حينما حدثني الصديق السفير حسن طارق ليخبرني أن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في المستشفى بالدار البيضاء، انتقلنا فورا أنا وهو لزيارته، وأتذكر ذلك اللقاء كأنه وقع للتو، أتذكر تواضع عبد الرحمان اليوسفي واهتماماته، تساؤلاته التي تهم الآخر أكثر من ذاته. اليوم تذكرت كذلك الزيارة التي قمت بها رفقة الأخ والصديق عبد العزيز النويضي للقائد عبد الرحمان اليوسفي في خضم أحداث 20 فبراير، تذكرت كيف تحدثنا كثيرا وخرجنا كما دخلنا، لم نستطع أن نحصل منه على تحليل لما يقع، أو حتى موقف سياسي مما يجري، كان حذرا ومبتسما، صامتا وغامضا، وكتبت حينها مقالا تحت عنوان “كلام من صمت اليوسفي”، وحينما التقيته بعدها في حفل السفارة التونسية بالرباط، سلم علي معاتبا: لقد كتبت ما أردت لا ما قلته أنا؟ نظرت إليه مبتسما وقلت: إنني حاولت تفسير صمتك. نظر إلي وأمسك بيدي تم قال: مارس حريتك في الكتابة كما تشاء. اليوم وقد رحل عنا رجل من طينة خاصة، قائد اختار أن يوقع بطريقة خاصة خاتمة حياة صراع طويلة ومريرة، من النضال الوطني إلى معركة البناء الديمقراطي، من ممارسة الحكم إلى التقاعد والصمت، صمت الشجعان أم صمت الخيبة من الأصدقاء قبل الأعداء؟ وكيفما كان الحال فالرجل عاش كبيرا ومات كبيرا، واجه ظلم المحاكمات، وتألم للمآمرات، تحدى المنفى وغامر بالسلطة، لكنه ظل هو هو، عاش على طبعه وسجيته، عاشقا لطنجة ومحبا للوطن، فهل يمكن للقلم حتى ولو كان خاضعا لسلطة اللغة أن يسطر كلمات لعله يختزل منها تاريخ هذا الرجل؟ عاش اليوسفي وحيدا في السجون، ووحيدا في المنفى، ووحيدا في السلطة، تم وحيدا في التقاعد، كأن الوحدة جزء من كيانه، أو هي طريقة حضوره، غريب أمر هذا الرجل، بقدر ما هو وحيد يجتمع حوله الناس، وبقدر ما حاولوا اغتياله كان يولد ألف مرة في لحظة الاغتيال. نال تشريف المغاربة، واحترام الخصوم والمخالفين قبل الأصدقاء، وحب الاتحاديين بمن فيهم من توجه له بالاتهامات، وتقدير الوطنيين مهما تفرقت بهم السبل، دافع عن الملوك وخاصمهم، تم صالحهم وهو يصنع التاريخ بتواضعه وأحيانا بغموضه، ذلك الغموض الذي يزيده أسطورية لدرجة المثل، قد تعرف كل شيء في السياسة ولكنك لن تستطيع معرفة ما يسره عبد الرحمان اليوسفي في قلبه، رغم أنهم يقولون أن في قلبه فقط المغرب وزوجته هيلين. سيظل سي عبدالرحمان شاهدا على الكثير من الأحداث التي حملها تاريخ هذا الوطن، إذا لم نقل فاعلا فيها بصمت، سواء حين كان محاميا في اتحاد المحامين العرب، أوسياسيا في حزبه، أووزيرا أولا في منصبه، ثم شاهدا على العصر في تقاعده، وعندما غادرنا اليوم، قرر الرحيل في صمت ولوحده، كأن الوحدة قدره، وكأن القدر يطيعه ليأخذه في زمن الكورونا الملعونة، أو يبدو أنه رحل غاضبا منا بعدما اختار القدر ظروف رحيله، ومن تم منعنا من توديعه حتى في موته، فهل سيكرر التاريخ شخصا مثله يطابق الوطنية بالديمقراطية لتتحول إلى مشروع حياة؟ صعب أن تصدر أحكاما على شخص مثل اليوسفي يقرر الصمت والهدوء حتى في طبيعة وظروف وفاته، فوداعا سي عبد الرحمن.