لقد كشف فيروس كورونا كوفيد 19 حقيقة العالم بأسره، هذا العالم الذي تطاول في البُنيان، واستمرأ النعم بلا حمد أو شكران، كما انغمس في مستنقع المادية إلى أخمص قدميه بلا حدود، وافتتن بمتعه وشهواته إلى أن وقع في دركات البهيمية، حيث لبّى حاجات الجسد في إغفال تام للتوزان المطلوب بين الروح والجسد، أضِف إلى ذلك سياسة الكيل بمكيالين في معاملة بني الإنسان، فها هو الآن يجأر ويئِن ضعفا أمام فيروس ضئيل لا يُرى إلا بعين المجهر؛ فبالأحرى أن يكون هذا الفيروس قد دقّ ناقوس خطرٍ في ضمير إنسانية هذا العالم، أن عُودوا إلى رُشدكم، وانتبهوا إلى حقيقتكم أمام خالقكم، فآن الأوان للبشرية أن ترجع إلى رشدها فترسخ قيم التعاون والتكافل بدل سياسة التفرقة والتظالم، وتزكي أخلاق البناء والإصلاح عوض تشجيع نماذج التخريب والإفساد والتلويث..آن لها أن تُحصن نفسها بأُسس متينة تزيدها قوة وتلاحما؛ حتى تكون صامدة أمام كل الأزمات والأوبئة، وذلك بفطرة إنسانية سويّة صافية، سليمة من الشذوذ والغشاوة التي حجبت نضَارتها وأعمَت بصيرتها، فهذه أسس متينة تصلُح للبشرية جمعاء، حتى تُبقيَ على إنسانية الإنسان بكل كرامة بلا إذلال أو امتهان. الأساس العقدي: إن أول الأُسس والركائز المُهمة التي ينبغي الاهتمام بها هو الأساس العقدي، وقد رأينا الجميع يُظهر ضعفه وقلة حيلته أمام انتشار هذا الوباء الخطير، مما يؤكد كون حاجة المخلُوق إلى خالقه دائمة ومُستمرة مهما بلغ هذا الإنسان من قوة. فالله تعالى مُدبر كونه، ويعلم ما فيه صغيرا أو كبيرا، قال سبحانه: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) “سبأ: 3″، كما أنه في كل ما يحدث حكمة قد تظهر للناس، وقد تخفى عنهم. ومن سلامة العقيدة الاعتقاد الصحيح أن ما يحدث من أمر هذا الوباء هو في علم الله تعالى الذي لا يعزُب عنه شيء، والحكمة في ذلك تبقى من باب تأوُّل الناس، سواء أَكان ذلك عِقاب أرسله الله تعالى للبشرية لتنتبه لغفلتها وبُعدها عن خالقها، أم كان ذلك رحمة من الخالق للإنسانية حتى ترجع إلى فِطرتها، وتبتعد عن مُستنقعاتها المادية التي غرقت فيها، من أكل للحرام بالباطل، وسفك للدماء، وشهادة للزور، وهتك للأعراض.. المُهم عندنا هو أن ما أصاب الإنسانية إنما هو من تقدير العلي القدير، وعليه فإن المسلم الذي قد يُصاب بهذا الوباء، فلا ينبغي عليه أن يضجر أو ييأس من رحمة الله، فإن الذي أصابه قادر على شفائه؛ غير أن هذا الاعتقاد ليس معناه الاستسلام للقدر من دون الأخذ بالأسباب، فحتى هذا الأخير، من الاعتقاد الصحيح اعتبار أن الأخذ بالاحتياطات اللازمة لعدم الوقوع في المرض، والتزام الحجر الصحي، والتحلي بالنظافة..كل ذلك من صميم عقيدة المسلم التي ينبغي ألا تتعارض مع الاعتقاد الأول، وتجسيد هذا الفهم السليم للاعتقاد الصحيح، ما كان من حوار بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والصحابي الجليل أبي عبيدة الجراح عندما وقع الطاعون بأرض الشام. فقد وقع طاعون سُمي بعمواس نسبة للمكان، وهو أول طاعون عرفته بلاد المسلمين، فأراد عمر بن الخطاب الذهاب إلى أرض الشام، وعند دخولها جاء وفد تشاوروا واختلفوا بشأن دخوله الأرض المصابة بالطاعون، واختلِف في تقدير الموقف، وهو ما يلخصه الحوار الذي دار بين أبي عبيدة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إذ قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيتَ الخصبة رعيتَها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتَها بقدر الله؟ قال: نعم. وقد آثر أبو عبيدة رضي الله عنه البقاء في عمواس، ورفض دعوة عمر رضي الله عنه بمفارقة مكان الوباء، حتى أصابه الطاعون، فقام في الناس خطيبا فقال: “أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةٌ بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظّه”. إذن فكلما كان الأساس العقدي صحيحا سليما، تحصّن صاحبه من الاضطراب والقلق، وتلقى ابتلاءات الله تعالى بنفس مطمئنة رضيّة، لا تنشغل بالوساوس وتسلم نفسها للهواجس؛ بل تعرف أن ربها عليم خبير بما يصيبه والناس أجمعين، وله في ذلك حِكم تخفى على إدراكاتنا، من دون استسلام أو خنوع وانتظار أقدارنا؛ إذ أن اتخاذ الأسباب والسعي في طلبها هو من صميم هذا الأساس العقدي المتين، فتكون النتيجة المترتبة، هي العيش في أمان واطمئنان بلا خوف أو جزع. الأساس الأخلاقي: إن الإنسان بفطرته يميل إلى أخلاق الخير، مُبتعدا عن كل ما يلحق الضرر والتدمير…(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) “الروم: 29″، فكل فطرة نقية سليمة لم تضع بينها وبين صفائها حاجزا وغشاوة، تجدها ميّالة للأخلاق الفاضلة السّامية، مُستنكرة لأخلاق الهدم والخراب، وهو مع الأسف ما وقعت فيه البشرية على العموم، وذلك حينما أحلّت لنفسها التلذُّذ بأنواع من الفساد والمتع والشهوات..التي جعلت الإنسان مجرد آلةٍ لإشباع الرغبات دون احترام لآدميته، واعتبارا لكرامته الإنسانية. لذلك كله تجد انتشارا للغش والكذب، والخذاع والمكر، والخيانة والنميمة..وما إلى ذلك من رذائل الأخلاق وسوء المعاملات، حتى أصبح الأمر أكثر تعميما، وأخذت البشرية شيئا فشيئا تُطبِّع مع هذه المنكرات، ومن دون أن تجد من يَستنكر، غافلين عن عواقبِ ذلك كما حصل عند الأمم السابقة، ومن ذلك تحذير الرسول الله عليه وسلم أمته من خمس خصال مُهلِكة، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه في سننه. فإذن آن الأوان للرجوع إلى هذا الأساس الأخلاقي المتين، الذي يسمو بأخلاق الخير المركوزة في فطر الناس جميعا، مما يجعلهم أكثر صدقا وبرّا، وتعاونا وإحسانا، وأمانة ووفاء..مع عدم التشجيع على انتشار أخلاق التخريب، أو على الأقل استنكار ذلك بلا تطبيع أو تماهٍ بلا موقف واضح صريح. الأساس الوقائي: إن المتأمل في الإجراءات والتدابير التي تُنادي بها البشرية اليوم، تجد لها أصل وسبقٌ في دين الإسلام، من طهارة وتنظيف، وتنزّهٍ عن النجاسات وعدم تلويث..إلى ما سُمي بالحجر الصحي ومنع الاختلاط مخافة انتشار العدوى.. فليس غريبا أن تتحدث بعض الصحف الغربية عن سبق الإسلام ورسوله الخاتم إلى الدعوة إلى الأخذ بهذه التدابير الوقائية من الأوبئة والأمراض المعدية؛ بل العجيب أن تجد مسلمين مُبتعدين عن الاعتناء بأمور الزينة والجمال “والله جميل يحب الجمال”، جمال الروح والجوهر، وجمال الجسد والمظهر، فتجد بعضهم أغبرا أشعتا، كريه المنظرة، مُتبذلا لا ذوق له، أما إذا نظرت إلى محيطه وبيئته، تجد تخريبا وتلويثا واعتداء على الخُضرة وأماكن التنزه، مع أن دينه الإسلام دعا إلى إماطة الأذى عن