1-عين الرضا هي عين العمل يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي: “وعين الرضا عن كل عيب كليلة — لكن عين السخط تبدي المساويا”. (1) إن الناظر إلى المشترك فيما ينفع الناس، وإن المهتم بالعمل أولا وآخرا، وإن المهتم بالموضوع خارج ذاته الفانية، وإن من أخذه التاريخ على حساب عواطفه الجياشة التي سرعان ما تستحيل سرابا… إن كل هؤلاء لا يظهرون عيوب الأعمال إذا كانت ستلعب أدوارا تاريخية في مرحلة من مراحل التاريخ، ولكنهم على العكس من ذلك يشجعون ويغضون الطرف عن الزلات الصغيرة ويباركون كل عمل سينفع الناس بلا شك. إن الحكماء يهتمون بالعمل أكثر من أي شيء آخر، وهذا ما اتفق عليه الواعون بحق من المتقدمين والمتأخرين، ومن المسلمين وغير المسلمين، ومن التقدميين والرجعيين… فالناجع عند الجميع هو الناجع عمليا. ألم تر إلى أبي إسحاق الشاطبي يقول: “العلم الذي هو علم معتبر شرعا هو العلم الباعث على العمل”؟ وألم تر إلى إلياس مرقص يقول: “الممارسة العملية ليست هي مقياس النظرية فحسب، ولكن هي مادتها الأولى أيضا”؟ … صحيح أن هناك فرقا واضحا بين من يتكلم عن اكتمال العلم بالعمل في المنظور الشرعي الديني، وبين آخر يتكلم عن العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة العملية. ولكن العبرة بالعمل هي التي جعلتنا نستشهد بهذا وذاك، كما جعلتنا نتحيز للعمل بالدين والدنيا معا. العمل هو ما يستهوي التاريخانيين، والمصلحة العامة هي محل اهتمام الكبار. فالمعارك النفسية لا تغني عن أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية، بل إنها تعرقلها وتثبط رجالاتها. إن كتاب “متطوع مكة” لا يخلو من أهمية، ولا تندر فيه الفوائد. وإن ذوي الألباب لَيجعلون الفائدة اثنتين، فيكثر الخير ويخاطب الكتاب فئات أخرى غير الفئات التي استهدفها صاحبه. هذه هي الرؤية التي ستحكمني في مختلف محاور هذه القراءة، وهذا هو الهم الذي يجعلني أبارك الكتاب مهما أنصت إلى رغباتي وتحيزاتي المعرفية الخاصة. 2-التاريخ واستعادة السيرة النبوية يقول الله تعالى: “قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين”. (2) ويقول كارل ماركس: “إن التاريخ هو العلم الوحيد الذي نعرفه ونعترف به”. (والحكمة ضالة المؤمن، بغض النظر عن قائلها) إن التاريخ هو النور الوحيد الذي يضيء الطريق للدعاة والمناضلين، ففيه يرون القرآن والسنة والأخلاق النبوية والخبرات والتجارب رأي العين. فيه يختبر الإنسان تصوراته ونظرياته ومعتقداته، وفيه يرى تأثير كل ذلك في إنتاجه المادي. يقول عبد الصمد بلكبير: “يعتبر التاريخ وعلومه، من أهم أسلحة المقاومة الثقافية والحصانة السيادية وصناعة مستقبل الشعوب والدول. ذلك باعتباره أبدا “استعارة”، من الماضي وذاكرته، لتخيل المستقبل ومواجهة تحدياته. وإذا كانت العناية به بحثا وتعليما وإعلاما… قرينة على إرادة النهوض والتقدم، فإن إهماله، وأحرى محاربته، تعكس حالة تأخر وتأخر وإرادة استتباع”. (3) ويقول أيضا: “فإذا كان من الواضح أن كل