يأتي هذا المقال في سياق الجدل القائم حول إقدام جماعة مكناس على كراء منتزه رياض العنبري (المغلق لسنوات) لمستثمر خاص (مجموعة سيتي كلوب). الحدث الذي خلق جدلا، نبحث عن حقيقة أمره من منظور علمي يُحكّم قواعد وأسس التدبير الحضري للمجالات العمومية، وللشأن المحلي عموما. ومتبعين في ذاك نهجا علميا موضوعيا يستند على وثائق مرجعية وعمل علمي ميداني. أولا- التعريف بالمشروع والجهة الاستثمارية المكلفة به: 1- مضمون مختصر للمشروع: يتمثل هذا المشروع في إقدام جماعة مكناس بكراء جزء من أرض منتزه رياض العنبري (حوالي 7 هكتارات من أصل 13) لمجموعة سيتي كلوب، لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد بثمن لحد الساعة غير معلوم بيد أنه غير محسوم، من أجل إحداث مرافق رياضية وترفيهية (قاعة كبيرة لرياضة كمال الأجسام، الملاكمة وفنون الحرب…، ملاعب كرة القدم، ملاعب كرة السلة، ملاعب التينس، مسبح، فضاء التزلج فضاء التنشيط الثقافي، مطعم…). يقدر الانخراط السنوي بحوالي 2500د. 2- التعريف بمجموعة سيتي كلوب: هي مجموعة خاصة تستثمر في مجال البنيات الرياضية المختلفة الموجهة لعدة فئات (نساء، شباب، أطفال) ومجالات الترفيه العصرية والاستجمام، بتقديم خدمات راقية بسومة تراها في متناول فئة عريضة (1800 درهم سنويا)، لكن بيد أنها تقصي ذوي الدخل المحدود أو غير القار. سطرت – هذه المجموعة- هدفا في مجال اللياقة البدنية والرياضة الجماعية منذ سنة 2018 يتمثل في إدخال 1.5 مليون مغربي إلى 150 ناديا في 56 مدينة، مع أكثر من 60 نشاطا وبمتوسط دفع شهري ما بين 150 و200 درهم، منها 60 ألف شخص بمدينة مكناس. 3- التعريف بمنتزه رياض العنبري: تقرّر إنجاز منتزه الرياض الترفيهي سنة 1994م، وبدأت الأشغال في نونبر 1995، في موقع تاريخي مهم، وهو ساحة الزويتينة ما بين المدينة العتيقة والقصبة الإسماعيلية. وقد شكل هذا الموقع جزء من مدينة رياض العنبري التي أسسها المولى إسماعيل وكانت مقرا لسكنى كبار رجالات الدولة حيث بنوا دورهم وقصورهم. تكلفت – حينها- جماعة مكناسة الزيتون بإحداث هذا المنتزه، وقد تضمن تصميمه عدة مرافق ترفيهية، ثقافية ورياضية (كما يوضح التصميم أسفله). تصميم تهيئة منتزه الرياض لقد خصّص صندوق التجهيز الجماعي لهذا المشروع قرضا قيمته 32 مليون درهم. وحُددت لإنجازه مدة سنتين. وبعد تعثر طويل استأنفت الاشغال سنة 2007 تحت إشراف الولاية، من أجل جعل المنتزه قابلا لاستقبال العموم عبر إنشاء المرافق الترفيهية بالخصوص والتي كلّفت 4.001.964.30 درهم (حسب ولاية جهة فاسمكناس – حينها- قسم الصفقات). فظلت الأشغال متقطعة والمنتزه صادّا أبوابه، إلى يونيو 2015م حيث تم افتتاحه، لكن سرعان ما تم إعادة غلقه إلى اليوم، حيث أريد طي هذا التعثر عبر آلية الشراكة مع المستثمر الخاص. 