الطريق، وجعله قُربة وصدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” متفق عليه. كما حث على الغرس والتثمير وابتغاء النفع للنفس والغير، ” ما من مسلمٍ يغرسُ غرساً أو يَزْرَعُ زَرْعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاَّ كان له به صدقة” رواه البخاري ومسلم، وذلك بنفس إيجابي حتى يرث الله الأرض ومن عليها: ” إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل” رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد. ولنا في حكمة تشريع الوضوء حكمة بالغة ” أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟”، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: “فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا”؛ متفق عليه. فمقصد التخلص من الأوساخ الظاهرة واضح من دون إغفال لأوساخ الباطن من غفلة وحقد وكراهية..كل ذلك ليبقى المسلم محفوظا مُصانا من كل أذى وضرر. وحتى إذا وقع الأذى وجّه الإسلام إلى عدم الاختلاط بالناس بقصد نقل العدوى إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ” رواه البخاري (9345)، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد” رواه البخاري (5771) ومسلم (2221). فإذن ما يتخذه العالم اليوم من إجراءات وتدابير وقائية هي من صميم ديننا وليست بِدْعا منه، وحينما يُنادى في الناس بلزوم بيوتهم، فالمسلمون هم أولى الناس بتفهم ذلك، والوعي بأهدافه الوقائية. الأساس التكافلي: يُعد التكافل الاجتماعي من أهم أُسس دين الإسلام، وعند الأوبئة والآفات يكون المحك الحقيقي لتجسيد هذا الأساس المتين، الذي هو عنوان رسالة الإسلام وشعاره الأبرز؛ إذ هو دين جاء ليكون الفرد فيه مسؤولا ” كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ فكلكم راع ومسئول عن رعيته” أخرجه البخاري (2554)، وهذا من دون أن يعني ذلك عدم مسؤولية الجماعة عن الفرد. وهو الدين الذي جعل أصحابه في تعاطفهم وتضامنهم بمثابة جسد واحد، قال رسول الله عليه وسلم: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” رواه مسلم (4813)، مُشكّلين بذلك بُنيانا مرصوصا يصعب فتّه أو النيل منه أمام النائبات والأزمات ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” أخرجه البخاري (6026)، ومسلم (2585). فمن غير المقبول أن نجد أفرادا ينتسبون إلى ديننا الإسلام، وهم يسعون بتهافت مهووس للادخار والاحتكار، أو أن بعضهم يستغل ظرف الأزمة فيزيد في الأسعار، وبعضهم يسيطر عليه الأنانية وحب الذات، فيهبّ ساعيا لقضاء حوائجه وأغراضه منفردا غير مكترث لغيره من الفقراء والمحتاجين.. فإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي المجيد، نجد صورا ومواقف مشرقة لأنواع من التضامن والتكافل في عِزّ الأزمات والشدائد، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه عُرف عنه الجود والعطاء؛ إذ جهّز جيش العسرة في غزوة تبوك، وكان يُنفق على الفقراء والمحتاجين، كما حدث قحط لأهل الحجاز في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل إلى ولاته بالأنصار بالتعاون والتكافل، فتسابقت الأمصار في الاستجابة وتلبية النداء. وهذا دأب المسلمين على مر تاريخهم، وكلما كان هذا الأساس المتين واضحا تقوت أواصر المحبة والأخوة بين أفراد المجتمع المسلم، حين يجد فقراءهم الأغنياء مؤدون للواجبات عليهم من زكاة، وصدقات، وتبرعات..