توطئة: ربما حدتني العاطفة القومية الفكرية، وأنا أتناول بالدرس والتحليل علما كبيرا من أهم أعلام الحضارة العربية الإسلامية على مر تاريخها. وهذا ليس بعيب أو نقيصة، بل هي نزعة شريفة تحثنا على التنقيب عن آثار الآباء والأجداد والتنويه بمناقبهم والإشادة بفضلهم في بناء صرح هذه الحضارة. ومن دون شك أننا اليوم في عالمنا العربي والإسلامي، في حاجة ماسة لاستعادة دور العقل في ريادة عملية التغيير، بعد أن ساد النقل لقرون طويلة أدت لحالة الجمود الحضاري أقعدت بالمسلمين وجعلتهم يقبعون في مؤخرة ركب الأمم بعد أن بلغوا شأوا كبيرا في التطور الحضاري، كانت ذروته من القرن الثاني ( الثامن الميلادي) إلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). على أنني هنا لا أقصد باحترامنا لماضي الأجداد هذا، تقديسه أو تحويله إلى دين جديد كما هو سائد في بعض الأوساط، بل قصدت أن نستلهمه فيما لا يتعارض ولغة وروح العصر الذي نعيش فيه. فعالم اليوم يتطور بشكل سريع وطفروي، فخير لنا إذا أردنا لشجرة حضارتنا أن تنمو وتثمر، أن نطعمها بمقتضيات الحضارة التكنولوجية الحديثة بدلا من أن تجمد وتصبح عقيمة عصية على التطور والتجدد. وقد قال قديما شاعر الهند العظيم طاغور في بداية القرن 20 م : ‘ إن مصباح الغرب مشتعل الآن فعلينا أن نقتبس من فتيله ونبدأ سيرنا من جديد في طريق الحياة …' ومن ثراتنا العربي القديم أقتبس قول الجاحظ في نفس الصدد : ‘ إذا رأيت رجلا يقول لك ما ترك الأوائل للأواخر شيئا فاعلم أنه يريد أن لا يفلح ‘. مناسبة هذا القول هو ما يلاحظ وفي وقتنا الآن، وعلى الرغم من مرور قرن من الزمان على قولة طاغور تلك، رفض طائفة كبيرة من العرب والمسلمين من إندونيسيا إلى المغرب، الانفتاح على الثقافة الغربية الى حد التوجس والغل، وكأننا مازلنا نراوح مكاننا ضدا على قوانين الطبيعة وتطور العمران. أو كأننا نعيش في مختبر محصن بعيدين عن المؤثرات الخارجية، بينما لنا في تاريخنا نماذج رائعة للتلاقح الحضاري بين حضارتنا وحضارات باقي الشعوب مثل : الفرس والإغريق والروم والفراعنة. فكيف إذن استساغت الحضارة العربية وهي في أوجها هذا الانفتاح على الغير، ويرفضه اليوم بعض العرب والمسلمين إلى حد الفوبيا؟؟؟؟ وهل تدري هذه الفئات أنها بهذا تحكم على الحضارة العربية الإسلامية بالاندثار والفناء؟؟؟. لنحاول أن نلقي ولو أحجارا قليلة في مياه الفكر الراكد لهذه المرحلة المفصلية من تاريخ العالم العربي الإسلامي : لا يشك اثنان على أن الفكر والعلم، كما الدين قديما، أكبر العناصر المحرضة على الحياة عند البشر وكذا على إبداع حضارة ما. وهي أيضا من أهم السمات التي ميزت الإنسان عن باقي الكائنات الحية الأخرى. كما لا نشك أيضا أن لكل حضارة بداية وذروة وانحطاط طبقا لنظرية العمران لابن خلدون . فنحن أيضا كنا أمة متحضرة مستوعبة لكل جديد يغني حضارتها. ولكن هذا الوضع لايدوم حسب منطق التاريخ، فكل الحضارات ترتفع وتنحدر. وللأسف نحن نعيش الآن حالة انحطاط حضاري مزمن لا ندري كيف نخرج منه. وقد بدأ منذ قرون أي منذ عصر المماليك وبلغ ذروته في عهد الدولة العثمانية. ونقصد هنا بالانحطاط الحضاري، الثقافي منه أساسا . فكل من عهدي المماليك والعثمانيين في الشرق ( ما يوازيه في الغرب الإسلامي أواخر العهد المريني إلى العهد السعدي )، كانت تمثل فعلا عصر قوة وبأس من الناحية العسكرية ولكن على المستوى الثقافي مثل عصر تدهور وأفول لكل مظاهر القومة العلمية والفكرية ، طبعا كانت هناك محاولات للنهوض لكنها لم تفلح. لماذا؟ لأنها لم تجد التربة المناسبة؛ فالبيئة الاجتماعية والسياسية لم تكن مهيأة لذلك، علما بأن النهضة كما هو معلوم، هي ارتفاع في منسوب الثقافة والتي تلقي بظلالها على كل مناحي الحياة، إذ تتيح للثقافة بالابداع والايناع، وتوفر الجو المناسب الذي يحفز المثقف والمبدع على الإنجاز والابتكار. فالثقافة بذلك، هي نتاج مادي وفكري وفني لشعب من الشعوب يعكس بحق البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع . وعندما نبحث في جذور أي نهضة حدثت لشعوب في الماضي كإيطاليا مثلا، فسنجد أن السبب الجوهري، هو انفتاح دويلات المدن الايطالية و إتاحتها الفرصة للفنانين والمفكرين بان يبدعوا ويعبروا بكل حرية، منهين بذلك فكر العصور الوسطى الكنسي الغالب والفلسفة المدرسية الجامدة، مع استلهام الفكر اليوناني القديم، وأكثر من ذلك عدم الوقوف عنده وتقديسه بل تجاوزه والتفوق عليه. المأمون رائد التنوير العربي الإسلامي بالنسبة لحضارتنا العربية الإسلامية، نلاحظ أنه إلى حدود القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) كان لا يزال هناك دفع حضاري واضح، والذي ظل متواصلا منذ القرن الثاني الهجري ( الثامن الميلادي). هذا القرن( أي القرن الثاني الهجري) شكل عصر تفتح الحضارة العربية و إيناعها بل يمكن الحديث عن معجزة حضارية عربية صرفة ، كما تكلم الغرب عن المعجزة اليونانية. وهنا لا نفرق بين مصطلح الحضارة العربية أو الحضارة الإسلامية، فكل ما أنتج باللغة العربية وفي الحواضر العربية في بغداد والبصرة وفيما بعد الأندلس، هي مراكز للإنجاز الحضاري العربي بامتياز أي حضارة عربية إسلامية. وللتذكير أن أكثر من أبدع في هذه الفترة، لم يكن من العرب بل كانوا من الفرس وآسيا الوسطى على الخصوص، مثل العالم الخوارزمي، الذي ما يزال أثره ماثلا إلى الآن في حياتنا المعاصرة. ولم يكن ليتأتى للخوارزمي ولغيره من مبدعي الثقافة والفكر العربيين ذلك، لولا الخليفة العباسي المأمون. هذه الشخصية العربية الإسلامية الفذة والاستثنائية التي جسدت نموذجا للحاكم المستنير الذي أحدث نهضة حضارية غير مسبوقة في أي مكان في العالم بل يمكن اعتباره رائد التنوير العربي الإسلامي المبكر، بحيث أنه في عهده لم يكن هناك تطرف في الدين ولا بادرة التكفير بالشكل المتعارف عليه اليوم. بل كان المجتمع العربي آنذاك أكثر انفتاحا وتسامحا الى حد ما، مما فسح المجال لنشوء عدة علوم وازدهارها : كالفلسفة وعلم الكلام بين الفرق المختلفة والعلوم الحقة كعلم الفلك والطب والجبر والكيمياء والبصريات… فالحاكم المستنير والذي يتمثل في المأمون كان جزءا مهما في هذا الجهد والحس الحضاريين. وكدليل على ما أقول أن الدفعة النهضوية الأولى التي بدأها، استمرت في عهد خلفه المعتصم، على الرغم من أن هذا الأخير لم يكن مستنيرا ولا مثقفا ولا راعيا للثقافة، ولكن استمر في نفس النهج. ففي التاريخ دائما نجد أن الحركة الأولى بحاجة الى متحرك، والمتحرك إذا لم يصطدم بشيء يوقف حركته، يستمر في التحرك طالما أن قوة الدفع الأولى لا تزال موجودة فيه. فالدفعة الأولى التي أعطاها المأمون للثقافة العربية استمرت إلى القرن الثالث والرابع الهجريين. وهذا هو سر الوهج الحضاري للقرون الثلاثة من تاريخ الحضارة العربية الاسلامية. شخصية المأمون فمن هو إذن الخليفة العباسي المأمون ؟ وكيف استطاع أن ينجز مشروعه التنويري المبكر هذا؟ المأمون هو عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس، ولد في سنة 170 ه وتوفي غازيا في 218ه (/786م – 833م) بطرسوس . عرف عهده ازدهارا ثقافيا ونهضة علمية وفكرية فيما يسمى بالعصر العباسي الأول وشارك فعليا فيها . فعندما توفي هارون الرشيد سنة 809م في خراسان عقدت البيعة لابنه الأمين وفقا لوصية والده التي نصت أيضا أن يخلف المأمون أخاه الأمين فيما بعد. إلا أن الخليفة الجديد سرعان ما عمد إلى خلع أخيه من ولاية العهد وعين ابنه موسى لهذا المنصب. وكان المأمون آنذاك في خراسان. فلما علم بما قام به أخوه أخذ البيعة من أهالي خراسان، وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، لتستمر الحرب أربع سنوات تمكن المأمون في الأخير من محاصرة بغداد والانتصار على الأمين وقتله عام 813م ليظفر بالخلافة العباسية. (مروج الذهب للمسعودي). لقد خضع المأمون، لتكوين تربوي وعلمي متين ومتنوع المشارب على يد أهم فطاحلة الأدب والعلوم في ذلك العصر: حيث تتلمذ على شيوخ الأدب واللغة كسيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك. وعرف برجاحة عقله وحبه للعلم والعلماء، حيث تبحر في الفلسفة وعلوم القرآن ودرس الكثير من المذاهب. كما اهتم ببناء المكتبات والمستشفيات وشجع على نشر العلم. وفي هذا الصدد يصف ثمامة بن أشرس النميري المأمون حيث قال فيه :' ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون ‘ وفي رواية أخرى خاطب يحيى بن أكثم والمأمون قائلا :' يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت كعلي بن أبي طالب في علمه ‘ وقصارى القول إن عصر خلافة المامون كان بشكله الاجمل هذا من أزهى عصور التاريخ الاسلامي . ولهذا قيل : ‘ لو لم يكن المأمون خليفة لصار أحد علماء عصره' حسب المسعودي في مروج الذهب دائما. بيت الحكمة وإشعاع التنوير العربي شكل "بيت الحكمة" المختبر المعرفي للتلاقح الفكري الحضاري الإنساني في فترة الخلافة العباسية. ومثل بالتالي مؤسسة معرفية ضمت إلى كونها مجمعا للترجمة، أماكن للدراسة والتأليف والبحث العلمي ومراصد لاكتشاف النجوم وتصنيفها برؤية فلكية علمية. وكان معظم المترجمين من اليونانية إلى العربية من طائفة السريان المسيحيين، وأشهرهم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين. فوعيا من الخلفاء العباسيين بأن السيطرة السياسية لدولتهم ليست كافية، وأن فرض النفوذ الثقافي هو جزء لا يتجزأ من بناء امبراطورية ناجحة لمنافسة الثقافة الفارسية والبيزنطية، ولإثبات قدرتهم على استيعاب التراث العلمي والفلسفي الاغريقي وعلى العناية بالثقافة الهلينيستية أكثر من البيزنطيين أنفسهم، خاصة في ظل القيود التي فرضها اللاهوت المسيحي على التفكير البيزنطي في ذلك الوقت. كذلك وجد المفكرون المسلمون في النصوص اليونانية وسيلة للدفاع عن الدين الاسلامي واستيعابه بطرق أكثر مرونة وقوة حجاجية لم تكن لتتوفر لديهم لولا تراث هؤلاء. تأسيس بيت الحكمة تأسس بيت الحكمة على الأرجح، أيام الخليفة هارون الرشيد على نهر دجلة في جانب الرصافة بالعاصمة بغداد. وهو اسم لدار علمية أو قل