لم يكن العالم كله ينتظر من الفيروس الصغير ان يفعل فعلته، تلك الصدمة القوية التي انطلقت من مدينة واحدة، الى أن أصبحت جائحة تغزو العالم بأسره، انقلبت فيها موازين القوى في العالم، وانكشفت حقيقة الأوهام التي استغلتها بعض الدول لكي تعتبر نفسها مركز العالم جائحة لم تستثني أحدا ولا تفرق بين هذا وذاك، بل كشفت عن اقنعة طالما رددنا أنها فعلا تعيش على سذاجة بين الدول وبساطتها، وتستغل بعضا من التقدم في مجالات محددة لكن اليوم تغيرت لغة العالم، وتبعثرت شبكة العلاقات الدولية، والتي غلبت عليها المصلحة الخاصة، طمست هوية الاتحادات والأمم، وطفت على السطح ثقافة الفردانية المتوحشة، كل طرف يبحث عن ما ينفع به بلاده، في الوقت الذي ننتظر فيه التضامن القاري والإقليمي، مما يبرز بجلاء حقيقة ثقافة البرغماتية والمادية التي تسبق أي شيء. وبالنظر الى هذا الوباء الذي عم جميع بقاع العالم، وأصبح الشغل الشاغل لكل الدول والقارات، بل والافراد كذلك، مما يوضح أنها اصحبت ظاهرة اجتماعية تحققت كل شروطها حسب عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم(العمومية، الشمولية، القهر الاجتماعي…)، بمعنى أنها ظاهرة يجب أن ينكب عليها الباحثين والمفكرين في كل التخصصات لفهم تداعياتها، والمآلات المستقبلية لها، ليس فقط على المستوى المادي والاقتصادي، بل على الجانب الاجتماعي. ستكون فرصة لإعادة النظر في العلاقات الاجتماعية والدولية، والبنيات التي ستتحكم فيها بعد انتهاء الجائحة، هي فرصة لدراسة الى أي حد أن الدول قد تحقق اكتفاءها الذاتي في ظل اغلاق كل الحدود. إذن هو موضوع يستحق ان يعالج من جوانب مختلفة، ستنتج لنا نمط جديد من العلاقات والمبادلات والسياسات المحلية والإقليمية. وفي ظل الغموض السائد في العالم الان من حيث العلاقات والاحوال، لابد من الإشارة الى بعض المبادرات التي كشفت عن الوجه الحقيقي لبعض ادول بما تملكه من مقومات الاعتماد على الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي. هنا يظهر الاستثناء المغربي، بتجربته التي يضرب بها المثل في كل بقاع العالم. المغرب وكورونا : أعتقد أن الخطوات الاستباقية التي أقدمت عليها الدولة المغربية ملكا، حكومة وشعبا، كان لها الدور الكبير في احتواء الجائحة، والتعامل معها بشكل ذكي. إجراءات تلو الأخرى والتي لاقت استحسانا كبيرا لدى عموم المواطنين، على الرغم من المخلفات الصعبة على المعيشة اليومية لعموم الناس. المبادرة الملكية : إن المبادرة الملكية السباقة التي جاءت لكي تتخذ حزمة من الإجراءات الرشيدة والمسبوقة والتي تتضح فيها بشكل جلي، بعد النظر ووضع لائحة المخاطر التي يتم مواجهتها ببرامج تظهر للوهلة الأولى أنها سيكون لها التأثير الفعال على الامر. وهو ما حصل في المكالمات الهاتفية التي قام بها جلالته مع ملك إسبانيا والتي تعبر عن دبلوماسية قوية في التعامل مع الجيران تحسبا للعلاقات الاقتصادية والسياسية. ثم المبادرة الثانية والتي كان لها وقع كبير في العالم كله والمتمثلة في إنشاء صندوق لمواجهة جائحة كورونا، الفكرة في حد ذاتها تعبر عن دهاء قوي في ظل الركود الاقتصادي العالمي، وهو ما عبر فيه ثلة من المغاربة من رجال اعمال وأطر عن غيرتهم اللامتناهية وتجاوبا مع المقترح الملكي. ذلك أن ما جعل المبادرة تلقى ترحيبا كبيرا من الصغير والكبير ومن الغني والفقير. ولم يتخلف المغاربة كعادتهم للإسهام في هذا الصندوق، بدءا برجال الاعمال، مرورا بالسياسيين من برلمانيين ووزراء ومجالس منتخبة. وحتى الأحزاب السياسية التي طلبت من منتخبيها المساهمة بتعويضاتهم لفائدة الصندوق. مما