مُنفّسين عن كربهم، ومُفرّجين عن شدائدهم..فإنهم يُسرّوا بذلك، ويكونوا أكثر تباثا ورسوخا على دينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة” أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580). فما أحوجنا هذه الأيام ونحن نعيش خطر وباء كورونا كوفيد 19 أن تتكاثف جهودنا جميعا بتضامن الأفراد بعضهم بعضا، وتكافلهم بما يُعزّز قيم التراحم والأخوة والمحبة، وكذلك بدعم التوجهات الاجتماعية للدولة، حينما تقصد توجيه إعانات ومساعدات لمن يستحقها حقيقة؛ وذلك بدون غش أو تدليس، لأن المرحلة التي نعيشها تقتضي الإيثار لا الجشع والطمع، فلا عذر لمن له قدرة على إغاثة ملهوف ورعاية محتاج، ولا رحمة لمن لم يتخلق بأخلاق التراحم والتكافل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لا يرحم لا يرحمه الله” متفق عليه. الأساس النفسي: بمجرد أن بدأت تتلاحق أخبار إصابة الناس بفيروس كورونا كوفيد 19 عبر العالم، حتى رأينا أحوالا من الخوف والجزع، ومظاهرا للقلق والاضطراب، وأنواعا من الهموم والأحزان، وقد وصل الأمر بالبعض إلى الدخول في حالات من الاكتئاب والوساوس التي لا تنتهي..كل ذلك إنما هو تجلٍّ لضعفٍ في الأساس النفسي؛ الذي يجعل صاحبه محققا للأمن والاطمئنان في جميع الأوقات، وفي أزمنة الشدائد والأزمات بالخصوص. إن شعار هذا الأساس النفسي المتين، هو حصول الأمن والاطمئنان للنفوس عند وقوع البلاء، وهذا بالنسبة للمؤمن إنما هو تحصيل حاصل؛ إذ لا يُتصور من مؤمن صحيح الإيمان إذا وقعت أزمات أو ابتلاءات دخل في اضطراب وتيه، أو ترك أعماله التي كان يمضي عليها، أو قعد مع القاعدين للإكثار من التهويل والتشكي، فهذا قد يُتفهم عند غيرنا من الحضارات التي أغفلت الجانب الروحي، لانقطاعها عن خالقها تعبدا وتضرّعا، وانغماسها في الماديات الدينوية، في إبعاد تام للبعد الأخروي المحفّز على العطاء والتطوع ابتغاء تحصيل الأجر والثواب عند رب العالمين، وذلك فيه من المقاصد والمنافع ما لا يخفى على عاقل. لذلك لا نعجب أن وجدنا أعدادا من البشر أعلنوا استسلامهم لهمومهم وقلقهم، ووصل الأمر عند بعضهم إلى الانتحار..وهي نتيجة متفهّمة بالنظر إلى الجفاف الروحي، واليُبس العاطفي الذي سيطر على الحضارات الحديثة التي أبعدت الجانب الروحي، وأعرضت عن منهج ربها في سائر شؤون حياتها، وفي أمثال هؤلاء يقول عز وجل: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) “النحل: 111″، وقال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) “طه: 123″. لكن ما لا يُستساغ أن نجد مؤمنا هلوعا جزوعا وهو مرتبط بخالقه، يلجأ إليه دعاء وتضرعا، ويطمئن لقضائه وقدره، ويحسن التوكل عليه تفويضا وعملا بالأسباب، ويُحصّن نفسه بالأذكار والأدعية..