لقد استبشر المغاربة كثيرا بقرار اتفاق الفرق البرلمانية بلجنة المالية، تصفية صندوق تقاعد البرلمانيين بصفة نهائية، وذلك بعد ضغط شعبي قوي دام لسنوات، رغم ان الكثير من المواطنين اعتبروا الخطوة في بداية الامر ما هي الا مجرد مناورة سياسية عابرة. وفي ظل هذا النقاش المحموم كذلك برز موضوع اخر لا يقل أهمية عن موضوع تقاعد البرلمانيين وهو تعويضات المنتخبين والسياسيين عموما، هذا الموضوع والذي يستثمر فيه الفساد و جزء من الدولة العميقة أموالا طائلة من جرائد وابواق على منصات التواصل الاجتماعي مستفيدين من الشح الكبير للمعلومات حول الموضوع كانه طابو يراد له ان يبقى بعيدا عن انظار المواطنين و بعيدا عن النقاش في الاعلام العمومي يستغل في كل مرة لتبخيس العمل السياسي و شيطنته و اظهاره كجزء من المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها و الهدف بطبيعة الحال دفع طبقة المثقفين و الكفاءات بعيدا منه و جعل العملية السياسية مسار يسهل التحكم فيه و في مخرجاته، و ذلك عبر نشر الاطنان من المعلومات المغلوطة و المتعمدة و حتى الصادمة و الفلكية، حيث تقف أحيانا مشدوها كيف يمكن للعقل البشري المغربي تصديقها و هو موضوع اخر يحتاج الى دراسات مستعجلة حوله، مثل ان تعويضات بعض البرلمانيين قد تصل الى 10 او 12 و 14 مليون سنتيم شهريا . فاذا كنا كمغاربة قد وصلنا الى قناعة اننا لم نعد بحاجة الى العملية السياسية والديموقراطية كما يطرحه البعض، فهل الحل ان نكلف الدولة بتعيين أعضاء البرلمان ونلغي دور الوساطة الذي يلعبه السياسيين؟ أم الحل ان نكلف وزارة الداخلية بالإشراف على تسيير المدن والجهات عبر رجال السلطة من قياد وباشوات وعمال وولات؟ وهل هؤلاء يحوزون أصلا على رضى المواطنين؟ وإذا سلمنا بالأمر فأي مواصفات سنحتاج لهؤلاء الموظفين الذين سيسيرون هذه المؤسسات؟ أ كفاءات شبيهة بعمال الأقاليم وولات الجهات ام كفاءات شبيهة بباشوات وقياد المدن؟ وكم سيكلف هؤلاء الموظفون الجدد ماديا؟ أ أجور اقل من تعويضات رؤساء الجماعات وعمداء المدن ورؤساء الجهات حاليا ام أكثر؟ أم سنطلب من هؤلاء الموظفون الجدد العمل تطوعيا؟ وفي حالة اخفاقهم في التسيير من سنحاسب آنذاك؟ وكيف سنتعامل مع هؤلاء الموظفين إذا فشلوا في تسييرهم لهاته المؤسسات او المدن او الجهات؟ أسنحليهم على التقاعد، أم سنستبدلهم كل خمس سنوات؟ وهل المشكل في المنتخبين أم في اختيار المنتخبين وعدم المبالاة وعدم تحمل مسؤولية الاختيار؟ وهل الموظفين من رجال السلطة من باشوات وعمال وولات بالضرورة سيكونون أكثر تواصل وأقل فسادا من المنتخبين أم العكس؟ وكيف سنحاسبهم وهل تم أصلا محاسبة الفاسدين منهم خصوصا من رائحة فسادهم ازكمت الأنوف ومنهم من رآكم الملايين والملايير في ظرف وجيز؟ وما هذه الا بعض الأسئلة البسيطة التي تحتاج منا الى أجوبة حقيقية حتى لا نتوه أكثر ما نحن تائهين. الأكيد ان الكل متفق تقريبا بكون العملية الديموقراطية والسياسية بالمغرب معطوبة وليست على ما يرام والأكيد كذلك ان موضوع تعويضات البرلمانيين والمنتخبين عموما، تحتاج الى مراجعة مستعجلة ان أردنا فعلا رد الروح للعمل السياسي، فما الضير ان يفتح هذا الموضوع امام النقاش العمومي بالإذاعات والقنوات العمومية، حتى لا يبقى موضوعا غامضا مثل موضوع مثلث بيرمودا يستغل من طرف ازلام الاستبداد وفيروسات صفحات التواصل الاجتماعي في كل مرة، أم ان هذا التعتيم مقصود هو بذاته كما يدعي الكثير من المتتبعين. فالمتتبع الرصين للعمل السياسي يعلم جيدا ان موضوع تعويضات البرلمان، بعيد كل البعد عن الأرقام الفلكية المتداولة في صفحات التواصل الاجتماعي والتي للأسف، شئنا أم أبينا، تبني وعيا مجتمعيا مزيفا ومدروسا بدقة وعناية و