ليس من العبث أن يخص جلالة الملك محمد السادس قرابة نصف خطابه (بالضبط 42%) بمناسبة عيد العرش المجيد 2021 للجارة الجزائر. والذي يزيد الأمر أهمية، في سياق شدة التوتر بين البلدين، أن يكون خطاب جلالته تجديدا لمواقفه تجاه الجارة الشرقية، بدعوتها مجددا للعمل سويا من أجل إخراج العلاقات بين البلدين من وضع الأزمة وفتح الحدود بينهما. لقد توقع كثيرون في سياق التصعيد الاعلامي والتوتر الدبلوماسي بين البلدين، أن يكرس خطاب العرش تلك الأزمة، لكن الخطاب بالعكس استعاد المبادرة في حقل حسن الجوار والتعاون بين الشعوب وتعزيز فرص التنمية المشتركة. لقد بلغت الأزمة المغربية الجزائرية مستويات عالية من التوتر، الإعلامي والدبلوماسي والسياسي، سواء على خلفية الأزمة الدبلوماسية التي أثارها دخول زعيم الانفصاليين، إبراهيم غالي، إلى إسبانيا. أو على خلفية حديث السفير المغربي في الأممالمتحدة، عمر هلال، عن "شعب القبايل" و"حقه في تقرير الصمير"، كرد فعل على إعلان وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، دعم حق تقرير مصير "سكان الصحراء الغربية". وذهب كثير من المراقبين والمحللين إلى أن استعمال المغرب ورقة "شعب القبايل وحقه في تقرير المصير"، تحت مبرر "التعامل بالمثل"، يؤشر على تحول جوهري في ثوابت السياسة المغربية تجاه الجزائر، أنهى بشكل "لا رجعة فيه" فصلا من التدبير العقلاني الرصين في تدبير ملف العلاقة مع الجارة الشرقية. وجاء خطاب العرش لهذه السنة، ليعيد الأمور إلى نصابها، ويؤكد من جديد أن المغرب وفي لمبادئه ولأخلاقيات حسن الجوار وللمشترك الحضاري والتاريخي بين الشعبين. لقد أكد جلالة الملك في خطاب العرش، بشكل صريح وواضح على عدة أمور جوهرية تلخص نظرته الحكيمة لعلاقة الشعبين والدولتين الجارتين. فقد مهد جلالته كلامه بقاعدة أساسية ومؤطرة لرؤيته للموضوع، وذلك بالحديث على حرص المغرب على "مواصلة جهوده الصادقة، من أجل توطيد الأمن والاستقرار، في محيطه الإفريقي والأورو-متوسطي، وخاصة في جواره المغاربي". وهذه قاعدة الدبلوماسية المغربية الرصينة التي تجلب له التقدير والاحترام. وبناء على تلك القاعدة الأساسية أعلن جلالة الملك تجديد "الدعوة الصادقة لأشقائنا في الجزائر، للعمل سويا، دون شروط، من أجل بناء علاقات ثنائية، أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار". معتبرا أن الوضع الحالي لا يرضيه شخصيا، وأنه ليس في مصلحة الشعبين، وغير مقبول دوليا، ليؤكد بوضوح قناعته: "الحدود المفتوحة، هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين". وبعد تذكيره بحق الشعبين في أن تفتح الحدود بينهما، باعتباره حقا طبيعيا ومبدأ قانونيا أصيلا، شدد الملك على كون التوجه المغربي في هذا الباب توجه مبدئي وتابت يعبر عنه في مختلف المناسبات مند أول عهده بالحكم. وفند جلالة الملك، بأسلوب نفاذ هادئ ورصين وحجج دامغة، الأطروحات التي يختبئ خلفها ساسة الجزائر، ليعريهم أمام التاريخ وأما الشعب الجزائري، وينبههم إلى أن العلاقات الدولية لا تحكمها المواقف المزاجية التي تفقد كل مبرراتها في أمد قصير، منتقدا الارتهان إلى قرارات قديمة لقادة رحلوا مند مدة وبناء على أسباب متجاوزة لم يعد لها أي مبرر الآن، فأكد أنه "لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا، مسؤولين على قرار الإغلاق"، ويعيد الموضوع إلى وضعه الطبيعية بإثارة مسؤولية القادة الحاليين على الوضع ويؤكد: "ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا، على استمراره؛ أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام مواطنينا". وبعد تفنيد الارتهان لأخطاء السابقين رغم فقدانها اليوم كل مبرراتها، فند جلالته أيضا أطروحات تحاول تبرير الاستمرار في خطأ الأقدمين واجتراره، ففند محاولة تفسير مغلوط لدعوة المغرب الثابتة لفتح الحدود، بزعم فقره وحاجته، منبها إلى أن مثل ذلك الخطاب "لا يمكن أن يصدقه أحد، خاصة في عصر التواصل والتكنولوجيات الحديثة"، والشعب الجزائري يعرف المغرب جيدا، والجزائريون في زيارة دائمة لبلدهم المغرب. وبعد تفنيد جلالته الزعم أن فتح الحدود سيكون مصدر مشاكل وتهديد لكلا البلدين، خاطب جلالته قادة الجزائر مؤكدا "أن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن يأتيکم منه أي خطر أو تهديد؛ لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا. لذلك، نعتبر أن أمن الجزائر واستقرارها، وطمأنينة شعبها، من أمن المغرب واستقراره". وبعد تأسفه " للتوترات الإعلامية والدبلوماسية، التي تعرفها العلاقات بين المغرب والجزائر، والتي تسيء لصورة البلدين، وتترك انطباعا سلبيا، لا سيما في المحافل الدولية"، دعا جلالته "إلى تغليب منطق الحكمة، والمصالح العليا، من أجل تجاوز هذا الوضع المؤسف، الذي يضيع طاقات بلدينا، ويتنافى مع روابط المحبة والإخاء بين شعبينا. فالمغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان". وختم جلالته خطابه الموجه إلى الأشقاء في الجزائر بدعوة صريحة للرئيس الجزائري بالقول: "أدعو فخامة الرئيس الجزائري، للعمل سويا، في أقرب وقت يراه مناسبا، على تطوير العلاقات الأخوية، التي بناها شعبانا، عبر سنوات من الكفاح المشترك". إن الخطاب الملكي الموجه إلى الأشقاء في الجزائر، له أهمية خاصة، فهو يتجاوز منطق تدبير أزمة بين بلدين، إلى إعادة تأكيد اختيار أصيل ومتجذر في السياسة المغربية تجاه الجارة الشرقية، اختيار مبني على اعتبارات حضارية وأخلاقية، واعتبارات خدمة مصالح الشعبين والبلدين. فرغم أن الجزائر تؤوي انفصاليين يعادون الوحدة الترابية للمملكة وتساندهم مساندة شاملة، ورغم عملية الطرد التعسفي الجماعي من الجزائر في سنة 1975 لأزيد من 45 ألف أسرة مغربية تضم قرابة 350 ألف مواطن مغربي تم تجريدهم من ممتلكاتهم وجميع حقوقهم المدنية والسياسية، ورغم كل المؤامرات الإعلامية والدبلوماسية التي تتورط فيها الجزائر ضد المصالح المغربية بين الفينة والأخرى، يضل الموقف المغربي من مسألة حسن الجوار وفتح الحدود والتعاون على الخير لصالح البلدين والشعبين ثابتا لا يتغير. إن ما سبق يؤكد مرة أخرى أن لعب ورقة "الانفصال" كان خطأ لا يمكن تبريره بالمعاملة بالمثل، لأنه بكل بساطة ضد وحدة الشعب الجزائري ووحدة تراب الجزائر، وأن التوجه الذي جدده الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش هو العمود الفقري للسياسة المغربية تجاه الجارة الشرقية. وفي هذا السياق بالضبط نفهم بلاغة تأسف جلالة الملك "للتوترات الإعلامية والدبلوماسية، التي تعرفها العلاقات بين المغرب والجزائر، والتي تسيء لصورة البلدين". وأملنا أن يلتقط الأشقاء في الجزائر الرسائل الإيجابية للخطاب الملكي، ويستوعبوا مبادرة جلالة الملك، ويبادروا إلى إنهاء وضع غير طبيعي يضر بمصالح البلدين الجارين والشعبين الشقيقين، والذين قال عنهما جلالته، بخطاب بليغ: "المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان".