حل يوم الخميس 4 مارس 2021، على كلية أصول الدين بتطوان الدكتور يونس المرابط من أبناء مدينة تطوان المتخصصين في الاستشراق الإسباني مُلبيا الدعوة الكريمة التي تلقاها من فضيلة الدكتور أحمد الفراك، رئيس شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي والحضارة، وقد أتحف مسامع طلبة ماستر الفكر الإسلامي والحضارة بالمغرب بما فتح الله له في هذا المجال، بمحاضرة بعنوان "الاستشراق الإسباني البدايات والروافد وسياق العصرنة". بعد شكره السيد عميد كلية أصول الدين فضيلة الدكتور محمد التمسماني، ومنسق ماستر الفكر الإسلامي والحضارة بالمغرب الدكتور أحمد مونة، افتتح المحاضِر كلمته بمدخل ذَكَّرَ فيه بالبدايات الأولى لمصطلح الاستشراق في الأوساط الأكاديمية الغربية، الإنجليزية والفرنسية على وجه الخصوص، إلى أن ورد في المعاجم العربية لأول مرة مع معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا الذي يورد فعلها "استشرق" ويشرحه بكونه طلب علوم الشرق ولغاتهم واصفا الكلمة بأنها مُوَلَّدة عصرية تطلق على من يُعنى بذلك من "الفرنجة" على حد تعبير صاحب المعجم. وقد أشار الدكتور إلى أن مفهوم المصطلح ينبغي أن يُستمَد من المعاجم الأجنبية التي خرج منها، والتي تواطأت على نفس المعنى للمصطلح. ليقدم بعد هذا تحديدا إجرائيا للمصطلح باعتباره إسهاما لعلماء ومفكرين غير مسلمين، شرقيين وغربيين، في العلوم الإسلامية، وفي تقاليد الشعوب الإسلامية وعاداتها وآدابها، بغض النظر عن وجهة هؤلاء العلماء الجغرافية، وبقطع النظر عن مكان الشعوب الإسلامية من الأرض، وعن اللغة التي تتكلمها هذه الشعوب، بحيث يشكل المفهوم الآسيويين، بعامة، والأفارقة، والعرب من غير المسلمين، بخاصة. فكل عربي غير مسلم يتحدث عن الإسلام بالمنهجية التي يتحدث بها المستشرقون هو مستشرق، ويدخل في هذا المفهوم النصارى العرب واليهود العرب كذلك. وقد ناقش هذا التعريف الذي استمده من تحديد علي بن إبراهيم النملة ونجيب العقيقي… مبينا وموضحا من يدخل في دائرة المستشرقين ومن لا ينتمي إلى هذا الحقل المعرفي، مقدما أمثلة عن العديد من المستشرقين العرب النصارى من الموارنة وغيرهم؛ كآل السمعاني، لويس شَيْخو، ميخائيل الغزيري، عزيز عطية سوريال، وفليب حِتِّي، ومجيد قدّوري… ثم شرح كيف تم الالتفاف على المصطلح – بعد أن اكتسى دلالة سلبية بعد الانتقادات التي وُجهت للاستشراق، خاصة بعد صدور مجموعة من الأبحاث والدراسات التي شكل موضوعها الأساس (أعمال كل من أنور عبد الملك، عبد الله العروي، إدوارد سعيد) – وذلك في الدورة التاسعة والعشرين للمؤتمر الدولي للاستشراق بفرنسا سنة 1973 بعد 100 عام من انعقاده لأول مرة (سنة 1873) حيث قرر المؤتمرون تغيير هذا المصطلح والاستعاضة عنه ب: "مؤتمر العلوم الإنسانية الخاصة بمناطق العالم الإنساني"، وأصبح تجمعهم يحمل اسم: "الجمعية الدولية للدراسات الآسيوية والشمال إفريقية"، حيث تنصل هؤلاء من المصطلح تفاديا لما علق به بالنظر لأغراضه التي ارتبطت به في فترات تاريخية كارتباطه بالتبشير والحركة الاستعمارية والقراءة المغلوطة للتراث الإسلامي سواء عن قصد أو عن غير قصد… لكن على الرغم من الالتفاف على المصطلح فإن المضمون واحد، والمنهج والأهداف والمضامين هي هي. وقد قدم الأستاذ أمثلة على مجموعة من المستشرقين المتنصلين من مصطلح الاستشراق، سواء من المدرسة الإنجليزية، أو الفرنسية أو الأمريكية، أو الرومانية، والروسية…مركزا على أكثرهم تطرفا في التهرب من مصطلح الاستشراق، يتعلق الأمر ب: برنارد لويس الذي يمقت هذا الأخير ويدعو إلى رميه في مزبلة التاريخ لكونه يدل على الشتيمة والمماحكة الجدالية حسبه. وقد صار المستشرقون الإسبان على نفس النهج، مفضلين تسميتهم بالمستعربين بدل المستشرقين، إلا أن تبريرهم يختلف عن أولئك، باعتبارهم قصروا دراساتهم على التراث الأندلسي ونسبة هذا التراث لذاتهم الإسبانية، باعتباره