رجوع إلى الماضي لا يقع ضرورة إلا صدورا من “الحاضر” ومشكلاته وقضاياه… فلن يكون ذلك الرجوع بالقراءة، بإعادة الإنتاج للماضي إلا قراءة في الحقيقة وبطريقة غير مباشرة للحاضر نفسه”. (4) هكذا يتعامل الناس مع السيرة النبوية (“تاريخ” النبوة) في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وهكذا يجب أن نتعامل معها في سياق معاركنا التاريخية الراهنة. إلا أن بعضهم لا يرتاح له بال إلا إذا بعثر السيرة وزرع بذور الشك فيها ووجه الأنظار إلى بعض أحداثها دون غيرها (5) وانتقص من رموزها وأكسب الناس زهدا فيها، وتلك هي موضة عصرنا هذا وديدن عاجزيه. عموما، ينقسم المتكلمون في السيرة النبوية إلى أربعة مواقف: – موقف القائلين باستحالة السيرة النبوية: وهؤلاء يطعنون في كتب السيرة، دون أن يبذلوا جهدهم في مراجعتها والبحث عمّا يؤكد بعض أحداثها أو ينفيها. ومنهم، نجد: يوسف الصديق وهالة الوردي وآخرين… – موقف عدم التمييز بين التصرفات النبوية: وهؤلاء ينفون تصرفات الرسول العظيم وفق واقعه السياسي والاجتماعي والثقافي، وكأنه مسدد بالوحي دون أن يتخذ الأسباب أو يحسن قراءة واقعه. إن رواد هذه المدرسة يكتفون بالسرد دون تفسير أو تحليل، وأيضا باستحضار التدخل الإلهي في كل مراحل السيرة ومعاركها وأحداثها. وهنا بالضبط، يصبح الرسول العظيم مجرد رجل مسير لا عبقرية له ولا قدرة على التأثير في واقعه من عنده. ومن أصحاب هذا الموقف، نجد: ابن هشام، وصفي الرحمان المباركفوري، وأبو بكر الجزائري… – موقف المادية المنكرة للوحي: وهذا هو موقف الذين يؤمنون بالتاريخ وحده، وينفون أن يكون الوحي قد جاءنا من خارج التاريخ لحل مشاكل التاريخ. إنهم يؤمنون بالأرض دون السماء، وبالشهادة دون الغيب. ينفعوننا كثيرا في معرفة قواعد التاريخ، وبالتالي في تفسير السيرة النبوية انطلاقا منها. ولكنهم بالرغم من ذلك لا يربطون أرضنا بالسماء (لا يرْوُون ظمأنا الأنطولوجي)، فلا يجدون أنفسهم في حاجة إلى التمييز بين غيب وشهادة. ومنهم، نجد: سلامة كيلة، وحسين مروة، وعبد السلام الموذن… – موقف الثنائية التكاملية بين الوحي وواقع النبوة: وهؤلاء لا يقولون بين استحالة السيرة النبوية، ولا ينفون لا الوحي ولا قواعد التاريخ… منهم من أحسن قراءة التاريخ دون أن ينفي الوحي، ومنهم من اقترب من الواقع قليلا واهتم بالوحي أكثر منه. وهذا مما يكسب السيرة تناولا جديدا، مع حاجته إلى التطوير ومزيد من الانفتاح على مناهج التفسير المعاصرة. فمن يجهل تفسير ماضيه، فهو بتفسير حاضره أكثر جهلا. ومن أصحاب هذا الموقف، نجد: شهاب الدين القرافي، وأبي الحسن الندوي، وسيد قطب، وعباس محمود العقاد، ومصطفى السباعي، ومحمد الغزالي، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وسعد الدين العثماني، الخليل عبد الكريم… 3-أهمية الكتاب إن كاتب “متطوع مكة” لا يكتب عن تاريخ التطوع النبوي في فسحة من أمره، بل إن المعارك وتزاحمها يأتيان أحيانا بما لا تشتهي السفن. إنه يستهدي بنور السيرة النبوية ليلهب حماس