ترسم صورة نمطية مسيئة للعمل السياسي، حيث كثيرا ما نصدم ونحن نقرأ لمن يفترض فيهم انهم ينتمون الى الفئة المثقفة التي ستنير المجتمع، تتقاسم تدوينات او صور تتهم برلمانيا بمراكمة تعويضات قد تصل الى 14 مليون سنتيم شهريا بدون أي تفكير او فكر نقذي، منطلقين من كون البرلماني مثلا هو أستاذ جامعي او مهندس او دكتور أجرته الشهرية 2 مليون سنتيم فيضيف اليه تعويضه البرلماني 3 ملايين سنتيم و قس على ذلك، لكن ما لا ننتبه اليه، والذي يحاول الاعلام المرتزق اخفاءه عن المواطنين عبثا أن قانون النظام الداخلي للبرلمان و خصوصا المادة السابعة منه تنص و تمنع أي برلماني من مزاولة اي مهمة عمومية غير انتخابية، في مصالح الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية، مما يعني منعه قانونيا الجمع بين تعويض البرلمان و أي اجر نظامي اخر، وبالتالي فالأجر الوحيد الذي يبقى للبرلماني ان كان موظفا مع الدولة هو تعويض البرلمان وفقط ولو كان اجره في الوظيفي عشرات الملايين شهريا فانه يتوقف الى انتهاء مدته الانتدابية. لقد حدد النظام الداخلي لمجلس النواب تعويض الانتداب البرلماني في مبلغ 36 ألف درهم شهريا، هذا التعويض الذي يمنح جزافيا لكل البرلمانيين بكل تشعباتهم: المهندس والدكتور والأستاذ الجامعي والأمي ومول الشكارة والمقاول والمهني والفاسد والنزيه والسياسي و الغير السياسي وووو. فيصبح هذا التعويض بعد خصم كل الالتزامات، من اقتطاعات تقاعد البرلمان واقتطاعات التقاعد الوظيفي للموظفين والتغطية الصحية والتامين، يتراوح ما بين 29000 و31000 درهم صافية، كما يصبح تعويض رئيس الفريق البرلماني في حدود 34000 درهم، اما وبعد خصم مساهمات البرلمانيين للأحزاب الحقيقية والجادة التي ينتمون اليها كمساهمة لتسيير امورها، فيصبح التعويض المتبقي تقريبا في حدود 220000 درهم (كمثال المساهمة الشهرية في حزب العدالة و التنمية المحددة في 8000 درهم شهريا تقريبا لكل برلماني و التي تقتطع من المنبع)، ولكي يتضح الامر أكثر فالأستاذ الجامعي او المهندس مثلا والذي كان أجره الشهري على سبيل المثال كموظف يساوي 1.5 مليون سنتيم شهريا، وفور دخوله للبرلمان يفقد أجره الوظيفي كأستاذ او مهندس او او و و يبقى فقط تعويضه البرلماني و الذي بعد حذف جميع التزاماته المالية، يصبح في حدود 22000 درهم، أي ان تعويضه الحقيقي بدون لف او دوران او التفاف او لوك للكلام ما بين و 6000 و 7000 درهم، اذا خصمنا منه اجره كموظف المحدد سلفا في 1.5 مليون سنتيم و قس على ذلك، و بهذا المبلغ، يصبح ملزما أخلاقيا بفتح مقر استقبال للبرلماني و تشغيل موظف للاستقبال المواطنين و بالحضور أسبوعيا للبرلمان للدفاع عن اهتمامات و هموم المواطنين و تشريع القوانين لحماية المال العام و تأطير المواطنين و استقبالهم ووو. لكن المثير و المدهش و المسكوت عنه من طرف أبواق الفساد و الذين يتظاهرون بالدفاع عن المال العام، انه في مقابل هؤلاء البرلمانيين، من الكفاءات و الذين أغلبهم يشتغل في الوظيفة العمومية مع الدولة كموظفين و هم الأكثر حيوية و كفاءة داخل اللجان البرلمانية بشهادة الجميع، نجد الفئة المحظوظة بالبرلمان و المسكوت عنها و التي لا ينتقدها احد و لا يلمز إليها احد ، وهم فئة الاعيان من تجار المال و الاعمال و الذين لا يربط أغلبهم بالعمل السياسي الا الخير و الاحسان، ينتقلون في كل مركاتو انتخابي من حزب ال حزب اخر و من قميص الى قميص اخر و من النقيض الى النقيض و من إيديولوجية سياسية الى أخرى و برنة هاتف فقط، يمكنهم حتى تغيير دياناتهم ان اقتضى الحال، مهمتهم الوحيدة هي الانتظار و تلقي الأوامر و رفع اليد مع او ضد القوانين التي تستهدف أصحاب نعمتهم، و لعل خير دليل على مهزلة هذا المنطق و