بعد استنفاد حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جميع الوسائل القانونية لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية التي مالت بشكل واضح للمرشح الديمقراطي جو بايدن، فشل ترامب أن يقنع القضاء بأن هناك تزويرا واضحا جرى في هذه الانتخابات وأنه أولى بالانتصار من بايدن وكسب أصوات الأمريكيين بل إن كثيرا من الدعاوى أُسقطت لأنها لا تملك الأدلة الكافية لإعادة فرز الأصوات في جميع الولايات المتأرجحة، ورغم أن أغلب تلك الولايات الحاسمة قد أعلنت فوز جو بايدن إلا أن ترامب كعادته يكذّبها بشدة ويرسل تغريداته الواحدة تلو الأخرى يؤكد فيها أن جميع الأصوات التي جاءت عن طريق البريد هي أصواتٌ ملغاةٌ لأنها غير قانونية وقلبت موازين القوى في النتيجة النهائية ورجّحت تقدم جو بايدن بآلاف من الأصوات. وبعد أن رأى ترامب أن الكفة لا تميل إليه، بعد تصديق ولاية جورجيا على النتيجة النهائية هاجم الرئيس الأمريكي حاكم جورجيا بشدة رغم أنه جمهوري وهيّج مناصريه الذين تجمهروا بكثافة أمام البيت الأبيض لتأييده ورفض النتيجة بشكل قطعي، وقد جاؤوا بالآلاف من مدن عدة ليعلنوا ولاءهم التام لترامب، ويعارضوا ما أعلنته وسائل الإعلام الأمريكي من فوز محقق لجو بايدن، هم يريدون ترامب ويرون فيه الرئيس الحقيقي للولايات المتحدةالأمريكية وأن هيئة الانتخابات قد ظلمته ويشكّون في كل صوت ذهب لجو بايدن، هذه الحملات تضع الديمقراطية في مقتل، حيث لم نشهد من قبل أن قام أنصار رئيس أمريكي بالتصريح بأن الانتخابات مزورة ومسروقة وأن ترامب هو الفائز ولم نقرأ أن هناك رئيسا أمريكيا لا يعترف بهزيمته سواء كان جمهوريا أو ديمقراطيا بعد إعلان النتائج الأولية عبر المجمع الانتخابي. ما نشهده اليوم في أمريكا تحوّلٌ من الديمقراطية التي بدأت بها الانتخابات وجالت كل الولايات، إلى الدكتاتورية التي يمارسها ترامب والتهريج المتعمد والفوضى التي يريد أن يرسخها من خلال حشد أنصاره والمطالبة بالإعلان عن فوزه في هذه الانتخابات، فترامب يجسد شخصية الدكتاتور الذي لا يؤمن بالربح والخسارة بل يؤمن بالربح فقط، وأن الخسارة ليست في قاموسه ولا في أجنداته، لأنه ببساطة يتعامل في البيت الأبيض مع الملف السياسي وكأنه ملف تجاري، لا يقبل فيه بالمساومة والخسارة بل بالربح المحقق بكل السبل والوسائل، وعلى هذا كان ترامب واثقا من نفسه أنه سيفوز بعد أن رأى الحشود الكبيرة التي كانت تؤيده، ولذلك سنشهد في الولاياتالمتحدةالأمريكية فصل شتاء ساخنا على ما أعتقد، وربما يتطور الأمر إلى أخطر من ذلك. ومن خلال هذا المشهد الهزلي السياسي يبدو أن أمريكا فقدت بوصلة الحرية والديمقراطية وأصبحت تنحو منحى العنصرية والدكتاتورية، وترسيخ الفوضى والشعبوية وصعود اليمين المحافظ المتطرف وتأجيج الصراع بين هذا الفريق والفريق الديمقراطي الذي مازال متمسكا بالحلول الديمقراطية وبلغة جمع الشعب على كلمة سواء جمهوريين وديمقراطيين، وكأن ترامب كان رئيسا للجمهوريين فقط بمعزل عن الديمقراطيين الذين يكرههم ويستهزئ بهم، وبدأ يشعر ترامب بجنون العظمة حينما اقتنع كليا أنه ينبغي أن يكون الفائز وهذا خطير جدا، لأنه قلب موازين القوى في الولاياتالمتحدةالأمريكية وجعل الديمقراطية في خطر كبير وتراجعت الأصوات التي تنادي بالعدالة والحرية والمساواة وغيرها. وإذا تواصل هذا التشنج الكبير بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي، فقد يؤدي ذلك حتما إلى حرب أهلية مدمرة بين أنصار الرئيس وأنصار الرئيس المنتخب، وإذا مارس ترامب جنونه وأصرّ على موقفه وراهن على المحكمة العليا حتى تصدر حكمها النهائي فإنه سيكون الرئيس الأمريكي الأول في التاريخ الذي تشهد فصول حملته الانتخابية جدلا كبيرا وإثارة غير عادية، مما يوحي بخروج العملية الديمقراطية عن سكّتها والدخول في نفق كبير لا خروج منه إلا بصعوبة بالغة. ولا شك أن تأثير هذا السلوك سيمتد إلى خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية وستتأثر دول عدة بهذا النهج الدوغمائي للحكم في البلاد، حيث عمل ترامب على سنّ سنّة جديدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وقد يسعى إلى تغيير الدستور الأمريكي من نظام يحدد مدة الرئاسة بأربع سنوات بولايتين إلى نظام يجعل من الرئيس قائما على السلطة مادام الشعب يريده، وقد سبق وعبّر عن رغبته في ذلك قبلُ، لكن قوبلت فكرته بالرفض المطلق، ولذلك هو يعمل اليوم من أجل تقويض الدستور الأمريكي الذي سار عليه الأمريكيون عقودا بل قرونا من الزمن ومضى قبله أربعة وأربعون رئيسا كرسوا معنى الديمقراطية المزعومة، وهاهم اليوم يصطدمون برئيس يرفض هذا الدستور ويضعه جانبا ولا يبالي به من أجل أن يبقى هو رئيسا على أمريكا مدى الحياة. فأمريكا اليوم مقبلة على حرب أهلية وتفكّك كبير بعد ظهور حركات متطرفة وشعبويات متعجرفة، وعقول لا تعي المعنى الحقيقي للحرية والديمقراطية، بل تنمو وتعشّش فيها أفكار سوداء تعزّز العنصرية، هذا الفكر الخطير أيضا يمكن أن يؤدي إلى انفصال تاريخي لبعض الولايات وبالتالي إلى تفكك الاتحاد الأمريكي كما تفكّك قبله الاتحاد السوفييتي، ولعل ما نشهده اليوم مقدمة له.