المتطوعين، وينتشلهم من أنانية عصر الرأسمالية المتوحشة. إنه يستثمر بذكاء ذاكرة المسلمين ليشجعهم على التطوع والبذل والعطاء، ويذكرهم بقدوتهم الخالدة في زمن تفكيك الذاكرات الجماعية لشعوب الجنوب… إن كتابه في نهاية المطاف هو: – كتاب نضال وحركة وعمل. – كتاب مقاومة في زمن الخيانة والاستهلاكية والأنانية وتصدير الأزمات الأخلاقية (أي كتاب مقاومة في زمن ما بعد الحداثة والاستعمار الجديد). – كتاب إعادة إنتاج الماضي على ضوء تحديات الحاضر والمستقبل. ويكفينا من كتابه أن نؤطر معركة صاحبه بإعادة إحيائه لقدوة المسلمين الأولى في زمن ضياع القدوات والتداعي عليها، ويكفينا من ذلك قوله: “لقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة والنموذج الأمثل في الجود والكرم والعطاء، فكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، مراتب كمال ومنازل تمام في حبه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء من لا يحسب حسابا للفقر ولا يخشاه”. (6) *** وفي الموقف من السيرة، فهو يضم صوته إلى صوت رواد الموقف الرابع. أولئك الذين لا ينفون الوحي من جهة، ولا ينفون الخبرة النبوية الدنيوية من جهة أخرى. لا ندعي لصاحب الكتاب ما لم يدع لنفسه من إلمام بقواعد التاريخ، ولكن كتابه يتميز بالآتي: – لا ينفي عبقرية الرسول العظيم في مرحلته التاريخية. وقد ظهر ذلك في قول صاحب الكتاب: “لم يكن عليه الصلاة والسلام طفرة شاذة عن قومه، ولا بدَعا من مجتمعه، بل كان متصفا بحسن أوصافهم، وكان فاعلا أعمال أشرافهم، من عفة وبر وصلة رحم، وصدق وأمانة وكرم، غير أنه كان أكثرهم كمالا، وكان أجمعهم لرفيع الأخلاق وفاضل الأعمال”. (7) – لا ينفي خبرة الصحابة وخيارهم في الجاهلية والإسلام معا. وقد ظهر ذلك في: “لمسات خديجة”، و”خيمة أم معبد ومعيلها (زوجها)وراوي قصتها (حبيش)”، و”استقبال أهل المدينة للرسول والمهاجرين معه”، و”قناديل تميم الداري”، و”تكليف كل صحابي بما يتقنه من عمل”، و”تكافل الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري”، و”بستان نخيل أم مبشر”، و”محجنة متطوعة مسجد الرسول العظيم”، و”تطبيب رفيدة”، و”شعر حسان بن ثابت”… – يستحضر أصالة التطوع والكرم لدى القبائل العربية. وقد ورد ذلك في قول الكاتب: “إن الكرم كان خلق العرب الأول، وكان البخل عندهم كفرا، ولأن تعيِّر عربيا بأقذع الأوصاف أهون عنده من أن تصفه بالبخل، وقد كان مستقرا عندهم أن التطوع والإحسان والمعروف شيم تصرف عن أصحابها مصارع السوء.” (8) وفي حلف الفضول، يقول صاحب الكتاب: “حلف الفضول عنوان كبير ومبدأ إنساني سام، فعلته قريش في جاهليتها لنصرة المظلوم وإقامة الحق، ومنع الفوضى التي قد تحدث بين الناس، حينما لا يكون هناك وازع من ضمير أو نظام قوي حام”. (9) *** إن صاحب الكتاب، بعبارة أخرى، يؤمن بالرسالة ويستحضر مقدماتها التاريخية، ويستحضر تأثير الوحي في الصحابة دون أن ينفي خبرتهم، ويتجاوز النظرة اللاتاريخية إلى ما يسمى فترة الجاهلية… وبالإضافة إلى كل