يعبر عن حس التضامن والكافل بين مكونات الشعب المغربي. وهذا درس من الدروس المستفادة من هذه الجائحة والتي ظهر فيها المغرب كبيرا وبشهامة امام العالم بأسره. التفاعل الحكومي: على الرغم من ما يمكن قوله عن الوضع السياسي المغربي من اختلاف وجهات نظر، والانتقادات التي تقدم يمنة ويسرة، وبالنظر الى ما مررن من مخاضات سياسية ليست بالسهل وخصوصا بعد الربيع العربي، وبالنظر الى ما تعرفه الأحزاب السياسية المغربية من تدبدب وتضارب الرؤى. إلى أن في هذه المحطة أبانت الحكومة المغربية رئيسا ووزراء عن علو كعبهم في التعامل مع الجائحة، وغبروا بدورهم عن وطنيتهم واجتهادهم من أجل إيقاف الوباء والتصدي له بكل الطرق الممكنة، فالكل معبأ من أجل تقديم ما يمكن تقديمه من أجل المغاربة، في هذه الجائحة أحس المغاربة عن سرورهم تجاه اهتمام الحكومة بالموضوع، وأخد الأمور بشكل جدي وصارم. التواصل الدائم لرئيس الحكومة مع العموم عن كل صغيرة وكبيرة، بلاغات وزارة الصحة والداخلية التي تخص الموضوع صباح مساء، وهو ساهم في زرع الثقة والصبر في نفوس الناس، وما جعلهم يأخذون الأمور بمحمل جد باستثناء بعض الحالات. برامج إعلامية تلفزية وفي شبكات التواصل الاجتماعي التي سعت الى التحسيس والتوعية والدفع بالناس الى توخي الحذر والتزام تعليمات الجهات المختصة. كما أن الجرأة القوية في اغلاق وإلغاء كل الاتصالات البحرية والجوية والبرية مع كل الجيران، بدءا بالدول التي تمركز فيها الفيروس وفي المرحلة الثانية مع كل الجهات. إن الجائحة في الحقيقة كنت فرصة الى إعادة الاعتبار الى بعض المجالات التي كانت تعاني التهميش والتردي على المستوى العالمي عامة والعربي بشكل خاص، هي فرصة لإعادة الاعتبار للصحة والاطر الطبية، والتعليم والأساتذة بكل اسلاكهم، والسلطات الأمنية. مجهود مقدر تقوم به الاسرة الطبية والتعلمية للحفاظ على استقرار الحالة العامة. الصحة: أعتقد أن الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه الأمور هو إعطاء الصحة المكانة التي تستحقها، الصحة كمجال عام كسياسة وتوجه استراتيجي للدولة، من حيث توفير كل ما يحتاجه من إمكانيات مادية ولوجستيكية كافية، والاهتمام بشكل كبير بالموارد البشرية التي لابد من أن نحييها على علو كعبها ومجهوداتها الجبارة من أجل مواجهة الجائحة، تغامر بأرواحها من أجل تتبع الحالة الوبائية وتقديم العلاجات للمرضى، وأجزم بأنهم يقومون بعملهم وكلهم طاقة إيجابية وفي قمة العطاء ونكران الذات. كبسولات تلو الأخرى من الأطباء والأساتذة بالنصائح والارشادات الكافية، حس وطني قوي يتحلى بها الأطر الطبية المغربية والتفكير المستمر في الوسائل التي ستحد من انتشار الجائحة. كما عبر مهني القطاع عن التضامن التام والكامل مع الدولة بوضع المصحات الخاصة رهم إشارة الدولة من لفائدة المرضى والأطباء كذلك، ولا ننسى أصحاب الفنادق ومراكز الاستقبال والمطاعم التي وصعت كل أجهزتها رهن المسؤولين لكل غاية مفيدة. وما زال ما من ينتمي للأسرة الصحية يقدم الغالي والنفيس لكي يبقى المغرب شامخا قويا ورائدا. فالمجد لهم أينما حلوا وارتحلوا. السلطة المحلية والأمنية: مما لا شك فيه أن السطات المحلية على اختلاف تشكيلاتها، والامن الوطني والقوات المساعدة والعسكرية تجندوا جميعا من أجل محاربة الوباء، هم في مقدمة الصفوف الى جانب الأطر الصحية، كان ولا زال لهم دور أساسي في ضبط السير والجولان في البلاد كله، قدموا مجهودات كبيرة في التوعية والتحسيس، يشتغلون ليل نهار من الاعوان الى كبار المسؤولين، والهدف من ذلك هو إنجاح عملية الحجر الصحي، والالتزام بتوجيهات الصحة