4- أسباب تعثر إنجاز منتزه رياض العنبري: لخص د. كنكورة في أطروحته عوامل تعثر هذا المشروع فيما يلي: تحفظ مفتشية المباني التاريخية والمواقع على طريقة التعمير بالمنطقة المخصصة للتجارة، مما تقرر معه حذف مطعمين ومسرح الهواء الطلق، ما يعكس صعف التفكير المعماري للقائمين على المشروع. عدم إجراء حفريات أركيويوجية للمنطقة، ما فاجأ المشروع بوجود لقى أثرية، دفعت إلى إصدار قرار عاملي بتاريخ 29 غشت 1996 يقضي بإيقاف الاشغال واعتماد الحفريات. إقامة المشروع على عقار ليس في ملك الجماعة كما ادعى رئيس البلدي بل لخواص. ما جعل الجماعة تباشر مسطرة الاقتناء والتعويض، التي ساهمت في تثبيت تعثر المتعثر. أكّد محضر اجتماع تحت رئاسة عامل عمالة الإسماعيلية حول المشروع، أن الدراسة المرتبطة بالمشروع كانت كلها خاطئة بما في ذلك دراسة الجدوى، وقدرت الخسائر بحوالي 10ملايين درهم سنويا (Journal L'opinion n° 13085 du 29-03-2001). حدوث خلاف بين المقاول والجماعة الحضرية بلغ إلى حد عرضه على القضاء وتداوله في منابر إعلامية، كما كان موضوع لجنة تقنية للافتحاص. شكل الموضوع مادة إعلامية، وموضع سجال مجتمعي (قدمت القناة الثانية برنامجا حول الموضوع سنة 2009، كما رُفعت عريضة من توقيع 135 جمعية وودادية مكناسية إلى كل الجهات المعنية قصد الحفاظ على الموقع كموروث بيئي وتاريخي). ثانيا: سجال حول المشروع، تعدد الرؤى والرهانات. من المعلوم بداهة أن أنماطر التدبير الجماعي مؤخرا قد تنوعت؛ حيث لم تعد حبيسة التدبير المباشر، بل ظهرت صيغ أخر من قبيل التدبير المفوض، والتدبير عبر الشراكات… ويعتبر ذلك – بحق- مدخلا مهمّا لتجويد الخدمة والرفع من نجاعة التدبير، إذ غالبا ما صاحب تدبير الجماعة المباشر لقطاعات معينة جملة مشوبات، بما في ذلك عدم انضباط المواطن للاتزاماته تجاه هذه الخدمة لا لشيء إلا أنها ذات إشراف عمومي، في حين يكون أكثر انضباطا لصيغ أخر. غير أن لجوء الجماعة إلى تخصيص كل الخدمات الأساسية وجعلها بين يدي أصحاب المال، يمنح المواطن شرعية القلق والرفض أحيانا. ولذلك وجدنا موقفين متعارضين حول الموضوع، نعرضهما قبل الإدلاء بموقفنا (الذي نعتبره ثمرة هذه الأسطر): 1- الموقف المساند: نشير بداية أن موقف المساندة لم يكن منحصرا على الأغلبية التي صادقت على المشروع، بل أكدته حتى بعض رموز المعارضة. فما هي مستندات هذه الموقف؟ يعتبر الموقف المساند هذا المشروع: فرصة لتجاوز تعثر مرير وتثمين فضاء شاغر، خاصة في ظل غياب موارد مالية لإعادة تأهيل الفضاء وفق شروطه وخدماته الأولى. مدخل مهم لترقية المدينة ومنحها رونقا خاصّا، لاسيما في مع افتقارها لمثل هذه الفضاءات الراقية الخدمة، العالية الجودة. آلية ناجعة لخلق دينامية اقتصادية في كل المنطقة المجاورة، التي ستصبح قبلة لمرتادين جدد، ما سيسمح بإقامة مشاريع موازية. ثمن استفادة المواطن من الخدمة سيكون أفضل بالمقارنة مع بعض القاعات الرياضيةبالمدينة (انخراط سنوي يقدر 1800 درهم). لا يتعلق الأمر بتفويت بل كراء فقط، يحتم على البنايات الممكن إنجازها مراعاة هذه الصيغة. ضمان مداخيل مالية جديدة للجماعة يستفيد منها التدبير الحضري للمدينة. أهم شيء هو فتح المدينة أمام المستثمرين، فأي تشديد وصرامة فجة مع الرأسمال ستفضي -حتما- إلى فرار الاستثمار حرمان المدينة من حركية اقتصادية وفرص جديدة للشغل. 