أكاديمية ومركز فكري عباسي كبير في عاصمة الخلافة بغداد. في البداية نشأ كمكتبة عندما جمع فيه البرامكة، كل ما وقعوا عليه من الكتب الهندية والفارسية واليونانية، أي ما يربو على 300 ألف كتاب. وسيولي المأمون عند توليه الخلافة العباسية بيت الحكمة هذا، رعاية وعناية خاصتين، حيث جعله مركز اهتماماته الثقافية والعلمية، ومنبرا لنشر مذهب الدولة المعتزلي القائم على تقديم العقل عن النقل. فغدا مركزا للترجمة ثم تطور الى مؤسسة للبحث العلمي والتأليف. ليصبح في الأخير دارا للعلم تقام فيه الدروس وتمنح فيه الإجازات العلمية. وسيتعزز بيت الحكمة بإنشاء المرصد الفلكي هو مرصد الشماسية الذي أنشاه المأمون بالقرب من بغداد. عين المأمون في البداية، سهل بن هارون على إدارة بيت الحكمة. وعين تباعا العالم المشهور محمد بن موسى الخوارزمي والعالم الفلكي يحيى بن أبي منصور قيما على خزانة بيت الحكمة المامونية. كما أحضر المامون حنين بن أسحاق لترجمة كتب الحكماء اليونانيين الى العربية ويحكي ابن أبي أصيبعة : ‘ أن المامون كان يعطي حنين هذا من الذهب زنة ما ينقله من الكتب الى العربية'. فانتعشت الترجمة إلى العربية من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية. وبذلك سيلعب المسلمون في شخص المأمون دورا في الحفاظ على التراث العلمي القديم. فهذا العلم الحديث الذي تنبني عليه الحضارة الإنسانية المعاصرة لم يكن لتقوم لولا علوم الأمس التي ساهم فيها المسلمون بنصيب وافر. فهم لم يأخدوا علوم وتراث الآخرين على حالتها بل أضافوا اليها وأخضعوها للتحليل والتكييف مع سياقاتهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وتطبيق تلك المعرفة في كافة المجالات التي تساهم في ازدهار الحضارة. من شدة ولع المأمون بالعلم والمعرفة أن رأى أرسطو في حلمه وهو السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة وترجمت إلى العربية وفي هذا الصدد يذكر ابن النديم في كتاب الفهرست أن المأمون : ‘ رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل جالس على سريره. قال المامون وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت من أنت؟ قال : أنا اريسطاليس فسررت به وقلت : أيها الحكيم أسألك ؟ قال : سل . قلت : ما الحسن ؟ قال : ما حسن في العقل . قلت : ثم مادا : قال : ما حسن في الشرع . قلت : ثم مادا ؟ قال : ما حسن عند الجمهور . قلت ثم مادا؟ قال : ثم لا ثم لا ‘ فكان هدا المنام من أهم الاسباب في اخراج الكتب وترجمتها. وقد بلغ شغف العلم مبلغه عند المأمون، عندما أرسل بعثة لحساب محيط الأرض اقتداءا ببطليموس. فأحب أن يتأكد من الأرقام التي ذكرها الفلكي الإغريقي بطريقة عملية. فشكل بعثتين علميتين للقيام بذلك سنة 399ه 1009 م على رأس الأولى كل من سند بن علي وخالد بن عبد الملك المروزي، والثانية ترأسها كل من علي البحتري وعلي بن عيسى الاسطرلابي. وجاء جواب البعثتين موافقا لقياس بطليموس بل قريبا جدا مما يعرف اليوم. كما أمر المامون بوضع خارطة للعالم سميت ب'الصورة المامونية ‘ أو ‘ الخريطة المامونية' وهي أول خريطة للعالم في عهد العباسيين يقول المسعودي في هذا الصدد وبتصرف : ‘ رأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ، وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس، وتفسير جغرافيا قطع الأرض … أحسن