والداخلية في التصدي لانتشار الوباء. ومن اهم ما لامسته في هذا الامر، التعاطف الكبير للمصالح الأمنية من طرف المواطنين، التحايا والتصفيقات والتشجيعات على المجهودات المقدرة، يستقبلونهم في الازقة بالورود والزغاريد شكرا لهم عملهم، النشيد الوطني يسمع في كل مناطق المدن والبوادي، هو تعبير صريح على الوطنية الحقة والغيرة الكبيرة على البلاد والوطن. وما صبر عموم الناس داخل الحجر الصحي ولمدة ليست بالسهلة الا دليل على تقديم المصلحة العامة على الخاصة. على الرغم من الضغط والمجهود المبذول. دوريات الامن تجوب كل مناطق الاحياء للتحسيس وضبط الحجر، وكدا تقديم الشكر والامتنان للساكنة الملتزمة والتي لا تخرج الا للضرورة، علاقات جديدة بين المواطن ورجل الامن أو السلطة، مشاهد انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي تبين التلاحم القوي بين السلطات الأمنية والسكان. ولابد أن نعرج هنا على السلطات المنتخبة التي لم تدخر جهدا في سبيل تقديم الدعم والخدمة في الاحياء، ذلك أن الإشارة الأولى جاءت من الدعم المقدم للصندوق من طرف المجالس المنتخبة الجهوية والمدن والمقاطعات، والحصور القوي لها في عملية التحسيس والتعقيم والنظافة مع شركات التدبير المفوض وشركات التنمية المحلية ومكاتب حفظ الصحة. ولابد من التنويه بالمساهمة التي قدمها المنتخبون بإحالة شهر من تعويضاتهم على الصندوق المخصص للجائحة، تعبيرا عن الاسهام في دعم محاربة الوباء. المجتمع المدني: لكل فاعل نصيبه في الاسهام للحد من انتشار الوباء الفتاك، والكل مجند من أجل التواجد الدائم والمستمر حسب موقعه ليقدم ما بجهده لحماية البلد، لعل المجتمع المدني من الفاعلين الأكثر حضورا في العملية، حيث ساهم الى جانب السلطات في عملية التحسيس والتوعية، من خلال وسائط الكترونية وتعبئة في شبكات التواصل الاجتماعي، وانتهاء بعض الجولات الميدانية في بداية ظهور الوباء. كما حضر المجتمع المدني بشكل قوي في عملية التضامن والتكافل الاجتماعي، من خلال حملات التعاون مع الفئات الهشة والفقيرة والتي تأثرت بشكل كبير بتوقف العمل في مختلف القطاعات، أبان الفاعل الجمعوي المغربي على غيرته الوطنية، آلاف الأسر استفادت من القفة التضامنية وهو تضامن له وقعه الخاص على الفئات المستفيدة، هو نوع من الدفؤ الوطني الذي تجاوز كل الاعتبارات، حملات تلو الأخرى، دعوات الى التبرع والمساهمة قدر الإمكان. ان الطبع المغربي التضامن الذي يسكن المغاربة يحظر في كل المناسبات، منافسة شريفة بين شرفاء العمل الجمعوي نحو تحقيق أكبر عدد من الأرقام والاسر، الاجتهاد في طرق جمع التبرعات والمساهمات المادية منها بالخصوص. وهي تعبير صريح على نكران الذات والتضامن المطلق واللامشروط. أسرة التعليم لا يمكن الحديث عن وقائع وأحداث وباء كرونا دون الإقرار بالدور الفعال والكبير لنساء ورجال التعليم، الذين بدورهم أبانوا عن دماثة أخلاقهم ونضجهم في الوقوف الى جانب الاسرة المغربية والاعتكاف على التدريس عن بعد، ورغم الإمكانيات اللوجستيكية المتواضعة بالنظر الى الوقت الضيق الذي تقرر فيه التعامل مع العملية التعليمية التعلمية باستعمال الوسائل الالكترونية المتاحة، ذلك أننا قضينا وقتا مهما من الزمن المدرسي وبدأنا نشرف على نهاية الموسم الدراسي، وبالتالي اقتراب وقت الاختبارات الخاصة بالمستويات الاشهادية، وبالنظر الى الحالة النفسية للمتعلمين الذين تفاجؤوا بالإجراءات الاحترازية التي حالت دون الدروس المدرسية. لكن رجال التعليم ونسائه لم يدخروا جهدا في تقديم ما يمكن تقديمه من أجل إيصال المعلومة والشرح والتفاعل مع أسئلة