هذه الفئة من برلمانيي الاعيان المحظوظة، مهزلة التصويت على قانون القاسم الانتخابي، فبعدما كانت الأغلبية في بداية الجلسة لدى حزب العدالة و التنمية الذي كان قد اعلن مسبقا انه سيصوت برفض القانون. تم تأخير الجلسة والتصويت لأزيد من أربع ساعات بحجج واهية، وتم استنفار كل الطرق والأجهزة لإحضار وانتشال البرلمانيين الاعيان، الذين لا يحظرون في الأصل للقبة الا ناذرا، من بيوتاتهم ومشاريعهم و من أحضان زوجاتهم لكي يرفعوا أيديهم خمس دقائق ليصوتوا على قانون القاسم الانتخابي الغريب والذي لا يعلمون عنه في الغالب اي شيء و الذي لم يكن مطلبا في أي مذكرة انتخابية لأي حزب بل سقط بالبرلمان كما تسقط النيازك على الارض. فهؤلاء البرلمانيين من الاعيان فبالإضافة الى مداخيلهم ما شاء الله من المهن الحرة والتجارة والاعمال والتي لا يمنع القانون الجمع بينها و بين تعويض البرلمان، يتم مكافئتهم ب 36 ألف درهم شهريا صافية عكس الفئة الأولى من البرلمانيين موظفي الدولة والذين يتم الالتفاف على أجورهم الوظيفية وإدخالها عنوة ضمن التعويضات البرلمانية، زورا و بهتانا. اكيد ان العمل السياسي ليس مجالا للاغتناء و لا يجب ان يكون كذلك، لكن في المقابل لا يجب ان يصبح هذا المنطق منطقا اعوجا نطالب من خلاله السياسي بالإنفاق من ماله و مال أولاده بحجة ان هذا العمل عمل تطوعي، فاذا اصبح لدى الدولة و المواطنين قناعة بعدم جدوى المؤسسات و العملية الديموقراطية، و اصبحنا عاجزين على الانفاق على العمل السياسي و على مؤسساته الدستورية فما علينا الا الاعتراف بذلك و لما لا الغاء هذه المؤسسات برمتها و الاستعانة بتجربة دول اخرى قطعت اشواطا كبيرة في هذا الباب، حيث يمنح دستورها، السلطة الحاكمة، تعيين كل مسيري البلاد من كبيرها الى صغيرها و ادخال كل من عارض سياساتها السجون و تلفيقهم التهم الجاهزة . فلم يعد مقبولا ان يتم الالتفاف على أجور الموظفين مع الدولة وتسمية ذلك تعويضا للبرلمان وفي المقابل تعليف البرلمانيين من الاعيان، فالأجر الذي اكتسبه الموظف جراء سنوات من العمل والجهد هو ماله و مال أولاده و ليس مالا للبرلمان، فالتعويض عن المهمة الانتدابية يجب الا يكون جزافيا يعطى للكل، بل يجب ان يكون تعويضا مقترنا بالمهمات و تعويضا عن التنقل و عن الأعباء و عن المبيت و عن كراء مقرات لاستقبال المواطنين و عن كل ما من شانه تيسير عمله كبرلماني. فلم يعد مقبولا ان تعيش الأحزاب على صدقات ومساهمات منتخبيها او مساهمات رجال الاعمال بحيث نتحول من مؤسسة الحزب الى حزب الشركة، يتحكم صاحب الشكارة في الحزب ونصبح بأحزاب صورية فاقدة لكل استقلاليتها. فلقد آن الأوان أن كنا نريد فعلا اصلاح المجال السياسي و ارجاع الثقة اليه، أن نعيد النظر في تعويضات البرلمانيين و المنتخبين و نفصل بين أجورهم كأشخاص وبين تعويضاتهم على مهامهم الانتدابية، وآن الأوان كذلك لسن قوانين تمنع الجمع بين المهام عبر إقرار حالات التنافي بين كل المهام الانتدابية، كما حان الوقت لفتح هذا الموضوع امام النقاش العمومي بالقنوات العمومية بما له و بما عليه فلم يعد مقبولا هذا التعتيم و الذي يراه اغلب المتتبعين ممنهجا و مدروسا لشيطنة العمل السياسي و تنفير الناس منه حتى يبقى مجالا منفرا يملأه الأعيان ممن يسهل التحكم فيهم و بالتالي التحكم في العملية السياسية، فأكيد ان الاكراهات كثيرة و مطالب المواطنين أصبحت كبيرة جدا و لا يمكن تلبيتها الا عبر ديموقراطية حقيقية واضحة بمرها و حلوها فلا تنمية بدون ديموقراطية و لا ديموقراطية الا عبر افراز مؤسسات تتدافع فيما بينها و لا ديموقراطية الا بسياسيين يمكنهم قل لا عندما يكون واجبا قول لا. * جمال هبوز / إطار في التوجيه التربوي وفاعل جمعوي وسياسي زاكورة