هذا وأمثاله في مَعيّة الله تعالى وحفظه، يستوي عنده الخير أو الضر، فهو في جميع الحالات شاكرا صابرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” رواه مسلم. وإن ما يعين المسلم على تجاوز المحن والأزمات، هو الثبات والقدرة على التحمّل، وعدم الوقوع في التهويل والجزع؛ والذي يساعده على ذلك إيمانه العميق الذي لا يخالطه شرك أو تلبيس، قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) “الأنعام: 81”. ولا شك أن هذا الإيمان يحتاج من صاحبه إلى تعهُّد وتجديد حتى لا يضعف أو يبلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان ليخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم” رواه الطبراني والحاكم. كما لا يُتصور هذا القلق من مؤمن صادق الإيمان، يعتقد اعتقادا جازما أن ما سيصيبه إنما هو مقدر له في اللوح المحفوظ، وهو في علم الله تعالى المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) “الحديد: 21″. وهذا الاستسلام لقضاء الله وقدره، يعطي راحة وأمنا واطمئنانا لهذه النفس البشرية، فتنشط وتسعد، وتشتغل وتكسب، وتهتم باتخاذ الأسباب، وتفوض أمرها إلى مُسبب الأسباب، ولا تدخل في همّ النتائج أو وساوس الشيطان، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم. وكيف لمؤمن يكون لسانه رطبا بذكر الله تعالى صباح مساء، محافظا على أوراده من القرآن الكريم؛ غير مُقصّر في الطاعات والقربات..أن يقع في اليأس والإحباط، وربنا عز وجل يقول: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) “الرعد: 27″. وحتى عن وقوع أحد في همّ أو حزن، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة لكل الناس عددا من الأدعية المحصنة، سواء تلك التي تكون بمثابة طاقات سلبية ينبغي ملازمة التعوذ منها مخافة الوقوع فيها، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ” رواه الإمام البخاري. أو أدعية تجلي الهموم والغموم ينبغي استحضارها وذكرها في كل الأوقات، ومن ذلك قول المصطفى عليه الصلاة واللام: ” ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن أمتك، ناصيتي في يدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحا” قالوا: يا رسول الله ألا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: “بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن” رواه الإمام أحمد. وحاصل القول، إن المؤمن له من المقومات والأسس ما يجعل نفسه آمنة مطمئنة في كل وقت وحين، وهو عند المصائب والأزمات والأوبئة، ينبغي أن يكون أكثر ثباتا وصبرا، مُبتعدا عن كل مظاهر الياس والقنوط، محصنا نفسه باللجوء إلى خالقه دعاء وتضرعا، محافظا على أذكاره وأدعيته، بما يقيه من الجزع والوساوس، ويجعله في أمن واطمئنان، مواصلا للأعمال في كل الأحوال. فهذه إذن، أهم الأسس المتينة التي ينبغي للإنسانية أن ترجع إليها وترسخها وتشجع على تمثُّلها، وتبذل جهدا لتعليمها للناشئة والأجيال القادمة، ففيها كل الخير والنفع لعموم البشرية، فما أحوج الناس للأساس العقدي الذي يجعلهم آمنين مطمئنين بدل هذا الخوف والاضطراب والتيه الذي يسكن النفوس..وهم في حاجة إلى الأساس الأخلاقي الذي يُعزز أخلاق الخير والإصلاح المركوزة في فطر الناس أصالة، ثم الأساس الوقائي الذي يحفظ للناس صحتهم، ويُبعدهم عن الأمراض والتلوث، ومن دون إغفال أيضا للأساس التكافلي الذي يجعل الناس سواء، فقراءهم وأغنياءهم، متعاونين ومتراحمين، دون أن ننسى التحصن بالأساس النفسي الذي يجعل صاحبه ثابتا مطمئنا، وبذلك تُواجه الأزمات والأوبئة، لا أن تزيد أمراض النفوس استفحالا، فتُظهر جشعا وأنانية واحتكارا، ويُفقد العالم توازنه فيُعلن عجزه وهلاكه.