لا يمكن للشعب المغربي إلا أن يفرح بالتطورات المتسارعة لصالح القضية الوطنية، والتي توجت بالإعلان الأمريكي الاعتراف بمغربية الصحراء وسيادة المغرب على كل أراضيه، و"فتح قنصلية بمدينة الداخلة، تقوم بالأساس بمهام اقتصادية، من أجل تشجيع الاستثمارات الأمريكية، والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما لفائدة ساكنة أقاليمنا الجنوبية". مما يعتبر عنوانا كبيرا دالا على مستقبل زاهر وقريب للقضية الوطنية. وبكل المقاييس فهذا التحول الاستراتيجي لصالح القضية الوطنية، والذي هو تتويج سياسة الحزم التي يقودها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، سيعزز من دون شك الديناميكية الدبلوماسية الواسعة والقوية التي يشهدها الملف مؤخرا، بما قد يعجل بالمعالجة النهائية له على مستوى مجلس الأمن. هذا التطور الذي أدخل السرور على قلوب المغاربة أجمعين، نغصه اقترانه بقرار الدولة المغربية تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، والتي تشمل، كما جاء في نص بلاغ الديوان الملكي ليوم أمس الخميس 10 دجنبر 2020، ( تسهيل الرحلات الجوية المباشرة لنقل اليهود من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب؛ استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الديبلوماسية في أقرب الآجال؛ تطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي. ولهذه الغاية، العمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002). وهذا التحول الصادم والمؤلم والمرفوض، سيلقى من دون شك رفضا واسعا من طرف مكونات الشعب المغربي الذي دأب على اعتبار قضية فلسطين قضيته، وقدم من أجلها عبر التاريخ تضحيات جسام، واستمر في نضاله من أجلها دون كلل ولا ملل وهو يقود شعوب العالم بمسيراته المليونية الشهيرة ضد الاحتلال وجرائمه. لكن ما العمل؟ وهل انتهى كل شيء؟ إن الأمر يتطلب التمييز المنهجي بين المكاسب الاستراتيجية لقضيتنا الوطنية وبين ثمنها الغالي المتعلق بالتطبيع. وهو التمييز الذي سيراهن أعداء الوحدة الترابية ولوبيات التطبيع الصهيوني وبعض المغامرين والفوضويين على التشويش عليه. من جهة أولى، لتأجيج الغضب الشعبي ضد الدولة بمحاولة كسر الاجماع التاريخي الذي ما يزال قائما بينهما حول القضية الفلسطينية. ومن جهة ثانية، بمحاولة إضعاف الدولة المغربية وابتزازها ودفعها لارتكاب حماقات ضد أبنائها الذين اختاروا التعبير عن موقفهم الرافض للتطبيع. وهو ما يتطلب من الجميع ضبط النفس والتصرف بوعي كبير، بعيدا عن الاتهامات الثقيلة والمجانية، وبعيدا عن التشكيك في النوايا، وبعيدا عن المواقف غير محسوبة العواقب. وفي إطار ذلك التمييز المنهجي، ينبغي التأكيد على أن الموقف المغربي لصالح التطبيع الرسمي مع "إسرائيل"، مهما كان مؤلما وصادما ومرفوضا، لا ينبغي أن يتحول إلى الشجرة التي تخفي غابة المكاسب الاستراتيجية لصاح قضيتنا الوطنية، وفي نفس الوقت لا ينبغي لهذه المكاسب المهمة أن تتحول بدورها إلى شجرة تخفي غابة معاناة الشعب الفلسطيني من ظلم الاحتلال الصهيوني، وتخفي تاريخ جرائمه الاستئصالية ضد الشعب الفلسطيني، وسياسة تهويد القدس الشريف، وسياسة المستوطنات المتنامية، وسياسة التقسيم، وسياسة حرمان الشعب الفلسطيني من أن تكون له دولة حرة مستقلة على أراضيه يعيش فيها بسلام… وإضافة إلى ذلك، لا ينبغي للمكتسبات الحيوية التي جناها المغرب من خطوته التطبيعية هذه، أن تخفي أيضا أو تضعف التزاماته التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، إلتزاماته شعبا وملكا وحكومة. ولا أن تخفي المكاسب التي تجنيها "إسرائيل" من مثل هذه الخطوات في غياب أي مقابل عملي من طرفها لصالح القضية الفلسطينية. وذلك التمييز المنهجي يفرض اعتبار استمرار الشعب المغربي وقواه الحية في رفض الخطوة التطبيعية أمرا طبيعيا ليس أكثر من الاستمرار في نهجه الطبيعي، واعتبار التحول الرسمي من التطبيع خطأ سياسيا ينبغي تصحيحه على المدى القريب أو المتوسط، وأنه ليس موقفا خيانيا يطعن في نوايا الفاعلين فيه أو في أصل إيمانهم بالقضية الفلسطينية. وما سبق يفرض مقاربة الجواب عن سؤال حيوي هو: هل تغير موقف الدولة المغربية؟ وهل تغير موقف جلالة الملك من القضية الفلسطينية على اعتبار أنه من قرر، بصفته رئيس الدولة، عدة تدابير تطبيعية مع "إسرائيل"؟ في بلاغ الديوان الملكي على إثر المحادثة الهاتفية بين جلالة الملك و الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، او في بلاغ الديوان الملكي على إثر المحادثة الهاتفية بين جلالة الملك والرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، نجد أن رئيس الدولة المغربية حرص على تأكيد أمر مهم وهو أن موقف المغرب المعروف والثابت والمتوازن من القضية الفلسطينية ومن وضعية القدس الشريف لم ولن يقع فيه أي تغيير. وحول التدابير التي اتخذها لتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" نجد جلالة الملك يؤكد للرئيس الأمريكي (أن هذه التدابير لا تمس بأي حال من الأحوال، الالتزام الدائم والموصول للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، وانخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط). كما شدد جلالة الملك، في حديثه من الرئيس الفلسطيني (على أن المغرب يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة… كما أكد جلالة الملك، بأن المغرب الذي يضع القضية الفلسطينية في صدارة انشغالاته، لن يتخلى أبدا عن دوره في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأنه سيظل كما كان دائما، ملكا وحكومة وشعبا، إلى جانب أشقائنا الفلسطينيين، وسيواصل انخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط). إن تصريحات رئيس الدولة المغربية، والتي حرص على أن تخرج للرأي العام موثقة في بلاغين منفصلين للديوان الملكي، سواء حول حديثه مع الرئيس الأمريكي أو مع الرئيس الفلسطيني، تؤكد أمرا هاما، هو أن التدابير التطبيعية التي انخرط فيها المغرب لن تغير موقفه الحقيقي من القضية الفلسطينية، بل إن رئيس الدولة المغربية، حين يتحدث عن موقف الشعب المغربي، فهو بذلك يجدد تأكيد طبيعة القضية الفلسطينية، والتي ليست قضية تدابير يمكن في أي وقت وقفها، بقدر ما هي قواسم إيمانية عميقة ومشتركة بين الشعب وملكه. إن موقف رئيس الدولة وطريقة تدبيره للملف يتطلب وقفة تأمل، سنعرضها في عدة أمور. وأول شيء ينبغي تسجيله في هذا الصدد، هو اختياره الوضوح المسؤول في تدبير قرار التطبيع، فقد اختار أن يتحمل هو مسؤولية ذلك القرار، وأن يعلنه بتفاصيله في بلاغ رسمي لديوانه. وكان بالإمكان أن يعطي تعليماته كرئيس الدولة للحكومة لتباشر تلك التدابير التطبيعية، ويجعلها في مواجهة الغضب الشعبي، وتتحمل وحدها المسؤولية أمام الشعب وأمام قواه الحية. لكن جلالته اختار الوضوح والمسؤولية. الأمر الثاني، الوضوح الملكي المسؤول يعزز مصداقية ما أعلنه في بلاغي الديوان الملكي حول ثبات المغرب في موقفه من القضية الفلسطيية، وأن التدابير التطبيعية لن تغير منها شيئا. وهذا أمر مهم جدا يعني أن تلك التدابير ليست قرارات استراتيجية، بل يمكن في أي وقت وقفها، كما سبق أن تم وقف مثيلات لها خلال سنة 2002، وهي السنة التي حرص بلاغ الديوان الملكي على التذكير بها بطريقة خاصة، وهو ما يجعل تلك التدابير التطبيعية تخضع لمنطق الظرفية، ولتطورات القضية الفلسطينية، وخاصة لسياسة "إسرائيل". الأمر الثالث، هو الوضوح في كون الأمر لا يتعلق بصفقة ضد القضية الفلسطينية، وقد كان بلاغ الديوان الملكي واضحا في هذا الشأن حين أكد جلالة الملك للرئيس الفلسطيني (أن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربية صحرائه لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة). وهذا يبعد التدبير المغربي عن منطق الخيانة والصفقات التي تكون القضية الفلسطينية ثمنها. الأمر الرابع، وهو أن جلالة الملك، وهو يتحدث عن ثبات الموقف المغربي، تحدث بلغة أكد فيها موقف الشعب المغربي