عندما يكون الإنسان سويا ويعيش في مجتمع سوي فإن نظرته إلى نفسه تكفيه عن نظرة الناس إليه, لأن ما يعرفه هو عن نفسه يقين اما ما يعرفه الناس عنه فمجرد ظنون. فالغير لا يعرف عنا في الغالب إلا ما نريد نحن ان يعرفه. وبناء عليه، فمن المفروض ان لا تاخذ نظرة الناس إلينا من الاهتمام اكثر مما تأخذه نظرتنا إلى أنفسنا، لاننا الاعلم بانفسنا من غيرنا وإن صلحت أنفسنا فلنا صلاحها بكل إيجابياته بالأساس وإن فسدت فعلينا فسادها بكل تبعاته. وليس سويا ابدا ان يتجاوز الإنسان نظرته إلى نفسه ويجعل كل تصرفاته مرهونة بنظرة غيره إليه، في حين ان هذا الغير ربما لا يهتم به أصلا وإن اهتم قليلا، فلا يكون ذلك إلا عند فراغه من شغل نفسه. وكثيرا ما يكون هذا الاهتمام بدافع التسلية او التشفي او الفضول . في واقعنا الحالي والذي ليس سويا بالتأكيد، طغت المظاهر ولم تعد حقائق الأشياء ولا نظرة الإنسان إلى نفسه هي الأهم، وإنما الاهم هو ما يجب ان يراه الناس: ماذا سيقولون؟ كيف سينظرون؟ وكيف سيحكمون؟ يرتدي الشخص نظارة شمسية مثلا، ولكنه يضعها فوق جبهته وليس فوق عينيه، لأنه لم يرتد النظارة في الأصل من اجل ما صنعت له، وإنما ليرى الناس أنه يرتدي النظارة، فلا بأس ان توضع فوق الجبهة او تعلق على القميص…مادام الغير سيرى انه يرتدي نظارة! ويرتدي آخر كمامة (ضمن اجراءات كورونا الاحترازية)، لكنها لا تغطي الفم ولا الأنف وإنما تغطي العنق! المهم أن يرى من يراقب أنه يرتدي الكمامة. وحتى ذلك المراقب نفسه، يرى ان الكمامة ليست موضوعة بالشكل الصحيح، فلا يتدخل في الغالب، لأن المهم بالنسبة له هو "اظهار" الاحترام له! وقد حصل ولو بوضع الكمامة على الفم فقط، او حتى على العنق. وفي مجتمعاتنا اناس يتزوجون ليس اقتناعا بفكرة ومشروع الزواج ولكن ليرى الناس أنهم متزوجون. بل حتى في المشاعر والأحاسيس، ، تجد من يدعي السعادة مثلا، بينما هو غارق في ابحر من الشقاء وتجد كذلك من يدعي انه يعيش قصة عشق وغرام، فقط ليقول الناس عنه إنه عاشق او معشوق، اما الحقيقة فغير ذلك تماما. طبعا، ليس من العيب ان يخاف الإنسان على سمعته وليس من العيب ان يحرص الواحد منا على ان يكون له ذكر حسن بين الناس. فسيدنا إبراهيم عليه السلام سأل الله ان يجعل له لسان صدق في الآخرين. والفرق شاسع بين من يراقب الله أولا ويراقب نفسه وبعد ذلك، يحتاط لسمعته وبين من لا يهمه شيء غير مراقبة الناس ونظرتهم إليه، بل تجده مستعدا ليناقض قناعاته ومبادئه وحتى مصالحه وقد يأتي ما يضره من اجل أعين الآخرين. كم من اناس في مجتمعاتنا يكلفون انفسهم ما لا يطيقون من أجل شراء مقتنيات اعلى واغلى بالمقارنة مع دخلهم المادي المحدود، فيوقعون انفسهم في الحرج بسبب تراكم الديون، وربما دخلوا السجن لعدم القدرة على سداد المستحقات وقد يتجاوزون الكسب الحلال إلى الحرام…كل هذا بسبب مراعاة نظرة الناس والحرص على ان نملك مثل او أحسن مما يملكون. اتصلت بي مرة فتاة تسأل عن حكم الزواج من رجل اوروبي الاصل اعتنق الإسلام، فقلت لها: مادام مسلما فلا مانع في الشرع من الزواج منه. فقالت لي إن اباها يعارص ويرفض هذا الامر، وسبب رفصه -كما اخبرها بنفسه-،هو انه لا يرضى ولا يقبل ان يتحدث الناس في العائلة أو في القبيلة بان بنت فلان تزوجت من اوروبي (كاوري). وهكذا وقف الأب ضد سعادة ابنته وضد شرع ربه وعطل هذه العلاقة، فقط، حتى لا يقول الناس كذا وكذا. إن الذي لا ياتي الخير ولا يترك الشر إلا من اجل الناس يهين نفسه في الحقيقة، لأنه جعل نظر الناس إليه اهم من نظره إلى نفسه وأهم من نظر خالقه، كما قال الشاعر: إذا أنا لمْ آتِ الدنيّةَ خشيةً مِن الناسِ كان الناسُ أكرمَ من نفسِي كفى المرءُ عاراً أن يرى عيبَ نفسه وإن كان في كِنٍّ عن الجنَ والأنسِ لا شك ان هناك اسبابا وراء هذا الاهتمام الزائد بالمظاهر، ومن بينها: طغيان الجانب المادي على الجانب القيمي، إذ تجد الواحد يملك من القيم والاخلاق ما يفضل به غيره بكثير، لكنه لا يقدر هذا الفضل ولا يعتبر هذا السبق مما يجعله يحس بالنقص مادام مستواه المادي اقل من ذلك الغير. ولو وزن الامور بما يجب ان توزن به لحمد الله وشكره ولوجد ان له من الخير ما ليس لدى ذلك الغير. من الاسباب كذلك ضعف الثقة بالنفس وضعف الثقة بالله، فالذي يثق بنفسه يكفيه نظره إليها عن نظر غيره. والذي يثق بربه يكفيه نظره إليه عن نظر الخلق.. وشتان بين من جعل شعارا لحياته (ماذا سيقول عني الناس؟ ) ومن جعل شعارا لها (ماذا ساقول لربي غدا يوم القاه؟) يقول الله تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) الزمر: 36 ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور." رواه البخاري فالزور ليس في القول والشهادة فحسب، بل هو كذلك في الحال والمظهر ايضا ويكون ذلك عندما يظهر الإنسان حاله على غير ما هو عليه في الحقيقة.