تحضى الأسرة في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 بالأهمية البالغة، حيث جاء في الفصل 32: "الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع وأن الدولة تعمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بما يحقق وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها، كما تسعى الدولة إلى توفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية". بيد أن التطورات المجتمعية التي تشهدها بلادنا اليوم، لاسيما بعد مرور أزيد من 17 سنة على الشروع في تطبيق أحكام مدونة الأسرة، تؤكد أن تنظيم مؤسسة الزواج، يعرف وجود خلافات وتقاطعات، وتجاذبات ذات أبعاد دينية، عرفية، ثقافية، اجتماعية واقتصادية، لاسيما موضوع "زواج القاصر"، وتحديدا أحكام المادة 20، التي تمنح قاضي الأسرة المكلف بالزواج ، الإذن للفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليها في المادة 19من نفس القانون. لقد انخرطت بلادنا في أوراش إصلاحية هامة ، لاسيمافي مجال حقوق الانسان وذلك من خلال ملائمة التشريعات الوطنية مع التزامات البلاد الدولية في هذا المجال ، فقطعت أشواطا مهمة على المستويين التشريعي والمؤسساتي، كانت خير دليل على التطور السياسي والحقوقي لبلادنا الذي توج هذا المسار سنة 2017 بإقرار خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، تستمد مرجعيتها من دستور المملكة والتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وتوصيات تقرير الخمسينية والبرنامج الحكومي2016 -2021. وتتمثل المرجعيات الدولية الأساسية للمملكة في ما يتعلق بحقوق الطفل في : – الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين، والمعاهدات والبروتوكولات الملحقة بها التي صادق عليها المغرب طبقا لأحكام دستوره، ومن ضمنها اتفاقية حقوق الطفل الصادرة بتاريخ 1989/11/20 والمصادق عليها بموجب الظهير المؤرخ في 1993/06/14 ، وقد ورد في المحور الثالث للخطة، المتعلق بحماية الحقوق الفئوية والنهوض بها، محورا فرعيا ينص على تدابير الدولة في مجال الحد من ظاهرة زواج القاصر، وتحديدا التدبير رقم 238 الذي ينص على مواصلة الحوار المجتمعي حول مراجعة المادة 20 من مدونة الأسرة المتعلقة بالإذن بزواج القاصر، والتدبير رقم 246 المتعلق بمواصلة ودعم الجهود الرامية إلى الحد من تزويج القاصرات . وعليه، تكون الدولة ماضية بثبات في الوفاء بالتزاماتها للتصدي لهذه الظاهرة وفق مقاربة شمولية تستند أساسا على ايلاء الأهمية القصوى للبرامج الاجتماعية المساهمة في النهوض بوضعية الفتاة خاصة في مجالات التعليم والتكوين والتمكين الاقتصادي و الوصول إلى الموارد. وهذا ما تؤكده المعطيات الرسمية الواردة في تقارير رئاسة النيابة العامة التي بادرت منذ احداثها إلى إصدار العديد من الدوريات، تحث فيها قضاتها لقضاء الاسرة ، على تقديم ملتمسات تنسجم وغاية المشرع من جعل زواج القاصر استثناء يتوقف على موافقة القضاء، مؤكدة عليهم بعدم التردد في تقديم ملتمساتهم لرفض أي طلب متى كانت المصلحة الفضلى للقاصر تتعارض ومنح الإذن بالزواج ، وقد تم التجاوب بجدية مع هذا المعطى الموضوعي من طرف قضاة النيابة العامة، وهذا ما أكدته المعطيات الاحصائية الواردة في التقرير الأخير الصادر عن رئاستها لسنة 2019 حيث بلغت نسبة الملتمسات الرامية إلى رفض الاذن بزواج القاصر ما يقارب 58.4% من مجموع ما تم التوصل به مقارنة مع سنة 2018 التي بلغت خلالها هذه النسبة 36% ، أي بتراجع بلغت نسبته 18% . أما على مستوى التجارب الفضلى، تجدر الإشارة إلى أن العديد