من القضية، وهو ما يعني أن الدولة، وإن كانت قد قدمت تنازلا مرفوضا في القضية الفلسطينية، فإنها حافظت على ما هو استراتيجي فيها، وهو أن التحول في الموقف من التطبيع من طرف الدولة، لا يعني أبدا تحولها ضد الشعب المغربي حوله، مما يبعد ذلك التطبيع من أن يكون اختيارا استراتيجيا للدولة، وليبق مجرد إجراءات لا ينبغي أبدا أن تغير شيئا في علاقات الدولة والشعب حول القضية. وفي هذا الصدد حرص جلالة الملك على إعادة تأكيد اعتبار القضية الفلسطينية قضية وطنية مثل قضية الصحراء. الأمر الخامس، وهو نتيجة لما سبق، هو أن التطبيع المغربي الجديد، ليس صفقة سياسية مباشرة بين المغرب و"إسرائيل"، تكون الدولة مطالبة بموجبها بنهج سياسات قمعية ضد الشعب الرافض للتطبيع، واستئصالية للرافضين للتطبيع. بل هي تدابير واضح أنها ثمن الموقف الأمريكي من القضية الوطنية. وبلاغي الديوان الملكي واضحين في أن لا شيء تغير في موقف المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، من القضية الفلسطينية. وهذا أمر حيوي سوف لن يجعل النضال ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة سياسية تضطرب بسببها الأوضاع في المغرب، على غرار ما يقع في كثير من حالات التطبيع في أماكن أخرى. في ضل ما سبق هل تفرح إسرائيل بطول عمر التطبيع المغربي معها؟ ما سبق يؤكد، من جهة، متانة الموقف المغربي من القضية الفلسطينية. ومن جهة ثانية، يؤكد أن التدابير التطبيعية مع "إسرائيل" هي ثمن للموقف الأمريكي من القضية الوطنية وليس صفقة بين المغرب وإسرائيل تستتبعها سياسات قمعية تمس بالحريات. ومن جهة ثالثة، يؤكد أن الدولة المغربية لن تدخل في صراع مع المجتمع المدني والقوى الحية الرافضة للتطبيع، وأن النضال المغربي من أجل القضية الفلسطينية سوف يستمر بشكل أقوى. كما يؤكد ما سبق أن استمرار تلك التدابير التطبيعية متوقف على تطور الوضع في فلسطين، وأن أي تطور يمس بجوهرالقضية الفلسطينية سوف يسرع بوقف تلك التدابير التطبيعية، على غرار ما وقع سنة 2002، حين تعانقت الإرادة الشعبية وإرادة الدولة حول القضية. وإذا استحضرنا السجل الحافل لجرائم "إسرائيل" ومنطقها ووتيرة جرائمها، سندرك أن التدابير التطبيعية معها لن تدوم طويلا، وأنها في المدى القريب أو المتوسط على أبعد تقدير سوف تنهار. إن ما سبق لو تمعنت فيه بعض القوى الفلسطينية وبعض القوى الوطنية المناصرة للقضية الفلسطينية، وبعض كتاب الرأي ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، لما تسرعوا في إعلان مواقف فيها من الاتهامات المجانية والخطيرة ما هو مرفوض. ولأبدعت صيغا نضالية مسؤولة تناسب الوضع الجديد. إن النضال من أجل القضية الفلسطينية مطلوب منه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن يحول دون تحول التطبيع الاقتصادي المعلن عن بعض تدابيره إلى تطبيع شعبي يصيب القضية الفلسطينية في مقتلها بهذا الوطن الحبيب. إنه لا ينبغي لذلك النضال أن ينحرف بالدفع في اتجاه يضعف الدولة المغربية، لأن ذلك إنما يقوي لوبيات التطبيع ويفيد "إسرائيل"، ويعطي الزخم لحملات أعداء الوحدة الترابية للتشفي وتحويل الانتصارات فيها إلى انتكاسات، ولمحاولات التلاعب بالرأي العام المغربي قصد التحكم فيه. إن الخطوة التطبيعية الجديدة للدولة المغربية خطوة مرفوضة، نغصت على الشعب المغربي فرحته بالانتصارات القوية التي تحققت في ملف قضيتنا الوطنية، وتتطلب التراجع الفوري. كما تتطلب من القوى الوطنية المناضلة من أجل القضية الفلسطينية، الاستمرار في النضال المسؤول، بالشكل الذي لا يقدم للوبي التطبيع الدولة المغربية ضعيفة في طابق من أخطاء الانجرار خلف الخطابات العاطفية، وأن تدرك أن التحدي اليوم هو في الامتحان الذي سيكون جميع المغاربة أمامه، امتحان الاستمرار في مقاطعة التطبيع، وعدم اتخاذ أي مكتب اتصال إسرائيلي قبلة للشباب والباحثين عن وهم "جنة إسرائيل"، في انتظار وقف كل التدابير التطبيعية في القريب العاجل بحول الله. * حسن بويخف