في التاريخ أبدا، ما كان الدم المراق غيلة وغدرا ليبرح حتى يفضح سفاحيه وغادريه، ولو تواروا دهرا طويلا في سراديب عتمات الزمن، تلك قاعدة أزلية في ناموس الحياة البشرية، ولأن الحياة مقدسة بقداسة الخلق الإلهي لها، وبحرمتها في ميزان الله، منذ أن يبرأها بداية، وإلى حين أن يقبضها وينزعها نهاية. مناسبة هذا القول، أن صدر لأحد قدامى حركة الشبيبة الإسلامية، كتاب مذكرات نكأ فيه الجرح الغائر الواشم لجبين الحركة الإسلامية بالمغرب، جرح اغتيال الزعيم اليساري عمر بن جلون، سنة 1975، تورط فيه بعض شباب هذه الحركة بأيديهم، بينما كانت عقولهم مسلوبة ومحكومة بأيدي الفاعلين الحقيقيين الرابضين وراء الأستار. ففي كتابه ذي العنوان "عائد من المشرحة"، الرائج حديثا، بسط الحاو أحمد قصة حياته منذ ارتباطه صغيرا بالحركة الإسلامية، مرورا بالمحاكمة الشهيرة بمحاكمة مجموعة ال 71 سنة 1984، والتي ناله فيها حكم بالإعدام، ثم مرورا بالنفق المظلم الطويل للاعتقال السياسي المرير، ورحلة السجون الكئيبة، وزنازن الإعدام المقيتة وجحيم عذاباتها، ثم انتهاء بالإفراج عنه وما بعده من خوض معارك الحياة الموجوعة بمخلفات المحنة وانسحاقاتها. الحاو أحمد العائد من المشرحة، خرج على الرأي العام بجديد لم يسبقه إليه أحد قبله، وهو إعلانه لشهادة تكشف بعض خبايا جريمة قتل عمر بن جلون، إذ أفرد لذلك فقرة طويلة، أورد فيها ما أسره له رفاقه في زنازن الإعدام، من العناصر التي ورطها من ورطها في هذه الجريمة النكراء، حينما أخبروه وباحوا له، بأن عبد الكريم مطيع وهو قائد الشبيبة الإسلامية، زارهم ليلة ما قبل الاغتيال وأمرهم بالقول: أقتلوه ولا تفلتوه. وهي شهادة صادمة، شهد بها شاهدون من أهلها، وهم جميعا لا زالت قلوبهم تنبض بالحياة، الشهود والمشهود له والمشهود فيه. شهادة بوح في لحظة وجع وفزع انتظار الموت، ففي زنازن الإعدام، يكون الرفيق الحميم للسجين هو الموت المرتقب في كل ليلة، وعند انبلاج كل فجر، الموت المتربص عند كل صرير لفتح الأقفال والمزاليج، عندها وفي غيابات هذا الهلع السرمدي، يصبح البوح بالمخبوء من الأسرار السادرة في بواطن الضمير، هو الترياق المشفي للقلوب والضمائر من سم الحريق المزمن المؤلم لانتظار الموت، البوح الذي تتحرر به الألسنة المعقودة، وتتحلل به القلوب الكظيمة لخفاياها من أحمالها وأثقالها وأوزارها. هكذا شهد شاهد من أهلها، وهكذا ستبقى الشهادات تنهال وتنثال في كل آن وحين، تنصب كما السهام الحارقة، تمزق الأستار، لتكشف الأيادي الخفية التي تلطخت بدم الشهيد عمر بن جلون، ليست الأيادي التي نفذت الجريمة، فأولئك الفتية البؤساء هم كانوا بدورهم ضحايا الغدر والاغتيال والخيانة، حينما أسلموا عقولهم ونفوسهم لشياطين الإنس، الذين نفثوا في روعهم سموم العدوان والباطل والكذب وزينوها لهم على أنها دين وإسلام. ولكنها الأيادي والعقول العفنة التي حبكت المؤامرة، وتلك التي نفذت المؤامرة بيعا ولؤما وأجرا حقيرا وضيعا. عمر، القائد المبرز ليسار الحركة الوطنية، اليسار الذي جسده الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فالاتحاد الاشتراكي من بعده، وكان عمر قلبه النابض وعقله الاستراتيجي الملهم، القائد النقابي المسكون بهموم الطبقة الكادحة المسحوقة، المحامي القدير الذي أهدر عمره المهني في مكابدة هم قضايا الاعتقال السياسي، وفي الترحال المكوكي بين المدن المغربية للترافع في محاكمها عن المعتقلين السياسيين، في وقت كان غيره من المحامين منشغلا بالترافع عن القضايا المستدرة للثروات الهائلة، الصحافي الألمعي الذي كانت افتتاحياته تقيم الدنيا ولا تقعدها، ينير بها حوالك ليل الزمن، ويرسم بها معالم المستقبل. عمر، الذي كان لا يخرج من سجن إلا ليعود إليه، ولا يفلت من حكم عليه بالإعدام، إلا ليتربص به ويطارده حكم آخر، هذا العملاق الذي انتصر جسده على مشرح التعذيب، وهزمت عينه مخرز الجلاد، وجد نفسه أمام أيدي من خرجوا من أصلاب حركة إسلامية فتية ومن عمق الشعب البئيس الذي يناضل ويكافح من أجله، وجد نفسه أمام هذه الأيدي تثخن جسده الصامد جراحا بخناجرها. لكن تلك الطعنات الغادرة كانت في نفس الوقت تثخن جسد الحركة الإسلامية جراحا غائرة، ولا تزال دامية لحد الآن. وما علمته وما عايشته أنا كواحد من أبناء الحركة الإسلامية، وشاهد على عصرها وأطوارها منذ ذلك الحين، أن دم عمر لم ينفك يلاحق هذه الحركة والتي تسمت واشتهرت بالشبيبة الإسلامية، يلاحقها على مر السنين، منذ سنة 1975، يحاصرها في كل ثنية وعند كل محطة، ويطاردها تدميرا وتشتيتا وتفسيخا. كانت قضية عمر بن جلون هي القضية المركزية على الدوام في وعي وسجال الحركة الإسلامية كما هي واقعيا، الشبيبة الإسلامية كما اشتهرت إعلاميا، وإلى سنة 1981، سنة نهاية الشبيبة الإسلامية، وكان دم عمر ينتصب في كل سنة صارخا في الصفوف، محولا هذه الصفوف إلى شراذم ومناكفات وخصومات وانشقاقات وفتن داخلية. وأجسر على القول علما وإدراكا عميقا أن تاريخ تحولات الحركة الإسلامية بالمغرب، بما فيها تجلياتها السياسية الراهنة، هو تاريخ مطاردة دم عمر بن جلون لها وصنعه لوقائعها، حتى ولم يحفل به الفاعلون الجدد لأوضاعها، ولازال الخنجر مغروزا في خاصرتها، ولازالت وصمة العار قائمة لم تنمحي بعد.