مما تقدم من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس …' لكن للأسف فإن خليفة المامون المعتصم لم يمش على هديه التنويري لأنه أولا : كان قليل المعرفة بالثقافة بحيث لم يول الاهتمام المطلوب لبيت الحكمة كما كان في عهد سلفه. وثانيا : لأن المعتصم انشغل عن ذلك بالنهج العسكري الجديد بجلب المماليك من الأتراك وتدريبهم. وثالثا : لأنه هجر العاصمة بغداد مركز العلم والمعرفة وانتقل إلى سامراء. فأصيب بيت الحكمة في مقتل وبنكسة علمية كان لها آثار بعيدة المدى على الفكر والتنوير العربيين، و استتبع ذلك فتور في حركة الترجمة. وما أن تولى المتوكل سدة الخلافة العباسية، دخل بيت الحكمة مرحلة الإهمال الممنهج، بالانقلاب على مذهب الدولة الاعتزالي وتحوله الى المذهب السني الأشعري. ثم ساهمت الفتن والحروب التي أعقبت خلافته في توقف إشعاع بيت الحكمة بالمرة، ليدخل مرحلة الجمود بسبب ضعف الخلفاء العباسيين وتبنيهم للمذاهب الدينية المحافظة. واستمر الوضع على هذا النحو إلى أن سقطت بغداد سنة656 ه على يد المغول ودخول هولاكو اليها، وتخريبه بيت الحكمة والقائه الكتب المخزونة في نهر دجلة "حتى فسد مجراه" كما وصف المسعودي في كتابه. أما البعض الآخر، فقضي عليه نتيجة الحرائق التي أشعلت في بيت الحكمة هذا. وبذلك اندثرت خزانة كتبها وذهبت معالمها مما شكل انتكاسة للتنوير الفكري العربي وإجهاضا له وهو قيد التكوين والتشكل. في الوقت الذي تم الانتصار للفكر المتشدد المعادي للثقافة والحضارة ككل. على سبيل الختم المفارقة الصارخة اليوم في عالمنا العربي، أنه وعوض الرجوع الى عصر التنوير الماموني، يفضل أغلب "المتأسلمين"، الرجوع إلى عصر السلف الأول، عصر الفتن والصراعات السياسية، ويجعلونه نموذجا مثاليا إلى حد التقديس. عصر حروب الردة وما اكتنفها من تجاوزات. وخلافة عثمان المثيرة للجدل والفتنة الكبرى في خلافة علي التي توجت بحدث التحكيم بين علي ومعاوية الذي أعاد طرح مسألة شرعية الخلافة في بيت الرسول، وأثار من جديد النعرات القبلية والصراعات والأسرية الكامنة لعرب ما قبل الإسلام. على أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين قد قضوا اغتيالا في هذه الفترة وهم : عمر وعثمان وعلي. فكل قوام فكر التطرف الديني اليوم، هو العودة إلى عصر السلف الأول هذا. هذه العودة لا تتناسب مع العصر ولا تسير وفق قوانين التطور. فالطبيعي أن هناك تطور نحو الأمام وليس إلى الخلف. وعليه فمن المنطقي أن نعي قوانين التطور هذه ونسير وفقها. فأي عودة الى الماضي تعني التطبيع مع التخلف ومعاداة المستقبل، إلا إذا كنا سنستلهم من هذا الماضي ما يفيدنا في الحاضر ولا نكتفي بالتوقف عنده فقط. حدث ذلك لكل الحضارات التي نهضت، فهي لم تعد إلى القديم لتستنسخه، بل عادت إليه لتستلهمه وتستفيد منه وتستثمر هذا المخزون الحضاري الغني لاستشراف المستقبل. هناك فرق بين الاستلهام والتقليد . إذن فمسؤولية النخب الثقافية اليوم، هو العودة إلى ما قبل عصر الظلام، لتفهم ماذا حصل بالضبط، وتبحث في أسباب ذلك وتستنطق التاريخ والآثار، لتستفيد منه في تقييم وضعنا الحالي، وتستلهم منه حلولا برؤية الحاضر. أما أن نظل سجيني الماضي وعبادته واستنساخه فهذا يصيب أي نهضة حضارية بانتكاسة عظمى بل بالأفول والزوال لا محالة . * المرجع الأساسي : كتاب مروج الذهب للمسعودي.