يشكل جزءا من هذه الذات، وفي الوقت نفسه يشكل غيريتها، غير أن هذه الذاتية غير تامة لاعتبار الانتماء الديني لأصحاب ذلك التراث. وقد قدم أمثلة على تقديم المستشرقين الإسبان لأعلام أندلسيين ونسبتهم إلى إسبانيا غير أنهم مسلمين، كما هو الحال بالنسبة لابن حزم، وابن باجة، وابن مسرة القرطبي، وابن عربي المرسي وغيرهم… وقد وضح كيف أن مصطلح الاستشراق ينطبق على هؤلاء الباحثين ذلك أنهم وإن كانوا قد اقتصروا على دراسة الماضي الإسلامي لشبه جزيرة ايبيريا، أي الثقافة العربية الإسلامية بالأندلس، فإن هذه الثقافة من حيث هي كذلك في أصلها شرقية وجزء لا يتجزأ من هذه الثقافة. ثم عرج الأستاذ في محاضرته على بدايات الاستشراق الإسباني التي كانت مع بداية "شرقنة شبه جزيرة إيبيريا" حسب توصيف "خاسنطو بوش بيلا" Jacinto Bosh Vilà أي منذ التقاء النصرانية بالإسلام في الأندلس…كما وضح أهم روافده المتجسدة في الترجمة الأولى لمعاني القرآن الكريم بأمر من بطرس المبجل سنة 1143م، وترجمة رسالة عبد المسيح بن إسحاق الكندي في المجادلة النصرانية للإسلام والتي فصل فيها القول الدكتور محمد عبد الواحد العسري في كتابه"الإسلام في تصوات الاستشراق الإسباني…" ، إذ يعتبر احتضان بطرس المبجل لفريق من المترجمين، هو بمثابة الجهد المفتتح لتشكل الاستشراق الإسباني والعالمي في مطلع القرن 12 الميلادي بالأندلس. ثم تلا ذلك ترجمة القرآن الكريم إلى القشتالية وتلتها كذلك ترجمات أعمال أدبية وعلمية شرقية ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، هذه الفترة التي شكلت طورا دالا في مراحل تطور الاستشراق الإسباني خاصة مع المشروع الاستشراقي لألفونسو العاشر (العالم El sabio) حيث نشطت المجادلة والتبشير الدينيين، إذ كانت الغاية من معرفة الإسلام هي مواجهته وتصحيح نصرانية المستعربين مما علق بها جراء التقائها بالإسلام في الأندلس. وقد انحسرت الدراسات الإسلامية عن إسبانيا فيما بين عصر النهضة وبدايات الأزمنة الحديثة، لينبعث الاستشراق في إسبانيا من جديد مع مطلع القرن الثامن عشر، مع مدارس كل من خوسي أنطونيو كوندي، باسكوال دي غايانغوس، فرانسيسكو فرنانديث إي غونثالث وفرانسيسكو خافيير إي سيمونيت وغيرهم.. كانت البداية الجادة للاستشراق الإسباني المعاصر، حسبما وضح المحاضِر، في النصف الثاني من القرن 18م بعد استدعاء كارلوس الثالث لميخائيل الغزيري Miguel Casiri لفهرسة مخطوطات مكتبة الإسكوريال، تعتبر هذه الخطوة منطلقا للبحث والاهتمام بالتراث الحضاري والثقافي الأندلسيين. وبما أن الاستشراق الإسباني المعاصر متميز، فقد ذكر الأستاذ خصوصياته وحصرها في: 1. شكلت الأندلس موضوعه الأساسي، وقد استشهد بتقرير "ماريا خيسوس بيغيرا مولينس" María Jesús Viguera Molins في ندوة الاستعراب والدراسات العربية، بأنه ما بين سنتي 1770 و1790 أي في مدة عقدين صدر في إسبانيا 822 عملا شكلت الأندلس قضيته المحورية. 2. عدم ارتباطه بالحركة الاستعمارية كما كان الحال بالنسبة لنظيره الفرنسي والإنجليزي. 3. اهتمامه بالفكر الإسلامي الأندلسي بوصفه جزءا من تاريخ الفكر الإسباني. 4. نتاجه الفكري إسباني وإسلامي في الآن نفسه. 5. الفكر الإسلامي الأندلسي الذي اشتغل عليه لم يشكل بالنسبة إليه آخرا تام الغيرية. وضح الدكتور يونس المرابط بعدها كيف تطور الاستشراق الإسباني المعاصر حيث أسهمت في ذلك الظروف السياسية التي عاشتها إسبانيا وكذا السياق الدولي الجديد، فبعد المرحلة التي عُرفت بالقحط الثقافي El páramo cultural (أربعينيات وخمسينيات القرن 20) عرف انفراجا بداية الستينيات بعد عودة المثقفين الذين كانوا قد هاجروا من البلاد بعد استيلاء الجنرال فرانكو على الحكم وتسييرها بقبضة من حديد. وقد كان لبعض المؤسسات كالمعهد الإسباني العربي للثقافة الذي أنشئ سنة 1954م دور في هذه الحركية، خاصة بعد إعادة هيكلته سنة 1974م. كما كان لقانون الصحافة الجديد سنة 1966م دور في خلق هامش من الحرية والإبداع، كانت نتيجته إنشاء دور نشر كانت بمثابة فضاءات للتلاقح الثقافي، مما أسهم في ظهور إصدارات (أعمال ومجلات كالمنارة، وسلسلة الريان الصادرة عن الدار العربية...)