تمهيد : من نافل القول أن وباء كورونا المستجد -كوفيد 19-أثر سلبيا على مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية عبر العالم، مما سيفرض حتما ملائمة هذه السياسات التي تم وضعها وفق محددات الإنفتاج و الاندماج العالميين، بل يمكن أن يتجاوز الوضع ذلك إلى حد إعادة تحليل نظرية الرأسمالية وعلاقتها بالعولمة في سباق البحث عن نظام عالمي جديد. وأمام الانتشار الواسع للعدوى الجديدة، برز على مستوى النقاش الدولي سؤال حكامة منظمة الصحة العالمية ، خاصة أمام تزايد الانتقادات من طريقة تدبيرها لهذه الجائحة الجديدة، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدةالأمريكية باعتبارها المساهم الأكبر في هده المنظمة إلى تعليق تقديم دعمها السنوي الذي يقدر ب 400 مليون دولار. و تأتي الخطوة في سياق الصراع مع الصين في مجالات التجارة العالمية والصناعة الذكية ، وقد واكبت هذه الخطوة دعوات من بعض الدول الغربية إلى القيام بمراجعة جذرية و إصلاح هيكلي داخل المنظمة التي تأسست سنة 1948 بعد الحرب العالمية الثانية، و تتعمد القوى العظمى ادخال صراعاتها المستمرة في سياسات المنظمات الدولية مما يعيق الاستجابة لحجم التحديات المعاصرة، خاصة أمام التزام الدول بالتوصيات الواردة في خطة الأممالمتحدة للتنمية المستدامة 2015-2030، باعتبارها محور العمل الإستراتيجي الدولي حيث حددت سبعة عشر هدفا للتنمية المستدامة. وفي هذا الصدد التزم المغرب سنة 2015 بتنفيذ مضامين الخطة الأممية، وقد أكد جلالة الملك على ذلك في خطابه بمناسبة انعقاد الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 30 شتنبر 2015 ، كما أن البرنامج الحكومي 2016-2021 يتضمن تكريس الانخراط في الجهود الأممية المرتبطة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وبحكم انتشار وباء كورونا المستجد بالمغرب ، يبقى الهدف الثالث من الخطة الأممية المذكورة و المتعلق بتمتع الجميع بأنماط عيش صحية و بالرفاهية، رهانا يسائل مدى جاهزية السياسة الصحية الوطنية في هذا الظرف الاستثنائي، علما أن الإجراءات التي اتخذتها لجنة اليقظة الاقتصادية في مواكبتها لهذا الوضع المستجد ستحد لا محالة من آثارهذا الوباء، خاصة الاقتراحات المتضمنة في التوجيهات العامة لإحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا ''كوفيد 19'' لفائدة المقاولات و الأشخاص المتضررة من تفشي الفيروس الخطير. فما مدى فاعلية الآليات الوطنية في التنزيل الأمثل لخطة الأممالمتحدة خاصة في المجال الصحي؟ وما موقع الرصد الوبائي في إدارة الأزمة الحالية؟ لتحليل هذا الموضوع يجدر السير وفق التصميم التالي : الفقرة الأولى : حدود تفعيل المغرب للالتزام الدولي الخاص بالهدف الثالث من برنامج الأممالمتحدة للتنمية المستدامة. غني عن البيان أن المصادقة على الاتفاقيات الدولية تسمو على التشريعات الوطنية بمجرد نشرها بالجريدة الرسمية، حسب تصدير دستور 2011، بل تم الارتقاء الدستوري ببعض الحقوق ذات الصلة بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وضمان حمايتها القانونية في التشريع الوطني. فالفصل الواحد والثلاثون (31) من الدستور يعد مرجعية لمصادقة المغرب على برنامج الأممالمتحدة للتنمية المستدامة والمعتمد من لدن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد تبنى في تفعيله لهذا الالتزام الدولي، الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة والتي صادق عليها المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 25 يونيو 2017. و يشكل ظهور وباء كورونا المستجد -كوفيد 19- و انتشاره بالمغرب بيئة لتقييم السياسة الصحية الوطنية، وما يرتبط بها من مدى تحقيق الهدف الثالث من الخطة الأممية للتنمية المستدامة، و في هذا السياق فالمنظومة المؤطرة للسياسة الصحية الوطنية يرجع تنظيمها الى عدة قوانين منها : الظهير الشريف رقم 1.02.296 القاضي بتنفيذ القانون رقم 65.00 بمثابة مدونة التغطية الصحية الاساسية والصادر بتاريخ 3 أكتوبر 2002. الظهير الشريف رقم 1.11.82 الصادر بتنفيذ القانون الإطار رقم 34.09 المتعلق بالمنظومة الصحية وبعرض العلاجات بتاريخ 2 يوليوز 2011. المرسوم رقم 