هذا، فإن صاحب الكتاب يأبى إلا أن: – يربط الأرض بالسماء دون أن ينفي إحداهما، وهو -على كل حال-لا زال في حاجة إلى مزيد من تعميق الدراسة في قواعد التاريخ التي شكلت أسباب نزول القرآن وورود الحديث بعمق. – ويكتفي بسيرة المتطوع عن باقي السير، وهذا مهم أيضا. فنحن في حاجة إلى سيرة الرسول المتطوع والرسول السياسي والرسول الخطيب والرسول المخطط العسكري والرسول الزوج… نحن في حاجة إلى سير من هذا النوع، وما أحوجنا إلى أن يكتب كل أحد في السيرة الأقرب إلى مجال اهتمامه وعمله كما فعل الكاتب جلال اعويطا. – ويرسم لنا لوحة معبرة لمجتمع قديم كدنا نراه معاصرا لنا، وذلك باستعمال الكاتب لمفاهيم معاصرة من قبيل: “بناء المؤسسات” و”احترام التخصصات” و”هندسة التكافل الاجتماعي” و”الممتلكات العامة” و”استراتيجيات التمكين” و”السرد القصصي” و”اللجوء” و”التنمية المستدامة والعمل الإغاثي” و”استقرار البيوت” و”العلاقات الإنسانية” و”رئيس الدولة” و”ذوي الاحتياجات الخاصة” و”الحرية” و”الإنسانية الأممية” و”التطوع الإعلامي”… قد نفتح نقاشا طويلا في استعمال المفاهيم أعلاه في فهم واقع قديم سبق ظهورها، وذلك استدراك معرفي لا يقلل من شأن الكتاب. إن كل استعمال من هذا النوع لا نراه إلا جائزا من الناحية الإيديولوجية والتربوية، فالمعرفة شيء وشرطنا التاريخي شيء آخر. – ويكتب أحيانا وكأنه يعي أدوار الإيديولوجيا، وكيف يمكن من خلالها مخاطبة المصالح النفسية للمخاطَبين. لقد ظهر ذلك بشكل جلي في معرض حديثه عن إعلاء الرسول العظيم من شأن قوم أبي موسى الأشعري (10)، وأيضا عندما تحدث عن توظيفه السرد القصصي للتأثير بأهمية التطوع فيمن وصلته حكاية أصحاب الغار (11). *** إنني لم أكن أهذي عندما اعتبرت كتاب “متطوع مكة” تجديدا في تناول السيرة النبوية، ولكنني كنت أعي بالضبط ما أقول. الهوامش: (1): ديوان الإمام الشافعي. ذكره فريد الأنصاري في “جمالية الدين”. (2): سورة الأنعام، الآية 11. (3): عبد الصمد بلكبير، ظهر غلاف “مختصر الاستقصا” (اختصره عبد الصمد بلكبير عن كتاب “الاستقصا” لأحمد بن خالد الناصري)، الجزء الأول، منشورات الملتقى، الطبعة الأولى، 2019. (4): عبد الصمد بلكبير، دراسة بعنوان: “فن السيرة”، ضمن “عبقرية الصديق للعقاد: مقالات تحليلية”، منشورات عيون المقالات، الطبعة الثانية، 1986، ص 9. (5): توجيه القراء المغاربة إلى الاهتمام بالبحث في “سبب وفاة الرسول” بدل الاهتمام بدوره وقيمه وثورته الثقافية والسياسية في شبه الجزيرة العربية، وهنا لا بد ن نميز بين حرية البحث وواجب الإعلام. إن البحث في “سبب وفاة الرسول العظيم” هو ما جعلته أسبوعية “الأيام” ملفا لها من خلال قراءتها لكتابين استشراقيين، وهو ما ليس من شأن عامة الناس ابدا. (العدد 883) (6): جلال اعويطا، متطوع مكة، الطبعة الأولى، 2020، ص 8. (7): نفسه، ص 7. (8): نفسه، ص 13. (9): نفسه، ص 32. (10): نفسه، ص 53. (11): نفسه، ص 72. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة 1. مُتطوع مكة