المتعلمين حسب الإمكانات المتوفرة، فشاهدنا إضافة الى المنصات التي اعتمدتها الوزارة والبرامج التلفزية أيضا التي تبث الدروس، شاهدنا حضورا قويا للأساتذة والاستاذات في شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال تنظيم لقاءات مباشرة مع التلاميذ تخص بعض الدروس تكميلا للمقرر الدراسي، تسجيلات تلو الأخرى، مجهودات فرديو وجماعية كانت لها الدور الكبير في طمأنة التلاميذ ودعمهم معنويا في انتظار عودة المياه الى مجاريها. شكل آخر من أشكال الغيرة والحس الوطني، شكل من أشكال نكران الذات والحضور الدائم دعما للتلميذ المغربي، وهو نوع من دعم الاستقرار الاسري واحترام الشروط الاحترازية واحترام شروط الحجر الصحي. في الحقيقة الحديث في الموضوع يحتاج الى وقت كبير لمعالجته من مختلف جوانبه، وهذا ليس بالأمر السهل، لكن لابد من استخلاص الدروس والعبر من هذه الجائحة، وهي كثيرة نذكر بعضها : مكانة المؤسسة الملكية اعتقد ان المغرب ربح رهان التصدي وقام بما يلزم في الموضوع ولعل ذلك يرجع فيه الفضل بعد الله الى جلالة الملك بمبادراته المسبوقة التي جعلت الجميع يقف في صف واحد، ولذا الامر دلالة رمزية عميقة، تبرز المكانة العالية التي يتلها الملك في قلوب المغاربة، والتجاوب المنقطع النظير مع دعوته للمساهمة في صندوق محاربة الوباء. وهي رسالة الى العالم أن هناك حقيقة تلاحم الشعب مع الملك في كل الظروف والاحوال، وهو رهان كبير سيبقى خالدا في ذاكرة المغاربة. توحيد الصفوف من أهم ما برز في هذه الجائحة توحيد الصفوف المغاربة على كلمة واحدة، الكل منكب على محاربة انتشار الوباء، الكل يتفاعل مع مجريات الجائحة وتوجيهات السلطات المعنية، الذي لوحظ في المساهمات التي وضعت في الصندوق، على سبيل المثال. التضامن والتكافل الاجتماعي : كما تمت الإشارة فإن سمة التضامن بين مكونات المجتمع المغربي وبكل مستوياتها أبانت على رغبتها في التضامن والتكافل مع كل الفئات الهشة والتي تعيش وضعية صعبة، والاعتناء بالمتخلى عنهم وكل الأشخاص يحتاجون الى الدعم والمساندة. بالإضافة الى الفئات التي تستفيد من تعويضا منقولة من صندوق محاربو وباء كرونا المستجد. تغيير نظرة المغرب لدى العالم وهو واضح من خلال ما يقر به الاعلام الدولي، والثناء على الطريقة الذكية الذي تعامل بها المغرب مع الجائحة ولعل العبارة التي تتردد لدى عموم الناس وخصوصا في وسائط التواصل الاجتماعي ” المغرب فضل المواطن على الاقتصاد” بمعنى ان الدولة كانت مستعدة للتضحية بالاقتصاد من أجل سلامة المواطن، وهو أمر محمود يشير الشيء الذي افتقده البعض من الدول الكبيرة اقتصاديا، والتي كانت تدعي انها قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذا يؤثر بالضبع على العلاقات الجيوسياسية مستقبلا، وسيقلب الموازين، كما ستتخذ العلاقات الدولة منحى آخر، في ظل ذوبان الأمم والاتحادات وعدم تحقيق التضامن المزعوم بين دولها. وبالتالي غلبت المظاهر والشعارات على الممارسات والوفاء بالوعود. النظرة المستقبلية من الدروس المستفاد منها هو على الدولة ان ترتب امورها المستقبلية، وان تعيد النظر في العلاقات الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية، وأن تجعل من نفسها عملة صعبة أمام الدول قد تتهافت على الصداقة معها في القادم من الأيام، إنها لحظة مهمة للمغرب لكي يحقق بذلك مكاسب اقتصادية وسياسية مهمة، مادام أنه أبان عن قدرته على فرض نفسه على العالم كأنموذج يحتجى به. وهي مناسبة لمراجعة مجموعة من الأمور الداخلية وفي التصدي لمجموعة من الظواهر الاجتماعية الصعبة كالبطالة والفقر والهشاشة الخ.