، إضافة إلى الفضاء الجامعي؛ فبعد إنشاء شعبة الإسلام واللغة العربية بجامعة مدريد المستقلة سنة 1969م، شهد الوسط الأكاديمي ازدهارا في هذا النوع من الدراسات منفتحا على اهتمامات ومواضيع جديدة كالواقع السياسي العربي، والآداب العربية الحديثة، ومواضيع الهجرة، والإسلام في إسبانيا…وقد كانت سنوات بداية الثمانينات البداية الفعلية للاستشراق الإسباني المعاصر خاصة بعد الإعلان عن قانون الإصلاح الجامعي سنة 1985م، مما أدى إلى خلق العديد من الجامعات وإنشاء شعب وأقسام جامعية تعنى بالدراسات العربية والإسلامية، حيث تنوعت هذه الدراسات وتعددت، استجابة لحاجيات معرفية جديدة تأثرت بهذا المناخ الجديد من جهة، كما تأثرت بمختلف الأحداث التي شهدتها الساحة العربية، انطلاقا من الصراع العربي الإسرائيلي (منذ 1947 إلى 1973م)، مرورا بحرب الخليج الثانية (1990-1991م)، والحرب الأهلية في الجزائر (1991-1992م)، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وتفجيرات محطة القطار بالعاصمة الإسبانية مدريد (11 مارس 2004م)…تفاعلا مع كل هذه الأحداث كانت الحاجة ماسة للانفتاح على مواضيع جديدة تساير ما يشهده العالم من أحداث وبخاصة ما يقع منها في العالمين العربي والإسلامي. كما أوضح الأستاذ المحاضر أن هذا الاستشراق لم يكن ليزدهر لولا مؤسسات احتضنته ورعته وساهمت في نشر إنتاجاته العلمية، وتمثلت هذه المؤسسات بالإضافة إلى الشعب والأقسام الجامعية المذكورة، في مختلف المعاهد والمراكز والمدارس والمكتبات والمجلات والنشرات…سواء منها تلك التي أسستها الدوائر الرسمية أم التي أنشأها المستشرقون أنفسهم. وقبل أن ينهي، طرح الأستاذ المرابط تساؤلا إشكاليا متمثلا في مدى تخلص الاستشراق الإسباني المعاصر من مركزيته الأوروبية في نظرته للآخر الشرقي؟ وهل ظل وفيا لنظيره التقليدي، منهجا ورؤية وحكما؟ ليجيب بأنه على الرغم من أن العديد من الدراسات تمتاز بالموضوعية والبحث الرصين، وتوظف مناهج البحث العلمي بصرامة، ولا تركن إلى الخلفيات الدينية والعرقية…الضيقة، إلا أننا ما زلنا نشهد، للأسف، بعض الأقلام التي ما زالت وفية للنظرة الاستعلائية المتمركزة على ذاتها، والتي تنفي في أحيان عدة الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، أو تقلل من شأنه في التأثير في سكانها وفي النهوض بحضارتها والحضارة الأوروبية عموما أحيانا أخرى؛ بل إنها تستبعد أي عنصر إسلامي أندلسي في تشكل الهوية الإسبانية. وقد ختم الدكتور محاضرته بتوصيات رآها ضرورية وملحة فكانت مسك الختام، وهي: بذل المزيد من المجهود في دراسة الاستشراق الإسباني المعاصر. التعريف بالدراسات الاستشراقية الإسبانية في الوسط الأكاديمي. مد جسور التواصل مع مستشرقين وباحثين من الضفة الأخرى. ترجمة أعمال المستشرقين الإسبان المعاصرين. تأسيس شعب جامعية متخصصة في الدراسات الأندلسية. تأسيس وإرساء علم الاستغراب في الوسط الأكاديمي، ذلك أن الواقع الغربي يشهد العديد من الظواهر والأحوال التي تحتاج إلى الدراسة والتحليل. ليفتح المجال بعدها للمداخلات، حيث عبر الطلبة عن استفادتهم من الورقة المقدمة، مع طرحهم لأسئلة حول بعض ما ورد فيها، وأخرى حول بعض مضامين كتاب المحاضِر: "الاستشراق الإسباني بعد ميغيل أسين بلاثيوس". وبعد الأجوبة عما تم طرحه، شكر المحاضر مجددا الدكتور أحمد الفراك على دعوته الكريمة، والطلبة على حضورهم ومشاركتهم، الفعالة والمركزة. وبعد اختتام هذه المائدة العلمية، تفضل الدكتور يونس المرابط بتوقيع كتابه لفائدة الطلبة الذين شكروه بدورهم وقدموا له باقة ورد عرفانا منهم وتقديرا للمجهود المبذول. * إعداد: محمد الجيدي