لم يعد مقبولا ولا مستساغا ربط تخلف الدول الإفريقية، بالاستنزاف المباشر لخيراتها وثرواتها الطبيعية أثناء الاستعمار الأوروبي. والسبب واضح، لأن أغلب دول افريقيا نالت استقلالها ما يزيد عن 50 سنة. وهي مدة كافية جدا، لإعادة هيكلة البيوت الافريقية، اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا. ولن تحدث التدفقات البشرية الافريقية من بلدانها الأصلية تجاه الشمال، كما وقع…ومازال يقع… ولكن، ذلك لم يتحقق في أغلب دول افريقيا. مع العلم أنه في أقل من هذه الحقبة التاريخية، تمكنت دول أسيوية من تحقيق الإقلاع الاقتصادي، بل تمكنت من غزو أسواق أمريكا وأوروبا بمنتوجاتها. وهنا أود أن أقدم بعض المسوغات/ الحقائق: " فضلت " الدول الأوروبية، فرنسا كمثال، التعامل الاقتصادي مع دول افريقيا، بشكل أحادي، وليس كتكتلات اقتصادية. وقد خاض المغرب، كبلد افريقي، مفاوضات عسيرة مع فرنسا ، لحثها على التفاوض معه بشكل متساو وعادل. وإقامة شراكة حقيقية، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الطرفين. ولنا أن نستحضر ملف الصيد البحري… وأما الحقيقة الثانية، فتتجلى في تحميل دول افريقيا وحدها، المسؤولية عن التدفقات المهولة بشكل انتحاري عبر القوارب وبطرق مختلفة للإنسان الافريقي تجاه اسبانيا ودول أوروبية أخرى. وكما سبق، في اتهام المغرب بعدم القيام باللازم لإيقاف زحف الهجرة السرية. وهو طرح مغلوط، مضلل للرأي العام الأوروبي. ويفنده حاليا، واقع حال العديد من إخواننا الأفارقة الذين أصبحوا يعيشون معنا في المدن الكبيرة والصغيرة. والحقيقة الثالثة، أن لهؤلاء الأفارقة كغيرهم والمغاربيون منهم، الحق في الحياة. والحق في الاتصال. وأي إجراء عنيف تجاههم، فهو مرفوض أخلاقيا وقانونيا. وهو خرق لحقوق الإنسان التي تنادي بها الدول المتقدمة. إن ظاهرة الهجرة من افريقيا تجاه أوروبا، تفرض الرجوع إلى أسبابها، حيث لا يمكن القفز على التاريخ، رغم اختلاف المرجعيات الفكرية، واختلاف الرؤى السياسية. فأوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، مدمرة البنيات الاقتصادية على الأقل، احتاجت بشكل قوي إلى سواعد اليد العاملة الأجنبية، لإعادة بناء اقتصاداتها. وشكلت قوة العمل الافريقية، نسبة هامة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أوروبا. فبنت الطرق والقناطر، وعملت في أوراش الصرف الصحي…..وكل الأشغال الشاقة. وبرأي الأوروبيين المهتمين بشؤون الهجرة، فمنذ بداية السبعينيات وإلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أثرت تدفقات اليد العاملة تجاه أوروبا بشكل إيجابي. غير أنه نظرا للصعوبات الاقتصادية والبطالة، لم تعد أوروبا تقبل المزيد من اليد العاملة الأجنبية بل حرصت على عودة المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية، وحاربت الهجرة السرية، وأدمجت نسبة هامة من الفارين، لتبرير عملية إغلاق الحدود. لكن الملاحظ، يسجل حضور العمال الأجانب في الاقتصاد الأوروبي، ولو في فترة عصيبة، كفترة السبعينيات من القرن الماضي التي ارتفعت فيها فاتورة البترول بشكل كبير جدا. والدليل على هذا الحضور، العدد الكبير للعمال الأجانب في بلد صديق، شريكنا الأول، فرنسا. فقد بلغ عدد العمال الأجانب في فرنسا سنة 1975: 331.000 عامل من أصل جزائري.، 306.700 عامل من أصل برتغالي.، 204.000 عامل من اسبانيا.، 199.200 عامل من إيطاليا.، 152.300 عامل من المغرب. أي أن مجموع العمال الأجانب بلغ سنة 1975، في فرنسا لوحدها: 1.900.000 عامل أجنبي، حسب " بييتر لندر" (Peter H. Linder) والمختص في الاقتصاد الدولي. وقد كان للشغيلة الأجنبية، المغاربية بالخصوص، حيث بلغ عدد العمال الجزائريين والمغاربة: 483.400 عامل في 1975، (كان لها) الأثر الواسع على اقتصاد فرنسا، رغم أن هؤلاء العمال كانوا يعانون من قساوة العيش بسبب تدني الأجور. ويعلم المهتم بشؤون الهجرة أنها ليست موضوعا جديدا، فقد انقسم الأوربيون بعد الحرب العالمية الثانية إلى مشجع، ومعارض لها. ففي بريطانيا، كانت معارضة النقابات للهجرة والمهاجرين، جد قوية. وعلى عكس ذلك، فتحت دول أخرى كاسبانيا، مكاتبا لاستقبال الأجانب، وراجعت قوانينها، آنذاك، بشكل لافت للنظر من حين لآخر لفض النزاعات بين العمال الأجانب والمواطنين الأصليين. وقد كانت مساهمة اليد العاملة الأجنبية، لا تقاس بنسبة الأجانب إلى الساكنة النشيطة. ولا نوافق الرأي الأوروبي للأستاذ " ميشيل ديروسي" الفرنسي، المهتم بشؤون التاريخ كمثال فقط، القائل إنه على خلاف مرحلة السبعينيات والثمانينيات ففي نهاية هذه الأخيرة وبداية التسعينيات من القرن العشرين، ارتفعت تدفقات المهاجرين، حيث إن ثلاثة توجهات طبعت الحركات الديمغرافية تجاه أوروبا وهي: السرعة، والعولمة، والجهوية. لا نوافقه الرأي، لأن السؤال الذي يتعين طرحه: من هي تلك الشريحة التي تم استقطابها في العقود الأخيرة من طرف أوروبا، وأمريكا أيضا، وتدعو كل الحكومات بشكل علني أو خفي إلى استقطابها؟ إنها طاقات الجنوب البشرية، الأدمغة العلمية، لأن اقتصاد العولمة مبني على المعرفة والتكنولوجيا المتطورة واليوم على الرقمنة، وليس مبني على الجهد العضلي كما كان الأمر في العشريات الثلاث بعد الحرب العالمية الثانية. وكأن الإنسان الإفريقي مجرد أدوات ووسائل لتحقيق رفاه الدول المتقدمة، يستعمله صناع العولمة متى شاءوا وكيف شاءوا. ويستغنون عنه متى شاءوا. إنه تشيئ الإنسان في زمن العولمة (la chosification de l'Homme). من جانب آخر، فقد لاحظنا، قبل مغادرة انجلترا للاتحاد الأوروبي، أنه كلما اتسعت رقعة الاتحاد الأوروبي، كلما قلت الرغبة في استقبال اليد العاملة الافريقية. واليوم، تزداد الرغبة الأوروبية في "الخلاص" حتى من المهاجرين المستقرين والمزدادين بفرنسا وغيرها. إن المطلوب، أن تصارح الأوساط السياسية والإعلامية في الشمال، ذواتها، بحقائق وتاريخ وأسباب الهجرة من افريقيا إلى أوروبا. وأن تستحضر أن إعادة بناء أوروبا المدمرة اقتصاديا واجتماعيا بعد الحرب العالمية الثانية، تم بسواعد أباء وأمهات هؤلاء الشباب من أصل افريقي الذي ازداد ونشأ وكبر بالدول الأوروبية ومنها خاصة فرنسا. ولذلك يستحقون الاهتمام والرعاية والمساواة في الحقوق المادية واللامادية. ولن يتحقق السلم والاستقرار في أوروبا من دون تجسيد التسامح الديني على أرض الواقع. إن الإنسان الافريقي طاقة بشرية ينبغي احترامها. وعلى مشكك، أن يتابع البطولات الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر، ليحتسب كم عدد الأقدام الافريقية المبدعة والساحرة، التي تسجل الأهداف. بل، تشكل أكثر من ثلث لاعبي الفريق الوطني لبعض الدول في البطولات الأوروبية والعالمية. وأخيرا، يتعين على الأنظمة الافريقية، خاصة اليوم ونحن نعيش، وسنعيش في السنوات القادمة، على إيقاع الانعكاسات الخطيرة لجائحة كورونا، (يتعين) أن تراجع أوراقها، وتتقوى اقتصاديا وسياسيا من خلال التكتلات الكبرى: بدءا من مرحلة التبادل الحر، ثم بناء السوق الافريقية المشتركة (…). والمطلوب، تسريع وثيرة إعادة بناء " الاتحاد الافريقي " على أسس جديدة قوامها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في كل بلد افريقي على حدى. ويمكن للمغرب، كما يتضح منذ رجوعه إلى بيته الافريقي، أن يقدم الكثير من أجل " افريقيا قوية ". * أحمد بلمختار منيرة/ إعلامي وباحث