2- الموقف المعارض: إن ما جعل موقف المعارضين يشتد إلى حدّ تجاوز التناول الموضوعي والواقعي (أحيانا طبعا)، ثلاثة أمور هي: الخصوصية التاريخية للموقع والقيمة الرمزية العالية له في نفوس الساكنة، التي تعتبر مقاسمته مع أي "غريب" – مهما فاض ماله- يشكل مسّا بجوهر المدينة، فالذاكرة والرموز لا تكون محط مساومة أو تفاوض، بل "مكانسة" أولى به. هل هذا الإحساس صائب أم لا؟ لست بصدد تقييم المواقف ولكنه إحساس موجود، وإلا كيف نفسر رفعهم شعار "مكناس ليست للبيع" وهم على علم تام بأن الأمر يتعلق بكراء فقط؟ وهذا ليس موقفا جديدا، فكم من مشاريع الدولة حاربتها قبائل مغربية لم يُراعى لها مواجيدها وقيمها الرمزية؟؟ التاريخ السيئ للمشروع الذي ترك في نفوس الساكنة حسرة كبيرة، لا يخفف منها سوى محاسبة صارمة لمهندسي هذا الفشل وفتح مجاني سريع لهذا الفضاء، وليس تكريس هذا الحرمان بصيغة أفظع، قطعت مع كل أمل وإن قل. إقصاء فئة اجتماعية كبيرة من فضاء طال انتظاره، ومن خدمة أصيلة الأولى فيها عموميتها ومجانيتها (النزهة والترفيه). الصيغة التي تم بها إقرار المشروع، بحيث خُصص لجهة بعينها منذ البداية دون أي منافسة. ثالثا: مشروع منتزه الرياض في ميزان أسس تدبير المجال العمومي: تنتمي المنتزهات التابعة للجماعة من الناحية القانونية إلى ما يسمى بالأملاك العامة، أي المخصصة للاستعمال العمومي دون حيازة، مع إمكانية التمتع بذلك (الحيازة) في إطار ما يسمى بالاحتلال المؤقت لمدة عشر سنوات قابلة للتمديد استثنائيا إلى غاية عشرين سنة. بمعنى أن النص القانوني لا يسمح بما يزعمه بعض المعارضين لمشروع منتزه الرياض من تفويت أو ما شابه. كما أن المنتزه كأحد مكونات النسق العمراني الحضري ينتمي إلى ما بات يعرف بالمجال العمومي (الذي يضم كل المجالات الحضرية المفتوحة: شوارع، ساحات، حدائق، مواقف سيارات… الذي أخذ اهتمام عدة علوم منذ التأسيس له مع المفكر الألماني "يورغن هابرماس". وعليه فقد تأسس المجال العمومي الحضري على ثلاثة مبادي هي (الهيلوش، م. 2014. ص 180). مبدأ المساواة: أي تمتع جميع الأفراد على اختلاف فئاتهم بنفس حقوق الولوج للمجال العمومي والتمتع به. مبدأ المجانية: يتجسد في عدم إخضاع الانتفاع العمومي بهذا المجال لأي مقابل مادي (رسوم أو إتاوات). مبدأ الحرية: يعني الاستعمال المباشر للمجال، طبعا مع احترام قواعد الاستعمال والمحافظة على مكونات المجال. إن فقْدَ أحد هذه المبادئ يمس -حتما- بجودة إطار الحياة، ويقوض أسس الاجتماع الحضري. بيد أن مشروع منتزه رياض العنبري بمكناس يفتقر لهذه الأسس، لكن هل هذا يعني حرمة الاستثمار في مثل هذه الخدمات و المجالات؟ طبعا لا. بحسب هذا التأسيس العلمي، فإن الاستثمار في مثل هذه المجالات والخدمات (الضرورية) وجب أن تكون وفق مُحددات؛ ففي حالة افتقار الساكنة للمجالات العمومية يحتفظ بالعقار العمومي لهذا الغرض تحقيق لمجانية هذه الخدمات الضرورية. وأما أن يُقام مشروع استثماري خاص على أنقاض مجال عمومي يفترض فيه تقديم خدمة أساسية شبه مفقودة في المدينة، فهذا منطق التدبير الحضري السليم، ويعكس -بحق- مكانة المجال العمومي المتدنية في تمثلات المدبر المحلي. إن البحث الميداني الذي قمت به، والمتعلق بالمجال العمومي لمدنية مكناس (جزء منه منشور في مجلة التخطيط العمراني والمجالي الدولية الصادرة عن المركز الديموقراطي العربي بألمانيا) أكد ضعفا كميا، ترديا نوعيا، وخللا وظيفيا بالمدينة. وحسبنا أن نشير أن نتائج الاستمارة التي ملأها 420 ساكن بمكناس، كشفت أن 69.7% من المستجوبين عبروا عن حاجتهم للفضاءات الخضراء أكثر من مجالات أخر. ختاما: بناء على ما سبق نقرّر أن كراء منتزه رياض العنبري بمكناس، يفتقر للأسس العمرانية الضابطة لتخطيط وتدبير المجال العمومي (وإن اكتملت شروط المشروع القانونية)، كما أنه – منهجيا- لم يقم على مقاربة ترابية تنبع من حاجات ومواقف وتمثلات الساكنة، إن الاستثمار يجب أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس، كما أن تلميع وجه المدينة لا يتأسس على حرمان غالبية ساكنيها. إنه مشروع يستحق – بنظري- تظافر جهود متزنة (لا سياسوية) لإيقافه، أو على الأقل تجديد التفاوض بشأنه في اتجاه "أنسنته" أكثر، من قبيل فتح منتزه مجاور للعموم، حُرمته أمس بسوء تدبير واليوم بضعف تبصر. عدا هذا فإننا سنكون أمام إجحاف لساكنة عريضة، لن يرفعه أي تبرير. المراجع: كنكورة، م. 2010. استراتيجية المحافظة ورد الاعتبار للمدن العتيقة بالغرب حالة مكناس من 1912 إلى بداية القرن 21. أطروحة لنيل الدكتوراه. جامعة سيدي محمد بن عبد الله. سايس- فاس. الهيلوش، م. 2014. إشكالية تهيئة وتدبير المجال العمومي بالمدن المغربية. منشورات الملتقى الثقافي لمدينة صفرو، الدورة الخامسة والعشرون. كنكورة، م. الهندي، ح. 2020. تخطيط وتدبير المجالات العمومية بالمدن الكولونيالية بالمغرب مدينة مكناس نموذجا (مقاربة جغرافية). مجلة التخطيط العمراني والمجالي. المجلد الثاني. العدد6. المركز الديمقراطي العربي. برلين- ألمانيا. محضر اجتماع تحت رئاسة عامل عمالة الإسماعيلية، حول مشروع منتزه الرياض، بتاريخ 23 فبراير 1999. بن التهامي، ح. 2001. مكناس منذ 1994 ومشروع منتزه الرياضبمكناس الزيتون معلقا. جريد العلم. العدد 18582. بتاريخ: 03-04- 2001. مقابلات مع فاعلين سياسيين محليين. استمارة البحث الميداني. BENMAHMOUD (H), Meknès Riad Park, un projet gelé et des milliards partis en fumé, in journal n° L'opinion 13085 du 29-03-2001. A.U. Meknès. Projet D'aménagement de Riad Park, situation comparative entre le CPS et les travaux réalisés, Document technique, 2005.