ما يحدث الآن في الولاياتالمتحدةالأمريكية من توجيه سهام الفوضى وشرارة الاحتجاجات إلى الأمريكيين “ذوي البشرة السوداء”، يجرنا إلى استحضار محطات بارزة من التاريخ الأمريكي الطافحة بالنضال ضد الميز العنصري والوقوف عند أحد أهم رموز هذا الصراع المرير في سبيل الحرية في أبهى وأقسى صورها وتجلياتها . مارتن لوثر كينغ ( 1929 -1968 م) رجل دين ومدافع عن الحقوق المدنية والسياسية “للسود الأمريكيين ” وناشط سلام أمريكي من أصول إفريقية ، يمثل أيقونة النضال ضد العنصرية والصوت الذي صدح في خطاباته الجماهيرية بأعلى نبراته في وجه الظلم والعبودية في بلد تمثال الحرية. ذاق مرارة التمييز في الأحياء الأمريكية ومقاهيها ومدارسها وجامعاتها ووسائل نقلها…وكانت النقطة التي أفاضت الكأس في مساره هي معايشته يوم الخميس الأول من شهر دجنبر سنة 1955 م لحادث سيدة أمريكية “بلون أسود ” روزا باركس عندما رفضت إخلاء مقعد في الحافلة” لراكب أبيض “، فاستدعى السائق رجال الشرطة الذين ألقوا القبض عليها وكأنها ارتكبت جريمة شنعاء . انطلق مارتن لوثر كينغ مدافعا عن قضية السود الأمريكيين و مواجها كل أشكال الاضطهاد والاستعباد والتمييز على أساس اللون . بهذا سجلت مسيرة واشنطن من أجل الحرية في 28 غشت 1963 م مشاركة واسعة للأمريكيين 250ألف أمريكي منهم نحو 60ألفا من “ذووي البشرة البيضاء” ، توجه الجميع إلى النصب التذكاري للرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن الملقب بمحرر العبيد . وكانت أكبر تظاهرة في تاريخ الدفاع عن الحقوق المدنية “للسود الأمريكيين ” . ألقى مارتن لوثر كينغ خطابه الشهير لدي حلم ( I have a dream) والذي صرح فيه ” لدي حلم بأن في يوم من الأيام أطفالي الأربعة سيعيشون في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم ، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم ، وبقدر ما يحملون ويتقنون من أفكار وأعمال تفيد الأمة “. فاز هذا الزعيم الأمريكي بجائزة نوبل للسلام سنة 1964 م لأنه ناهض العنف ودعا إلى الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية “للسود الأمريكيين” دون إراقة قطرة دم وتبنى سياسة العصيان المدني متأثرا في ذلك بالمهاتما غاندي في حركته التحررية بالهند ضد الاحتلال الإنجليزي . سنة 1968 م اغتيل مارتن لوثر كينغ برصاصة أحد الأمريكيين المتعصبين “من البيض” جيمس إرل راي وفي نفسه حلم لم يتحقق .إلا أن العديد من الأمريكيين وجدوا عزاء لمقتل مارتن لوثر كينغ في فوز بارك أوباما في الانتخابات الرئاسية سنة 2009 م ليدخل أول رجل أمريكي من أصول إفريقية إلى البيت الأبيض بشعار “نعم أستطيع: yes I can” ويعطي الأمريكيون الدليل بأنهم شعب لا يحكم على الناس بألوان بشرتهم وإنما على أساس كفاءاتهم ومؤهلاتهم . لكن ما أشبه الأمس باليوم ، الأمس سنة 1955 م حينما تعرضت السيدة روزا باركس للحيف والإهانة بسب لون بشرتها في الحافلة ، باليوم سنة 2020 م عندما وضع رجل شرطة حذاءه الثقيل بدون رحمة على رقبة “رجل أسود ” جورج فلويد الذي لم يستطع أن يتنفس وكانت أمنيته الأخيرة وهو يلفظ أنفاسه تحت ركبة ضابط الشرطة الأمريكي هو حقه في استنشاق هواء الحرية ” لا أستطيع أن أتنفس ” ، ليدل ذلك على أن الصراع ضد العنصرية والعبودية في الولاياتالمتحدةالأمريكية لازال مشروعا والطريق لتحقيقه محفوف بتكميم الأفواه ومليء بالألغام … ما أشبه الأمس باليوم مع فارق زمني واضح بحيثيات مختلفة تبرز أن حلم مارتن لوثر كينغ لم يتحقق في رؤية مستقبل يتعايش فيه “السود والبيض” تحت سماء واحدة بكل حرية ومساواة وأجهض باغتياله في مرحلة الستينيات .وينتقل مسرح الأحداث الآن في عالم النظام العالمي الجديد والقطبية الواحدة حيث ترفع الولاياتالمتحدةالأمريكية شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في الخارج وتناقضها في الداخل في إطار ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين . إذن للمواطن الأمريكي حلم أزلي يطمح من خلاله إلى الحق في الحرية كجوهر لحياة الإنسان وأغلى ما يملكه للدفاع عن أصل وجوده وذاتيته.