من القوانين المدنية على المستوى الدولي تجيز الاذن بالزواج ما دون سنة 18 بشروط معينة ومقننة، فعلى سبيل المثال تنقسم الدول الاوربية التي تجيزه إلى ثلاث اتجاهات : الاتجاه الأول: حددت السن القانوني للزواج في 18 سنة و الاستثناء في 16 سنة بموافقة الوالدين او المحكمة (إيطاليا ،النرويج…. ). الاتجاه الثاني: حددت السن القانوني للزواج في 18 سنة ولم تحدد السن الأدنى للزواج بل جعلته رهين بموافقة المحكمة أو الوالدين (فلندا ، إيرلندا ..) الاتجاه الثالث: حددت السن القانوني للزواج في 18سنة والاستثناء في سن 14 او 15 سنة بموافقة الوالدين أو المحكمة ( جورجيا ، استونيا ، الدانمارك …) أما على مستوى المحيط الاقليمي فقد أجازت مجلة الأحوال الشخصية في تونس، إمكانية إبرام عقد زواج القاصر بعد الحصول على إذن خاص من المحكمة ، في حالة وجود أسباب خطيرة أو مصلحة واضحة . وأجاز قانون الأحوال الشخصية الأردني للقاضي الاذن بزواج القاصر إذا أكمل 15 سنة كاملة وتبين لديه مصلحة في الزواج . عمد المشرع المغربي على إنشاء مؤسسة قاضي الأسرة المكلف بالزواج، إلى جانب قضاة التوثيق، وقضاة شؤون القاصرين، لتناط بهذه المؤسسة عدة اختصاصات لعل أبرزها ،إعطاء الإذن للقاصر، شريطة منح القاضي الصلاحية في أن يأذن للفتى أو الفتاة وإن لم يبلغ أحدهما سن 18 سنة، بقرار معلل يبرز فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، وذلك بالاستماع لأبويه أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية، او إجراء بحث اجتماعي في الموضوع للتأكد من مدى قدرته على تحمل أعباء الزواج وأن فيه مصلحة وسندا له. ويكون بذلك المشرع قيده بشروط لا بد من مراعاتها من ضمنها النضج الجسماني والأهلية لتحمل تبعات الزواج وإمكانية القيام بواجباته، والقدرة على التمييز الكافي لصدور الرضا لإبرام العقد، فلماذا إذن لايتم لحد الان حذف المادة 20 المتضمنة لاستثناء الاذن بزواج القاصر؟ إن كل هذه القيود التي وضعها المشرع المغربي على زواج القاصرين، تروم إلى تقليص الظاهرة في أفق الحد منها رعاية لمصلحتهم الفضلى ، التي تستدعي تواجدهم في المقاعد الدراسية من أجل بناء مستقبلهم العلمي والمعرفي ، لكن تطور النص القانوني يجب أن يكون مسبوقا بتطور الوعي المجتمعي الذي لايزال منخفضا مع انتشار الفوارق الاجتماعية والمجالية. إن النقاش الذي أثير حول زواج القاصر في المغرب ركز على النص القانوني والممارسة القضائية الموسومة بالاستثناء، وحملهما مسؤولية هذه الظاهرة، في حين أن التركيز يجب أن ينصب على تأهيل المجتمع الذي لازال تحكمه الأعراف والتقاليد ،لاسيما في البوادي والأرياف حيث تصر الأسر على تزويج بناتها كما أبنائها في سن مبكرة لحاجات اجتماعية واقتصادية صرفة . إن معالجة هذا المشكل المجتمعي لا يتوقف فحسب على تطوير النص القانوني وهذا ملح ، ولكنه متوقف على تغيير قناعات راسخة لدى العديدين لرفض هذا الزواج، ثم تفعيل مقاربة شمولية من مداخل متعددة أهمها المدخل سوسيو ثقافي، والمدخل الاقتصادي والمدخل الاجتماعي ، و ذلك بتشجيع الأسر على تعليم أبنائها وبناتها ودعمهم ماليا ،وهذا تحقق من خلال تنزيل العديد من البرامج الاجتماعية وسيتحقق أكثر مع الشروع في تنزيل مقتضيات القانون الإطار للحماية الاجتماعية، الذي يحتاج لمواكبة موازية من طرف الفاعليين الآخرين من جماعات ترابية وقطاع خاص ومجتمع مدني فعال للمساهمة في تقليص الظاهرة ورفع سقف المعرفة بمخاطرها، في أفق الحد منها مما يعزز جهود الدولة في بلوغ أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030 .