2.14.562 بتطبيق القانون الإطار رقم 34.09 المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات – الخريطة الصحية والمخططات الجهوية بعرض العلاجات-بتاريخ 24 يوليوز 2015. المرسوم رقم 2.15.447 بتطبيق القانون 131.13 المتعلق بمزاولة مهنة الطب بتاريخ 16 مارس 2016. المواد 94 -79 – 83 من القوانين التنظيمية المتعلقة على التوالي بالجهات والعمالات والأقاليم والجماعات و الصادرة بتاريخ23 يوليوز 2015 . مخطط الصحة 2025 في يوليوز 2018. المخطط الوطني لليقظة والتصدي لمرض -كوفيد 19- الذي وضعته اللجنة الوطنية للقيادة الخاصة بتتبع فيروس كورونا المستجد بتاريخ 4 مارس 2020. مرسوم قانون رقم 2.20.242 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها بتاريخ 23 مارس 2020. مرسوم رقم 2.20.293 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا كوفيد 19 بتاريخ 24 مارس 2020. باستقراء هذه النصوص القانونية نستشف أن المغرب من خلال مصادقته على الخطة الأممية للتنمية المستدامة يوجد في سعي جدي لتنزيل أمثل لأهداف هذه الخطة ، خاصة بلوغ الهدف الثالث المرتبط بالمجال الصحي، فاعتبر الرعاية الصحية و مكافحة الأمراض العابرة للحدود من مسؤولية الدولة، بل جعل الحق في الصحة موضوع حماية أوفر في ظل اعتماد البعد الجهوي و سياسة القرب وفق مبادئ الجهوية المتقدمة . غير أن الواقع الصحي قبل اجتياح جائحة كورونا -كوفيد19 – كانت تحكمه التجاذبات السياسية لاعتبار الصحة العمومية قطاعا اجتماعيا مهما، ولم يحظ بالعمل الجدي الكافي مما نتج عنه تراكم في الاختلالات الهيكلية و تنامي حجم الخصاص، إلى درجة تقوية نزعة صرف النظر عن الخدمة العمومية و توجيهها إلى القطاع الخاص . إن الإشكال الحقيقي الذي يواجه المغرب في سياق الالتزامات الدولية يكمن في الاكتفاء بسن النصوص القانونية وتعطيل تفعيلها إلى حين انعقاد مناسبة وطنية أو دولية، الأمر الذي يجعل ترتيب المغرب في عديد المؤشرات العالمية لا يعكس نوعية المنظومة القانونية التي تهم تلك المؤشرات. كما أن القطاع الصحي غير قادر على تلبية حاجيات المواطن من العلاجات الطبية من جراء النقص الحاد في الموارد البشرية وسوء توزيعها ، بالإضافة إلى تحديات حكامة المنظومة الصحية، وقد كان لتقرير الخمسينية باعتباره إطارا مرجعيا للسياسات العمومية المختلفة السبق في تحليل الوضعية الصحية حيث أكد التقرير ،كون بلادنا لم تستطع وضع منظومة للتعامل مع أمراض البلدان الإفريقية لتجد نفسها في مواجهة صعود أمراض الدول الغنية ، علاوة على تسجيل التفاوت في الولوج إلى الخدمات العلاجية وضعف مستوى الإنفاق العمومي في مجال التغطية الصحية الجماعية والخاصة ، و تشكل الدعوة إلى وضع نموذج تنموي جديد مناسبة لإعادة تأطير التدخل العمومي في ميدان الصحة العمومية وفق توصيات تقرير الخمسينية و تحديات الواقع المستجد. لكن في المقابل فانتشار العدوى الجديدة بالمغرب جعل القطاع الصحي محل اهتمام جماعي بنفس وطني، وتم الرفع من ميزانية وزارة الصحة عبر مخصصات الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا كوفيد 19 وذلك لاقتناء المعدات الطبية اللازمة، وتحسين آليات التنسيق والتتبع. وتجدر الاشارة إلى أن تفعيل بلادنا للاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة المعتمدة سنة 2017 يتم عبر توجيه السياسات العمومية لوضع مخططات قطاعية تنسجم مع أهداف الاستراتيجية الوطنية ، و في هذا الإطار فقطاع الصحة استطاع بلورة مخطط الصحة 2025 أواخر يوليوز 2018، في وقت وقعت وزارة الصحة قبل ذلك استراتيجية التعاون مع منظمة الصحة العالمية والممتدة بين 2017 -2021 ، والتي تشكل إطارا الشراكة بين المغرب و الأممالمتحدة. وتقوم هذه الاستراتيجية على أربعة محاور: ضمان الولوج العادل للخدمات العلاجية. تقليص التفاوتات الصحية. تقوية الوظائف الاساسية للصحة العمومية والسلامة الصحية. تعزيز الحكامة في القطاع الصحي. وتبعا لذلك فمخطط الصحة 2025 أفضى إلى وجوب اعتماد ثلاث دعامات أساسية وخمسة وعشرون(25) محورا، ومئة وخمسة وعشرين (125) تدبيرا. و نتيجة لذلك فتحقيق الهدف الثالث من الخطة الأممية للتنمية المستدامة الخاص بالمجال الصحي، كان عبر الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة و التي تمت بلورتها في القطاع الصحي في إطار هذا المخطط و كذا عبر المخطط الوطني لليقظة و التصدي لمرض كورونا -كوفيد 19- السالف ذكرهما. الفقرة الثانية: مدى جاهزية الرصد الوبائي في السياسة الصحية الوطنية استنادا على دستور منظمة الصحة العالمية فمفهوم الصحة يقصد به حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض أو العجز، ويعد دستور المنظمة آلية دولية لتنظيم التدخلات وتنسيق الجهود وتحديد الأهداف للارتقاء بالعمل الصحي عبر العالم، حتى تبلغ الشعوب أرفع مستوى صحي ممكن، وقد أقر مؤتمر الصحة العالمي المنعقد بمدينة نيويورك ما بين 19 يونيو الى 22 يوليوز في سنة 1946 هذا الدستور، ودخل حيز التنفيذ بتاريخ 7 أبريل 1948 والذي اعتمد يوما عالميا للصحة. ومنظمة الصحة العالمية هي سلطة التوجيه والتنسيق في منظومة الأممالمتحدة في مجال الصحة على المستوى الدولي. إن افتقار الدول إلى سبل الرصد والتأهب لمواجهة الأوبئة دفع بمنظمة الصحة العالمية إلى وضع مسودة الخطة الاستراتيجية العالمية لتحسن آليات الرصد والتأهب في مجال الصحة العمومية بتاريخ 11 أبريل 2011، والتي تعد بمثابة وثيقة مرجعية للرصد والتأهب للدول الأعضاء بالمنظمة. ومن هذا المنطلق تحضى سياسة الرصد بأهمية أممية نظرا لتوسع نطاق بروز الأوبئة من جراء التراجع الحاد في الأنظمة البيئية عبر العالم، وتنامي مستويات الفقر إضافة إلى اعتلال المنظومات الصحية في عديد الدول المتواجدة ببؤر الصراعات، مما أثر سلبا على المجهود الأممي لتطوير أنماط البحث العلمي في ميادين الصحة العمومية بهذه البلدان. و لهذه الغاية تم احداث المجلس العالمي لرصد التأهب من أجل تفعيل الاستراتيجية العالمية لتحسين تأهب الصحة العمومية، ويتيح إحداث هذا المجلس اطلاع الدول الأعضاء بالمنظمة على الأساليب الممكنة لتقوية أنظمة الوقاية من الأوبئة العابرة للحدود، غير أن ظهور وباء كورونا المستجد –كوفيد 19- و انتشاره بجل الدول وضع استراتيجية منظمة الصحة العالمية على المحك، خاصة أمام تراخي الدول الأعضاء في الاستجابة للمضامين الواردة في الاستراتيجية المذكورة -استراتيجية تأهب تحسين الصحة العالمية- وعلى صعيد المنظومة الوطنية، فالمخطط الوطني لليقظة والتصدي لمرض كورونا –كوفيد 19- يتضمن بعض الإجراءات الخاصة بالرصد الوبائي والطبي، بل إن القانون المتعلق بالمنظومة الصحية و بعرض العلاجات لا سيما المادة الرابعة منه تلزم الدولة بنهج سياسة مشتركة متكاملة ومندمجة بين القطاعات في مجال الوقاية الصحية و تهدف على الخصوص إلى : رصد مكافحة الأخطار المهددة للصحة . مكافحة انتشار الأمراض المتنقلة عبر الحدود. ونتيجة لذلك فالالتزام القانوني للدولة يفرض التوفر على سياسة وطنية للرصد و الوقاية، وليس الاكتفاء بسن إجراءات استثنائية لمحاصرة الأوبئة، فانتشار جائحة كورونا المستجد المهددة للأمن الصحي الوطني تغدو معه الحاجة ملحة إلى تجنيد كافة الفاعلين بهدف وضع سياسة وطنية للرصد الوبائي تفعيلا للالتزام الدولي و القانون الوطني، وذلك باشراك الخبراء الوطنيين و علماء الأوبئة المغاربة بالخارج. فالرصد الوبائي اليوم يتلقى بعض الصعوبات مما يعيق جاهزيته وقدرته على الوقاية، الأمر الذي نتج عنه بروز عدة نواقص في إدارة الأزمة الصحية الحالية ، إن مديرية الأوبئة و محاربة الأمراض بوزارة الصحة باعتبارها ذات الاختصاص في هذا المجال، فعلى الرغم من مجهوداتها فمن اللازم إعادة تنظيم عملها وتوسيع قاعدة اختصاصاتها، مع احداث مؤسسة مساعدة لها يمكن أن تحمل اسم المركز الوطني للرصد الوبائي لتقوم بتنفيذ السياسة الوطنية للرصد الوبائي حال اعتمداها . المراجع : تقرير خمسين سنة من التنمية البشرية و آفاق سنة 2025. التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي لسنة 2014 و لسنة 2016 . الموقع الرسمي لرئيس الحكومة . الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية. الموقع الرسمي للأمم المتحدة. الموقع الرسمي لوزارة الصحة المغربية. الموقع الرسمي لوزارة الطاقة و المعادن و البيئة – قطاع البيئة – الموقع الرسمي للأمانة العامة للحكومة. * باحث في السياسات العمومية