما قام به الناس وكيف قاموا به ؟ ولماذا قاموابه على هذه الصورة؟…"، وبالتالي الاعتماد على طرائق وأساليب بيداغوجية، تفتح آفاق التلاميذ نحو التعلم الذاتي والعمل الجماعي والتسليح بالفكر الناقد القادر على الإبداع والاجتهاد، وإبداء الرأي والمناقشة وبناء المواقف. ولايتأتى ذلك إلا من خلال مدرسة مفعمة بالحياة بفضل نهج تربوي نشيط يتجاوز التلقي السلبي والعمل الفردي إلىى القدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعي. خلاصة القول إذن، رغم التحولات التي تعرفها المنظومة التعليمية والتربوية في المغرب كمّاً وكيفا والمستجدات المرافقة للمناهج والبرامج التربوية بما فيها اعتماد مدخل الكفايات والتربية على القيم، فإن منهاج مادة التاريخ لازال يرزح تحت ثقل المعارف والمعلومات . مما يتطلب إعادة النظر في المقاربة الديداكتيكية وطرائق وأساليب تدريس المادة وتجاوز التلقين والتذكر والحفظ إلى خلق وضعيات للتعلم الحقيقي لبناء القيم و تنمية الاتجاهات الإيجابية واتخاذ المواقف وترجمتها إلى سلوكات مدنية في أفق تكوين وإعداد مواطن متشبع بالقيم الوطنية والإنسانية .